Take a fresh look at your lifestyle.

قراءات في وصية الزهراء * الحجـاب الإسـلامي ودور المرأة في بناء المجتمع

0 2٬060

سماحة السيد محمود المقدس الغريفي
أستاذ في الحوزة العلمية

                          الإسلام دين الحياة الكريمة، والنبل والفضيلة، احترم الإنسان وكرمه وجعله خليفة الله في الأرض وحمله مسؤولية بناء المجتمع الصالح، وكما ألقى على عاتق الرجل هذه المسؤولية فقد جعل للمرأة دوراً مهماً في عملية البناء والتكامل، إضافة لذلك فقد جللها بالاحترام واعتنى بها عناية فائقة بعد ما كانت مهملة الروح، تملك لإشباع الغريزة الجنسية، وتُسخر للعمل كالبهائم، وتعامل بقسوة ووحشية، وتساق إلى الابتذال وعدم الحشمة كالسلعة المعروضة للنظر والاستمتاع والتملّي بمفاتنها.
وكان من أسمى أهداف الإسلام، إكرام المرأة ، والحفاظ على حرمتها وكيانها واستقلالها، وجعلها كالجوهرة النادرة الجميلة التي يجب وضعها دائماً في المكان المصون وان تحفظ في الوعاء المأمون ، وان لا تخرج للعيان كالبضاعة المستهلكة، ولكن عند الضرورة أو لغرض صحيح مع رعايتها والمحافظة عليها من الكسر أو الثلم، أو صونا لها أن تمسها يد ملوثة، أو تقع عليها أنظار اللصوص فيعمدون إلى اصطيادها وسرقتها، أو خلطها مع مثيلاتها الزائفات الملوثات فتضيع بينهن ولا تعرف قيمتها الحقيقية، بل ولشدة حرص الإسلام على المرأة وصوناً لكرامتها فقد انزل الله عز وجل العديد من الآيات المباركة التي شرعت لها ما يحفظ عزتها وكرامتها، وتقواها ونبلها، وحقوقها وكيانها، ومن أهمها آيات الحجاب التي تصون وقارها وحشمتها وعفتها وعرضها.
هذا التشريع الذي حرص عليه رسول الله(صلى الله عليه وآله) كل الحرص، وأخذ بترسيخه في المجتمع وكسر الأعراف الجاهلية المتوارثة؛ وطبقت بنوده وأهدافه عمليا بنت الرسالة، فاطمة الزهراء(عليها السلام)، قدوة المرأة المسلمة بأعظم تطبيق وأروع التزام، وأعدت منهجاً رسالياً عملياً في بناء الحياة المستقرة الهانئة، ملؤها التقوى والإيمان والصلاح والعفة للمرأة في جميع مفاصل حياتها وسلوكها فكانت بحق مدرسة رسالية وبامتياز سيدة نساء العالمين لا عن فراغ في شخصيتها بل بجدارة واستحقاق من خلال نضالها والتزامها بالنهج القويم الذي رسمه الله عز وجل للمرأة في القرآن الكريم ورعاية أبيها محمد(صلى الله عليه وآله) رسول الله وصيانة بعلها أمير المؤمنين علي(عليه السلام).
ومن هنا نقرأ : ما ورد في الأثر عن أبي الزهراء، رسول الله(صلى الله عليه وآله): إن أفضل مكان للمرأة هو دارها لأن البيت إذا أعد إعدادا صالحاً فسيكون الحافظ لهويتها كامرأة، وحريتها كأنثى، بل يكون مركزاً لانطلاقها في المجتمع كإنسانة،إذ انه(صلى الله عليه وآله) لا يدعو في إرشاده أن يمثل البيت دائرة مغلقة في حياة المرأة، تعيش فيه كالسجينة بلا نشاط وتتخذه مكاناً للراحة والاسترخاء، أو مطعماً ومأوى لها ولأسرتها فقط، وإن كان تهيئة هذه الأمور من جملة نجاح المرأة في حياتها، ولكن ليس هذا كل شيء أُريد لها، بل لابد أن تكون الدار منفتحةً على عالمها الخارجي ومحط انطلاقتها للحياة بشخصها، أو إعدادها وتأهيلها ليصبح مدرسة تربوية بناءة لإعداد أبنائها وبناتها وذويها وتهيئتهم وإعدادهم لتكوين جيل مسلم صالح له هدف واضح يسعى له في الحياة الكريمة.
إن بيت المرأة يمكن إعداده منتدى معرفياً لبنات جيلها وأخواتها المؤمنات للمدارسة والتحاور وتداول الأفكار والمعرفة الإسلامية وترسيخ شعيرة المجالس الحسينية البيتية، بعيداً عن المظاهر الفارغة والعمل الدنيوي الذي يصحبه الرياء والسمعة، ومن وحي هذا الفكر أجابت الزهراء(عليها السلام) عن سؤال رسول الله(صلى الله عليه وآله) لأصحابه: (متى تكون المرأة أدنى من ربها؟ فلم يدروا، فلما سمعت فاطمة(عليها السلام) ذلك ، قالت: أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر بيتها، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): إن فاطمة بضعة مني)(1).
وفي سؤال آخر لرسول الله(صلى الله عليه وآله) روي انه قال لفاطمة(عليها السلام): أي شيء خير للمرأة (للنساء)؟ ـ وكم سائل عن أمره وهو عالم ولكن أراد(صلى الله عليه وآله) أن يعرّف بفضلها وعلمها ـ قالت: خير لهن أن لا يرين الرجال ولا يرونهن، فقال(صلى الله عليه وآله) إنها بضعة مني؛ وفي رواية أخرى قالت(عليها السلام) أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل، فضمها(صلى الله عليه وآله) إليه وقال: ذرية بعضها من بعض(2).
إن إرشاد الزهراء(عليها السلام) هذا، وقول رسول الله(صلى الله عليه وآله) على لسانها لأنها بضعة منه وذرية بعضها من بعض، لأنها الأعرف ببنات جنسها، والأقرب إلى تفكيرهن، والأكثر إطلاعاً على دواخلهن والآنس برغباتهن فهي(عليها السلام) العالمة المُعِلمة. على إنه لا يفهم من كلامها(عليها السلام) الرؤية بالمعنى الحقيقي للرؤية إذ تظافرت لدينا الكثير من الأخبار إن الزهراء(عليها السلام) كانت ترى الرجال وتحادثهم وبالعكس، وإن رؤية الرجل للمرأة والمرأة للرجل مكفول في الشريعة الإسلامية،مادام في ضمن حدودها ولم يخرج عن آدابها.
ولكن المراد هنا المعنى المجازي للرؤية والتي تجر إلى الاختلاط الفارغ المبتذل بين الرجل والمرأة غير الهادف والذي يورد الشبهة ويجر إلى الفتن، والوقوع في المعصية والذي يؤثر سلباً في النفسية الإنسانية للرجل والمرأة من الريبة وخواطر الشيطان فيؤثر سلباً في روحيهما.
فالزهراء(عليها السلام) أرادت من كلامها هذا النوع من الرؤية وهذه الصورة من الاختلاط، ولكن لا يحمل قولها(عليها السلام) تعبيراً عن حكم شرعي إلزامي للمرأة إذ نراها(عليها السلام) ونساء النبي(صلى الله عليه وآله) وكثيراً من نساء المسلمين كن على اختلاط مع الرجال في المسجد والحروب والسفر وغيرها ولكن في ضمن حدود تكفلها الشريعة المقدسة وآدابها من الحشمة والحجاب والاحترام.
وكما قلنا إن هذا لا يمنع المرأة من ممارسة عملها الديني والاجتماعي والتعليمي في زيادة الوعي لبنات جلدتها في دارها على شكل منتديات علمية معرفية تثقيفية، أو تدال بين دور نساء محلتها وما شاكلها حسب المقتضيات والمعطيات الزمانية والمكانية والبيئية، إذ كانت دار الزهراء(عليها السلام) مدرسة تثقيفية لنساء المهاجرين والأنصار يقصدنها ويطلبن منها العلم والتفقه في الدين وتعلم أحكامه، مع سعة صدرها لهن وترغيبهن في العلم والسؤال، ومن ذلك ما روي إن امرأة جاءت تسأل فاطمة(عليها السلام) مسائل علمية فأجابتها فاطمة(عليها السلام) عن سؤالها الأول وظلت المرأة تسألها حتى بلغت أسئلتها العشرة، ثم خجلت من الكثرة، فقالت لا أشق عليك يا ابنة رسول الله، فقالت فاطمة(عليها السلام): هاتي وسلي عما بدا لك، إني سمعت أبي يقول إن علماء أمتنا يحشرون فيخلع عليهم الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدهم في إرشاد عباد الله(3).
ويكفي المرأة أن تكون امرأة رسالية في إعدادها لبناتها وبنيها وتجعل من أسرتها نواة صالحة في المجتمع.
وعلى هذا يمكن القول إن أفضلية البيت وعدم الاختلاط بالرجال من جهة الحكم الأولي بالنسبة للمرأة.
أما إذا اقتضت الضرورة أو استقر الواجب الشرعي في دائرة المجتمع الإسلامي وغاب الوعي، وعم الجهل، وقلّ الناصر، وفرض الواقع صوراً مقلقلة في بناء المجتمع الإنساني وانحراف القيم الأصيلة فيه، فهنا على المرأة المسلمة الواعية المحصنة أن تشارك في بناء الواقع الاجتماعي العام وتركيز دورها وفعاليتها فيه، وإسماع صوتها وتفعيل ممارساتها في البناء والتقويم والعمل خارج البيت خصوصاً في بناء النشاط النسوي وتوعيته في ضمن الحدود الشرعية للعمل والإدارة؛ على إن الضرورات تقدر بقدرها، وفي ضمن حدود مكانها وظروف زمانها، وتحركها المسؤول، وأن تتأطر حركتها خارج البيت في أطار الصورة الإسلامية وآدابها، حاملة كل معاني العفة والحشمة والوقار بما يليق بالمرأة المسلمة ومكانتها التي حفظها لها الإسلام، وبالخصوص في دور مخالطتها للرجال وفي بناء الشخصية الإيمانية في مجتمع طاهر.
ومن هنا يمكن اعتبار خروج الزهراء(عليها السلام) إلى مسجد أبيها بعد وفاته(صلى الله عليه وآله)، بعد ظلمها وغصب حقها إنما كان لإلقاء الحجة وإقامة الدليل على الحكومة القبلية القائمة ورئيسها، بعدما غُيّرت الثوابت وعُمِل بالآراء والأهواء، وجرى الحكم القبلي على الحكم السماوي إذ غصبت الحقوق وتُجُووزت الحدود وغُيّرت السنن والفرائض، ومن ثم طافت على دور المهاجرين والأنصار مستنهضة هممهم، مستصرخة بهم، آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر (يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين)(4)، (ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور)(5).
ولكن بعد أن يئست منهم، وأيقنت نكوصهم عن الحق، وبختهم على رضاهم بالباطل ومخالفة حكم الله عز وجل واستسلامهم له وسكوتهم عليه (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها)(6)، (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم)(7)، (والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين)(8).
فيمكن القول إن ضرورة الخروج من البيت والاختلاط مع الرجال من جهة الحكم الثانوي بالنسبة للمرأة.
ومن هذا الموقف أيضاً نستوحي الشرعية لحركة المرأة المسلمة، ومشاركتها في العمل الجهادي والسياسي بالأطار الإسلامي ضمن الدرس الرسالي الذي رسمته الزهراء(عليها السلام) للمرأة المسلمة منهجاً حياً وطريقاً واضحاً، وسلوكاً صادقاً في هدفها وكلامها، بل حتى في طريقة خروجها من الدار، حيث ذكرت الرواية: أنها(عليها السلام) لاثت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها وأقبلت في لُمة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها (تجر أدراعها، تطأ ذيولها خ) ما تخرم مشيتها مشية رسول الله(صلى الله عليه وآله) فدخلت (أي المسجد) عليه وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم فنيطت دونها مُلاءة (فضرب بينهم بريطة بيضاء، وقيل قبطية خ)(9).
انظر وتأمل إنها صورة رائعة في احتشامها الذاتي واحتشامها الخارجي، أما الاحتشام الذاتي فتمثل في الخمار على الرأس، واشتمالها بجلبابها وهو الإزار والرداء أو الملحفة التي تغطي الرأس والبدن بأجمعه ـ بما يوازي العباءة النسائية حالياً ـ، تجر دراعها والدراع والدرع ثوب المرأة يشمل جميع البدن يلبس فوق القميص ـ والظاهر ما يوازي بما يسمى الجبة الإسلامية أو العباءة الإسلامية حالياً ـ، والجلباب الساتر والدرع عادة يكون فضفاضاً حتى يكون أبعد عن الإثارة في بروز مقاطع وتقاسيم جسد المرأة وأدعى للستر والحشمة، تطأ ذيولها كناية عن طول ملابسها لأنها أتم للستر وأحفظ للبدن من ظهور أي جزء من بدنها الشريف.
أما احتشامها الخارجي، إذ إنها خرجت في لمُة من حفدتها أي الجماعة من الثلاثة إلى العشرة من الأعوان والخدم، إن خروج المرأة مع غيرها من النساء أستر وأحفظ وأوقر وأكثر صوناً وتحصيناً لها من المخاطر، فضلاً عن الهدف الأسمى في عدم تشخيصها وتمييزها خصوصاً إذا كانت من ذوات الشرف والمقام الرفيع كالزهراء(عليها السلام)، ولا يقع النظر على امرأة بعينها، إضافة للقضايا المعنوية التي تهز الخصم وتربكه وكأنها تظاهرة نسوية.
فنيطت دونها ملاءة أي علق دونها والقوم إزار، أو ريطة وهي ملاءة ليست ذات قطعتين مُتضامتين كلها نسيج واحد وقطعة واحدة وهذا أقرب للستر والوقار فلا تكون في معرض النظرة المباشرة، وتشخص وتعرف من منطقها وكلامها، وهذا من الآداب الإسلامية العالية عند اجتماع الرجال والنساء إن لم نقل على سبيل الاستحباب مما يستفاد من قوله تعالى: (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب)(10) إلا إن القدر المتيقن من الآية هو حجاب المرأة الخاص الذاتي لأنها يحرم عليها الاختلاط مع الرجال بدونه، والسيرة جارية على ذلك منذ العصر الأول للرسالة في صلاة الجماعة والسفر للحج وأعماله والخروج للغزوات وغيرها.
كما نستوحي من خروج الزهراء(عليها السلام) إلى المسجد وطرح ظلامتها أمام المجتمع الإسلامي بكافة فصائله، حيث يعد المسجد حينها أقوى واجهة إعلامية لتجمع الناس فيه بمختلف توجهاتهم وآرائهم الشخصية والاجتماعية، على جواز استفادة المرأة من الوسائل الإعلامية الحديثة بكل صورها المباحة مع الاحتشام والوقار والالتزام بالآداب الإسلامية، لعرض آراءها وأفكارها وبيان الحقائق، وكشف الزيف والأباطيل وفضح الظلم والظالمين والمطالبة بالحقوق، إضافة لتوعية الناس وإرشادهم.
إن الزهراء(عليها السلام) أرادت أن تصور للمرأة المسلمة الاحتشام الإسلامي بكل صوره وأعلى مصاديقه متجسداً على الواقع لا كلاماً، وتأكيداً وترسيخاً لا شعاراً، وما هذا إلا زيادة في الاهتمام به ومزيد الاعتناء بصورته، وعمق الهدف السامي في تفعيله على أرض الواقع وإلا فإن الواجب الشرعي للحجاب أقل من هذا فاللباس الشرعي المحتشم الذي يفرضه الإسلام على المرأة هو أن تستر جميع أجزاء بدنها ماعدا قرص الوجه والكفين، وعدم إبراز مفاتنها التي تثير الغرائز، وإن يكون لباسها فضفاضاً معتاداً لا صارخاً يلفت الانتباه ويركز النظر عليه.
ولكنها(عليها السلام) رسمت أعلى القيم في العفة والطهارة وأرسلت أغلى الدروس لبناتها من خلال سيرتها وسلوكها، ومن روائع دروسها، ما روي عن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) أنه قال استأذن أعمى على فاطمة(عليها السلام) فحجبته، فقال لها النبي(صلى الله عليه وآله) لِمَ تحجبين (حجبته) وهو لا يراك؟ قالت: يا رسول الله(صلى الله عليه وآله)، إن لم يكن يراني فإني أراه، وهو يشم الريح، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): أشهد أنك بَضعة مني(11)، وهذا مصداق لقوله تعالى: (قل للمؤمنات أن يغضضن من أبصارهن)(12).
فإن النظرة المباشرة سهم من سهام إبليس مسموم وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة كما جاء عن الصادق(عليه السلام)(13) وقد ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): (اشتد غضب الله تعالى على أمرأة ذات بعل ملأت عينها من غير زوجها)(14) فالمرأة العفيفة تتجنبها خصوصاً مع احتمال الريبة والفتنة، كما يجب أن يتجنبها الرجل العفيف لأنها تورث الندم والحسرة.
وفي هذه الرواية أشار إلى أن الدار هي محل أنوثة المرأة وزينتها وتطيبها بما لا يسعها خارجه، إذ المرأة الأنثى مكانها ليس بين المجتمعات ولا في الشوارع والطرقات ولا بين الرجال، بل حرمها بيتها، وحصنها زوجها، وطهرها بعدها عن الناظر، ومخدعها حلبة أنوثتها، لأن كرامة المرأة عفتها وعفافها، ودرعها حجابها وحصنها استقامتها فإذا تخلخل من هذا شيء اهتزت صورتها في المجتمع الإنساني السليم، وخسرت مبدأها وعقيدتها في المجتمع الإسلامي، ومن هنا رسمت الزهراء(عليها السلام) صورة حية للإنسانة الكريمة والمرأة المسلمة صاحبة المبدأ والعقيدة والإلتزام والمسؤولية، حيث تمثل(عليها السلام) النموذج الأمثل والقدوة الحسنة لحركة المرأة الرسالية ودورها في العمل والتبليغ والإعداد الرسالي على القيم والفضائل الإسلامية بما تملكه من الفيض الروحي والعطاء المعنوي والسمو الملائكي الذي تمثل غاية الطهر والنقاء.
وكانت آخر رسائلها من أروع لوحاتها، وأعظم درسها في عفة المرأة المسلمة وطهارتها في التاريخ الإسلامي بل الإنساني، حينما عبرت عن أنبل إحساس وأسمى موقف بوصيتها المباركة في الحفاظ على هيئة جسدها الطاهر وتقاسيمه من البروز للناظرين بعد الموت، وأثناء التشييع، فأرادت أن تكمل مشوار حياتها بأصدق وأكمل الخطوات في السير على النهج الرسالي والعمل في سبيل الله عز وجل في أجمل وأغلى صورة رسمتها للنعش المبارك وأوصت به أمير المؤمنين علياً(عليه السلام) من جملة وصاياها الشريفة، حيث قالت(عليها السلام): (أوصيك يا ابن عم أن تتخذ لي نعشاً فقد رأيت الملائكة صوروا صورته، فقال لها(عليه السلام): صفيه لي، فوصفته فاتخذه لها)(15).
وفي رواية: أنها(عليها السلام) قالت لأسماء بنت عميس: (إني قد استقبحت ما يصنع بالنساء (أي بعد الموت) إنه يطرح على المرأة الثوب فيصفها لمن رأى، فقالت أسماء: يا بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنا أريك شيئاً رأيته بأرض الحبشة، فدعت بسرير فأكبته لوجهه ثم دعت بجرائد فشدتها على قوائمه ثم جللته ثوباً، فقالت(عليها السلام): ما أحسن هذا وأجمله لا تعرف به المرأة من الرجل، اصنعي لي مثله استريني سترك الله من النار)(16).
وأياً كانت الرواية فإن نعش فاطمة الزهراء(عليها السلام) كان أول نعش يعمل في الإسلام(17) وإنها(عليها السلام) لم تُر مبتسمة بعد وفاة أبيها(صلى الله عليه وآله) إلا يوم رأت صورة نعشها(18). حيث رفع جزء من المعاناة والهم الذي كان يعتلج في صدرها ومكابدات النفس في حال الكشف عن تقاسيم جسدها الطاهر أمام الرجال عند تشييعها بعد الوفاة، وهي التي حافظت عليه بعفة وطهر بكل يقين وإخلاص إيماناً برسالتها طيلة حياتها الزاكية القصيرة وأطرت هذه اللوحة الرائعة حين أوصت(عليها السلام) (وادفني في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار)(19)، لأن الليل ساتر بظلمته، ساكن بوحشته.
هذا هو الاصطفاء النفسي، والكمال الروحي، والإعداد الرسالي، لامرأة رعتها السماء، ونشأت بين يدي خاتم الأنبياء(صلى الله عليه وآله)، ونهلت من سيد الأوصياء(عليه السلام) فكانت بحق سيدة النساء(عليها السلام).
ويمكن القول إنه لا يمكن الوصول إلى كمال الزهراء(عليها السلام) وعلو درجتها وشرف منزلتها وسمو سلوكها وقمة عطاءها؟، إن الزهراء(عليها السلام) أرادت من هذه اللوحات الرائعة التي رسمتها أن ترسل رسالة قدسية إلى كل امرأة من بناتها أن تضع قدمها على أول السلم بصدق وإيمان وإخلاص ثم ترتقي، فبالورع والاجتهاد ربما تصل إلى قمة من قمم الكمال الإنساني والإسلامي (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)(20).
نشرت في العدد 12

(1) بحار الأنوار، المجلسي، 43/ 92.
(2) مناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب، 3/119، حلية الأولياء، الأصبهاني، 2/40.
(3) المجالس السنية، الأمين العاملي، 5/130.
(4) سورة آل عمران/ الآية:114.
(5) سورة الشورى/ الآية:24.
(6) سورة يونس/ الآية:7.
(7) سورة التوبة/ الآية:93.
(8) سورة التوبة/ الآية:62.
(9) الاحتجاج، الطبرسي، 1/130، كشف الغمة، الاربلي، 2/109.
(10) سورة الأحزاب/ الآية:53.
(11) دعائم الإسلام، القاضي نعمان، 2/ 214.
(12) سورة النور/ الآية:31.
(13) سفينة البحار، القمي، 2/596.
(14) المصدر السابق.
(15) روضة الواعظين، النيسابوري، ص151.
(16) تهذيب الأحكام، الطوسي، 1/469، كشف الغمة، الأربلي، 2/126.
(17) تهذيب الأحكام، الطوسي، 1/469، مستدرك الوسائل، النوري، 2/359.
(18) كشف الغمة، الأربلي، 2/126، ذخائر العقبى، الطبري، ص57.
(19) روضة الواعظين، النيسابوري ص:151.
(20) سورة التوبة/ الآية:125.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.