الخطابة: فن اشتهر عند العرب وغيرهم في الجاهلية والإسلام، فقد كانت أفضل أداة يتمكن بها الخطيب من استطلاع رؤى الناس وتثقيفهم وتقويمهم، إذ كانت وما تزال الواسطة الفضلى في نشر الدعوة تبليغ الحجة وبث الموعظة والحكمة.
وقد كانت الخطابة تنافس الشعر ولعلها أجل منه وأقدس وأقوى أثراً إذ أنها أخذت مذهب التأثير والإقناع. والخطابة هي سر من أسرار مستودعات البلاغة ومجامع الحكم، بها تفاخرت العرب في نزالاتهم ومشاهدهم وبها نطقت الأنبياء والأئمة والخلفاء والأمراء على منابرهم، ولذا من هنا جاء اهتمام العرب بها واعتنائهم بمسارها فكانت عندهم أكثر حظاً من الشعر.
وبالحق أن الخطابة من أعظم الآلات السياسية والدينية والعلمية، فإنها الواسطة للتأثير في العقول والقلوب، فكأنها سوط يساق به إلى الأعمال أو قيد يقيد به الناس، ولها في الأديان والسياسات حوادث ذات أهمية جاءت بانقلابات عظيمة وتغيرت بها أحوال كثيرة.
ولما كانت الخطابة الوسيلة الفعالة من وسائل الإقناع والإبلاغ الشفهي القوي التأثير في إدراك الناس وسلوكهم، ولما كانت المرحلة تتطلب الدعوة إلى الدين الحنيف والحث على مقدساته ومعتقداته الأساسية، إذ كان لابد من أن تشمر لها سواعد توقف ذلك الزحف البغيض من التعدي على حقوق هذا الدين وترد مزاعم المأجورين في ذم مقدساته، وتوضيح الصورة الصحيحة والرسالية لتاريخنا الإسلامي الناصع.
فكان الخطيب محور الأمة وقطب رحاها ولسانها المعبر عن أفراحها وأتراحها، فقد عرف العلة والمزاج فكان هو العدة والعلاج، إذ استسقى ثقافته من أفضل مصادر التاريخ وأنقاها، وتحرى عن المعاني والألفاظ من مراجعها الأصلية، وريض لسانه وعقله وجسمه من عناصر الثقافة الحديثة.
وما على الخطيب إلا أن يمرن نفسه عليها بالإنشاء والإلقاء والمناظرة زمناً طويلاً من طفولته إلى كهولته ليمتلك بحق ناصية الخطابة الحرة.
فكان خطيبنا ومترجمنا ممن اتصف بهذه الصفات وتشكلت بشخصيته صفات الخطيب البارع، فكان في الخطابة الحسينية فارسها ومودع سرها دون منازع، ذلك هو الشيخ عبود النويني الغراوي.
اسمه وولادته وأسرته
هو الشيخ عبود بن الشيخ مهدي بن الشيخ محسن بن الشيخ محمد بن ناصر بن قاسم النويني الغراوي. وآل غرة هم قبيلة كبيرة منتشرة في الفرات ودجلة إذ أنهم من الطوائف العراقية القديمة نزحت من نجد الى العراق في القرن التاسع الهجري، ترجع نسبها إلى الخزرج، وأول نزوحهم كان إلى مدينة العمارة (ميسان) ثم هاجرت ثلة منهم إلى الفرات، ثم قطنت هذه القبيلة النجف الأشرف في أواسط القرن الثالث عشر، شعارها الزهد والورع والتقوى ولا تزال متمسكة بعروبتها لم تحتفل بالطوارئ وتقلبات العصر،
وقد انشطرت شطرين، شطر عرف بـ آل (النويني) وشطر بقي على نسبته آل (الغراوي) ومترجمنا هو من الشطر الأول، وقد عرف بالنويني نسبة إلى الشيخ مهدي والد مترجمنا إذا كان جهوري الصوت من الذاكرين يردد في قراءته وكان حسن الصوت، فعند قراءته كان (يأن) فأطلق عليه باللسان الشعبي (النويني) ونقل عن معاصري الشيخ مهدي أنه كان يقرأ في أيام الصيف على سطوح الدور فيسمع صوته في جميع محلات النجف الأربعة وتخترق نبرات الأسماع من أبعد الأماكن، فلهذا أصبح هذا اللقب عنواناً لهم فيما بعد .
ولد مترجمنا الشيخ عبود في يوم 3 ذي القعدة من عام 1309هـ – 1892م.
كان والده الشيخ مهدي، أحد خطباء عصره ـ بحق ـ إذ اتسم بالورع والتقوى والفضيلة، وقد أعقب الشيخ مهدي أولاداً عدة كلهم خطباء مجيدون لهم المكانة السامية، أولهم وأكبرهم سناً هو الشيخ صالح المتوفى سنة1361هـ والثاني وأوسطهم خطيبنا المترجم وثالث أصغرهم الخطيب الشيخ حسن.
أما أسرة مترجمنا، فقد تزوج الشيخ وأنجب ثلاثة عشر ولداً وخمسة بنات، وأكثر الأولاد اتجه الى الخطابة، وأشهرهم كان الشيخ هادي النويني.
المرحوم الخطيب الشيخ هادي نجل المرحوم الشيخ عبود النويني (رحمهما الله)
نشأته العلمية والخطابية
نشأ مترجمنا، نشأة علمية بحتة، في أحضان والده، فبعد أن بلغ السنة الثاني عشر من عمره وبعد أن أتقن بعض المقدمات في العلوم الدينية على والده، أخذ بدراسة مقدمات العلوم عند فطاحل علماء زمانه منهم الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء والشيخ علي الشرقي والسيد الخطيب صالح الحلي والسيد عبد الغني الزاملي.
وفي فترة دراسته لهذه العلوم الدينية كان يدرس الخطابة على يدي والده الشيخ مهدي إذ حضر معه جميع مجالسه في النجف وخارجه فتلقى فنون الخطابة والفصاحة، إذ كانت لديه القابليات الجمة في حفظ القصائد الطويلة والأحاديث النبوية الشريفة وخطب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة حتى أصبح قادراً على نظم الشعر القريض والعامي في آن واحد. فأما الأول فقد كان ينظمه في المناسبات فقط، وأما الثاني فإنه كان كثير النظم فيه.
صفــاته
إلى جانب تفننه في الخطابة عرفت للشيخ صفات خلقية وخُلقية فقد كان(رحمه الله) طويل القامة أسمر اللون رقيق الشفتين ، طويل الوجه عيناه واسعتان وبراقتين ذات نظرة حادة تدل على ملامحه على أنه شخص كثير الثقة بنفسه وكثير الاطمئنان من قدرته، متواضع بعيد عن الغرور، ذو أخلاق عالية، إذ عرف بورعه وتقواه وهو أحد الأتقياء المعروفين من الخطباء. وقد عرف بابتعاده عن الصغائر والتوافه من الأمور، ولمس ذلك الناس والأفراد الذين أساءوا إليه، فحين يلتقونه لا يجدون في نفسه شيئاً من الغل مما حدث لهم إذ كان سريع العفو منهم.
وقد أشار الشيخ شاكر القرشي (حفظه الله) إلى بعض كلماته إذ يقول في حقه: (يرى أن النجاح والتفوق في الحياة لا يتم (بالحيلة والخداع) بل يكون النجاح بالعمل الجاد والتواضع، وأن يعمل على خدمة المجتمع الذي يعيش فيه وأن يقدم كل ما يملك من معلومات إلى هذا المجتمع لغرض الاستفادة منه وعدم احتكار هذه المعلومات).
وأما في عمله اليومي، فقد كان قوي العزيمة نشيطاً، يقضي القسم الأكبر من ساعاته بالقراءة والمذاكرة.
آثـــاره
خلف الشيخ(رحمه الله) آثاراً كثيرة في شتى ميادين الحياة العلمية والاجتماعية، فقد كان من كثرة حفظه للشعر وحب قراءته له، خلف ديواناً للشعر العامي ونشرت له بعض المجاميع الشعرية، إلا أنه ومع الأسف الشديد فُقد هذا الديوان وأشعاره تلك ولم يسلم بيتاً واحداً منها، والظاهر أن فقدان هذا الديوان جاء في فترة الانتفاضة الشعبانية التي حدثت في مدينة النجف الأشرف عام 1991م وقام بقمعها الطاغية صدام، بعد دخول الجيش والمخابرات إلى تفتيش هذه المدينة المقدسة، وكذلك فقد كانت له مجموعة في الأخلاق والمواعظ لم تسلم من ايدي العابثين بها أيضاً.
فضلاً عن ذلك فقد احتوى بيته على مكتبة عامرة ضخمة تحوي على كثير من الكتب القيمة والقديمة والمخطوطات النادرة، لذلك تمتع بثقافة متنوعة وواسعة بالعلوم الدينية والأدبية والتاريخية والفلسفية مستفيداً من توفر الكتب النادرة في مكتبته العامرة لديه.
أسلوبه في الخطابة
اتسم الشيخ بأسلوب جميل وجذاب في طرح المادة العلمية في مجلسه، واتخذ طريقة جديدة في البحث العلمي في وقته آنذاك فكان يفتتح كلامه بآية قرآنية أو خطبة من خطب نهج البلاغة، ثم يبدأ بشرحها شرحاً وافياً علمياً متسلسلاً بأهم الآراء التاريخية أو الأدبية ثم يعرج على أهم مباحثها العلمية، فيخرج لها صورة رائعة استوفت كل شرائط منهج البحث العلمي،
ولذا فقد خرجت مدرسته فطاحل الخطباء إذ عُدَّ من شيوخ الخطابة وأساتذة الخطباء تخرج عليه جمع كثير من المبتدئين في وقته وأصبحوا بعده من الخطباء المشهورين حالياً، حتى أن بعضهم أصبح من مقلديه بالصوت والصورة.
وفــاته