Take a fresh look at your lifestyle.

قراءة فنيّة في.. خطبة الزهراء(عليها السلام)

0 2٬430
                  فاطمة الزهراء(عليها السلام) ذلك الصوت المحمدي الهادئ كالنسيم في لحظات الوداعة والهادر كالسيل في ساعات الشدة لم يقدر لحزن فقد أبيها(صلى الله عليه وآله) أن يطفئ جذوته رغم أنه ثقيل لا يحتمله قلب فاطمة(عليها السلام) الذي تعود أن يخفق في ظله.
جاءت خطبة الزهراء(عليها السلام) إعلاناً مدوياً يشبه إعلان أبيها(صلى الله عليه وآله) في مكة غير أنه هذه المرة في المدينة، الكلمات كحد السيف والحروف صواعق محرقة والصور التي رسمتها سلام الله عليها ثورة مبكرة على رؤوس الانقلابيين الذين سلبوا ارث زوجها أمير المؤمنين(عليه السلام) في حقه بخلافة ابن عمه(صلى الله عليه وآله) ثم عادوا يسلبون نحلة أبيها لها فدكا، وكانت فدك الباعث على إعلاء صوت فاطمة والقشة التي قصمت ظهر البعير كما يقال، تذكر مصادر التاريخ(1) إنه لما بلغها إجماع أبي بكر على منعها فدكا وانصراف عاملها منها أقبلت تطأ أذياله وقد لاثت خمارها على رأسها وقد حف حولها المهاجرون والأنصار فنيطت بينها ملاءة وخطبت في ذلك الجمع الخطير تلك كانت مناسبة الخطبة التي أود ـ على استحياء ـ إلقاء الضوء على جوانب فنية بلاغية منها وذلك في ثلاث صور رسمتها الزهراء(عليها السلام):
الأولى: صورة أبيها محمد(صلى الله عليه وآله).
الثانية: صورة علي بن أبي طالب(عليه السلام).
الثالثة: صورة العرب قبل الرسالة المحمدية.
الأولى: صورة الرسول الأعظم(ص):
قالت الزهراء(عليها السلام) تصف أبيها(صلى الله عليه وآله): (أيها الناس اعلموا أني فاطمة وأبي محمد(صلى الله عليه وآله) أقول عوداً وبدءا ولا يقول ما يقول غلطا ولا يفعل ما يفعل شططاً) لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) فإن تعزوه وتعرفوه وتجدوه أبي دون نساءكم وأخا ابن عمي دون رجالكم ولنعم المعزى إليه فبلغ بالرسالة صادعا بالنذارة مائلاً عن مدرجة المشركين ضارباً بثبجهم آخذاً بكظمهم داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة يكسر الأصنام وينكث الهام حتى انهزم الجمع وولوا الدبر حتى تفرى الليل عن صبحه وأسفر الحق عن محظه ونطق زعيم الدين وخرست شقائق(2) الشيطان وطاح وشيظ(3) النفاق وانحلت عقدة الكفر والشقاق وفهمت بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص(4)).
هذه هــي صــــورة الرســول الأعـظم(صلى الله عليه وآله) بملامح الكلام الإلهي استهلت به الزهراء(عليها السلام) وصف أبيها(صلى الله عليه وآله) وقد حرصت سلام الله عليها على رسم صفات في غاية اللباقة لمقامه النبوي الشامخ وكأنها تعلم الأمة كيف تخاطب عظيمها الروحاني فهو مبلغ ومنذر، معرض عن المشركين غير عابئ بما يقدمون له من مغريات، شديد على الكافرين وهو بعد(صلى الله عليه وآله) الداعي إلى الله الحكيم هذه المعاني الجليلة عرضت بأسلوب قوي من خلال:
ـ الموازنة بين الفقرات القصيرة.
ـ السجع العفوي الأخاذ.
ـ الطباق أحياناً.
هذه العناصر أقدر على إخراج هذه القوة من الحماسة والانفعالات الإنسانية لما توفره من رنين موسيقي شديد له أثره من النفوس، هذه الحماسة تبدو قوة صورتها في قولها(عليها السلام) تصف انتشار الإسلام وانتصاره على الشرك (حتى تفر الليل عن صبحه) بهذه الاستعارة الموحي وكأن الليل شيء ما إن تشظت أجزاؤه حتى انبلج عنه فجر الإسلام.
وتقول الزهراء(عليها السلام) في وصف عظمته(صلى الله عليه وآله): (ثم قبضه إليه قبض رأفة واختيار ورغبة وإيثار فمحمد(صلى الله عليه وآله) عن نصب هذه الدار في راحة قد حُف بالملائكة الأبرار ورضوان الرب الغفار ومجاورة الملك الجبار).
يعلق الشهــــيد السيد محمد باقر الصــــدر(قدس سره) علــى وصــف الزهــراء(عليها السلام) بقوله: (تركت النعيم المادي كله لأنها رأت في معاني أبيها العظيم(صلى الله عليه وآله) ما يرتفع عن ذلك كله، وما قيمة اللذة المادية في حساب محمد(صلى الله عليه وآله) الروحي الذي لم يرتفع أحد بالروح الإنسانية كما ارتفع بها(صلى الله عليه وآله)).
هكذا يكون رحيل العظماء غير عابئين بالدنيا منشدين إلى ذات الله، عندها يكون الموت راحة لهم لذلك تجدهم مستبشرين إذا حل بهم.
الثانية: صورة علي(ع):
قالت الزهراء(عليها السلام) في خطبتها أمام المسلمين وهي تعرض صورة علي(عليه السلام): (كلما حشوا (أوقدوا) ناراً للحرب أطفأها ونجم قرن للظلال وفغرت فاغرة من المشركين قذف بأخيه في لهواتها فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ويخمد لهبها بحده مكدوداً في ذات الله قريبة من رسول الله سيداً في أولياء الله وأنتم في رفاهية وادعون آمنون).
صورة علي(عليه السلام) هذه المرة تخطها أنامل الزهراء(عليها السلام)، وهي أول صورة تعرضها الزهراء(عليها السلام) بعد الرسول(صلى الله عليه وآله) لإيقاظ الضمائر، بطولة من أجل الله ورسوله(صلى الله عليه وآله) شهدت لها المواقف إنه حامي رسول الله(صلى الله عليه وآله) وحامل لوائه، بطولة حرصت الزهراء(عليها السلام) في رسمها على أن تقدمها ممزوجة بهذا العشق الإلهي المحمدي عندما تذكر بقولها (قذف بأخيه) ففي كلمة (قذف) وضمن هذا السياق تستشف معاني القوة
من شدة السرعة لتوحي للسامع أن يتأمل علياً(عليه السلام) في أوقات الحرب كيف كان شديداً غير هياب ولا متردد، والنبي(صلى الله عليه وآله) بعد يقذف (بأخيه) لا برجل آخر، زيادة في
الثقة وهو حين (يقذف بأخيه) فإنه يقذفه وسط الحرب إمعاناً في إنه هو القادر على إطفائها وتمضي الزهراء(عليها السلام) في وصف هذا البطل العسكري المقدام الذي لا يرجع حتى يدوس بكامل قدمه (بأخمصه) على رأس المشركين زيادة في التمكن والتحقير (صماخها)، ثم تعمد الزهراء(عليها السلام) بالانتقال من هذا الجو الرهيب الصاخب الهالك بالتفات مفاجئ إلى المقارنة، مقارنة صورة الإمام علي(عليه السلام) مع من تخاطب بانتقال في غاية الإيجاز والإيحاء في آن واحد (وأنتم في رفاهية وادعون آمنون).
ولا غرو، ثمة فرق بين من يرمى في لهوات الحرب وبين من يكون مرابطاً في العريش، في الخطوط الخلفية للقتال، وهذا المعنى سيسمعه الناس من الإمام علي(عليه السلام) نفسه في مناسبة جديدة ذلك في قوله(عليه السلام) يصف جهاده مع رسول الله(صلى الله عليه وآله): (ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال وتتأخر فيها الأقدام)(5).
الثالثة: صورة العرب قبل الرسالة المحمدية:
قالت الزهراء(عليها السلام) مذكرة في خطبتها: (وكنتم على شفة حفرة من النار، مذقة الشارب ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطئ الأقدام تشربون الطرق، وتقتاتون الورق أذلة خاشعين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله تعــالى بــــأبــي محمد(صلى الله عليه وآله)).
والصــور متلاحقة متتابعة في رسم حالة الوهن والهزال التي وصل إليها العرب قبل الرسالة المحمدية بتوازن بين الفقرات ورعاية لنهايات الفواصل ودقة في انتقاء المفردات استهلته الزهراء(عليها السلام) باستحضار قرآني وظفته بدقة في مناسبة المقام فهم على شفير
الهلاك (مذقة الشارب) والمذقة الشربة من اللبن الممزوج بالماء وهم (نُهزة الطامع) والنُهزة هي الفرصة المفتوحة للاغتنام وهم (قبسة العجلان) الذي يأخذ من جذوتهم ليشعل لنفسه على عجل، وهذه الكنايات التي ترمى إلى معان أبعد من صورها الحقيقية وهي معاني التشرذم والتناحر والاقتتال الداخلي جعلتهم محل طمع الآخرين وفرص سهلة للاغتنام فهم ليست لهم أدنى أهمية أمام ما يجاورهم من جيوش الأمم التي استعبدتهم ولم تحسب لهم يوماً حساب لذلك كانوا موطئ أقدام الآخرين لا منعة لهم ولا عزة.
إن مناسبة هذه المعاني يبدو وقعها ثقيلاً لأن الزهراء(عليها السلام) خاطب بها قوماً أصبحوا أسياد المنطقة بفضل أبيها(صلى الله عليه وآله) لذلك تستمر سلام الله عليها في حشد صور ذلتهم فهم قبل عهد قريب يشربون الطرق ويقتاتون الورق، والطرق هو الماء الذي بالت فيه الدواب فاصفر لونه، أما الورق فهو الأدم الرقاق
من الجلد غير المدبوغ، لذلك أردفت هذه المعاني بقولها (أذلة خاسئين) فمن كان هذا شرابه وطعامه فهو لا يخشى سطوة الجار الشديد الظالم ويخاف (أن يتخطفه) أحد.
هذه الحياة المذلة كان يمكن لها أن تدوم لولا رسول الرحمة الإلهية الذي أعز شأنهم ورفع قدرهم وأسس لهم دولة الإسلام الجديد التي ما كان ليخطر ببال العربي الجاهل أن يدين له كسرى وقيصر يوماً وهو القائل:
وإذا انتشـــيت فـــــإنني
رب الخورنــق والسديــر
وإذا صحــــوت فــــإنني
رب الشويــــهة والبعــــير
هكذا بعد أن تستعرض الزهراء(عليها السلام) حالهم تذكر بأن الله استنقذهم بمحمد(صلى الله عليه وآله)، وتأتي بلفظة (بأبي) لتثير ولو أدنى شعور بالجميل أو لتستنهض فيهم مشاعر الإيفاء بمودة القربى التي أمروا بها من قبل ومن جانب آخر كان عليها السلام تحذرهم من تنكرهم هذا وانقلابهم الذي سيعود بهم إلى مربعهم الأول (شفير الهلاك) وسيوقف عجلة الزمن مهما طال السرى.
نشرت في العدد 12

(1) وردت هنا خطبة الزهراء(عليها السلام) بصورة مقطعة اعتمدنا على: الاحتجاج، الطبرسي، 1/132، بلاغات النساء، ابن طيفور، ص12.
(2) الشقائق: الشقشقة، لهاة البعير، لسان العرب، ابن منظور، 10/185.
(3) وشيظ: قطعة عظم تكون زيادة في العظم الصميم وقيل هو الدخيل من القوم، لسان العرب، ابن منظور، 7/465.
(4) الخماص: خماص البطون، خفاف الظهور ـ أي أنهم أعفة عن أموال الناس ـ، لسان العرب، ابن منظور، 4/310.
(5) نهج البلاغة خطب الإمام علي(عليه السلام)، 2/171.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.