على بعد كيلوين متر من مدينة الحلة القديمة وعلى مسار يسار طريق (حلة ـ كربلاء) يقع مشهد الشمس، والآن بعد العمارات السكنية التي شيدت مكان المقبرة الملحقة بالمقام في نهاية السبعينات من القرن الماضي…
وهي المقبرة التي اتخذها بعض أهالي الحلة من السنة لدفن موتاهم، وكذلك الفقراء والمساكين… كما استخدمت غالباً لدفن الأطفال، لأنه كان لا يسمح بدفنهم في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة…
ومن الجدير بالذكر أن نورد ما قاله الشيخ حمادي الكواز حينما توفي له طفل، ودفن في مشهد الشمس فقال في ذلك (سوانح: 1/47):
ليهن محـاني مشهد الشمــس إنــــه ثوى بـدر أنس عنـده بثرى القــــــبر
وكان قديماً مشهد الشمس وحدهـــا فأضحى حديثاً مشهد الشمس والبدر
أما تغسيل الموتى وتكفينهم فكان يتم في مقام الخضر(عليه السلام) الواقع في محلة (الأكراد) التي لا تبعد عن المقام أكثر من ثلاث كيلوات متر… وقد اشتهرت عائلة (آل حارّة) بتشديد الراء بالقيام بهذه المهمة الإنسانية… وهذا يعني أنه لا توجد في (مشهد الشمس) مغتسل… كانت المقبرة عصية في الليل على الكثير من أبناء الحلة اقتحامها ولذلك نسجت حولها حكايات كثيرة، نضرب صحفاً عن ذكرها…
سيج المقام بسياج خارجي له باب واحدة تقع على الشارع، وأنت تلجها مخترقاً النخيل الواقعات على الجانبين حتى وصولك إلى باب المقام وتقدر المسافة بين الباب الخارجية وباب المقام حوالي الثمانين متراً…
ينقسم المقام إلى قسمين بشكل مستطيل:
القسم الأول ما إن تدخله حتى تطالعك حديقة حسنة التنظيم لا تزيد مساحتها عن خمسين متراً مربعاً تقع وراءها الباب المفضي إلى…
القسم الثاني… وأكثر ما يُلفت انتباهك من على جهة اليسار طارمتان رممتا حديثاً على نفقة الأستاذ (أحمد قاضي جبران) وهو سني إذ كانت المقبرة تضم قبور والده وأجداده وأقاربه وكانت قبورهم حسنة العمارة… والطارمة الأولى صغيرة فيها سلم مفض إلى سطح المقام وتلتصق بها مئذنة كانت إلى نهاية السبعينات من القرن الماضي قد تهدم أكثر من نصفها…
ومن العادات التي توارثها أهل الحلة أن نساءهم يذهبن صبيحة يوم الأربعاء إلى المقام ويصعدن إلى المنارة ومن الجزء الأعلي الباقي منها يرمين عباءاتهن طالبات من الله تعالى بحق علي بن أبي طالب(عليه السلام) أن يحقق أمنياتهن لاسيما اللواتي يطلبن الإنجاب أو اللواتي يردن الزواج وغيرها من أمور الدنيا… وبقيت عادة رمي العباءة حتى بنيت المنارة، فانقطعت هذه العادة، ولكن الزيارة بقيت وأخذت تتسع هذه الزيارة لاسيما في آخر أربعاء من صفر… حتى أن الشارع العام والبساتين والمقام والمسجد تغص كلها بالزوار…
ويذكر السيد هادي السيد كمال الدين صاحب كتاب (فقهاء الفيحاء، 1/13) وما بعدها أن المقام في الماضي اشتهر بقبته الذهبية التي لم يبق من ذهبها اليوم شيء…
السيد هادي السيد كمال الدين
أما الطارمة الثانية وهي أكبر نسبياً من الأولى فتشكل المدخل إلى محراب أمير المؤمنين الذي يقع ضمن حجرة مضلعة الشكل، تشكل قاعدة لبناء مخروطي الشكل شارع بناؤه في العهد البويهي وتسمى (الزقورة) ويبلغ ارتفاعها (22) متراً أما ارتفاع المنارة (15) متراً، ولم يتطرق أحد ممن كتب عن المقام تاريخ البناء… ويقد عمر (الزقور) بأكثر من (900) سنة…
فلا عجب إن وجدناها الآن آيلة إلى السقوط لانعدام الاهتمام بها من قبل الأوقاف، ودائرة (مديرية الآثار) إضافة إلى ذلك فقد منعوا ترميم الزقورة أو الاقتراب منها للحفاظ عليها…
وحينما سأل المستخدم الوحيد من قبل الأوقاف المدعو (عودة سلمان) عن هذه الشقوق الموجودة في أعلى الزقورة ومن كل الجوانب أخبرنا أنها حكاية قديمة (فقد أخبرنا دائرة الأوقاف في بابل ومديرية الآثار أكثر من مرة لكن أحداً لم يستمع إلينا حتى قمنا بتصويرها بأقراص ليزرية وسلمت إلى المتولي الشرعي السيد محمد حسين شبر، وبعثها بدوره إلى مكتب السيد السيستاني، ونسخة أخرى بعثت إلى الأوقاف في الحلة وأخرى إلى مديرية آثار بابل ومضت ثلاث سنوات والشقوق تتسع والرد لم يأت…
أما المسجد فيقع في الجزء الثاني من المشهد وكان سابقاً طارمة بسيطة مسقوفة بجذوع النخيل وتوجد حجارة مفخورة خضراء قديمة هي التي تحدد القبلة للمصلي، وبتوجيه من السيد مهدي الشلاه قام الوجيه عبد الرزاق حسان مرجان ببناء الطارمة من الطابوق والشيلمان (الحديد) وكذلك بنى المسجد بناءً حسناً مازال ليومنا هذا وكان المسجد يسمى سابقاً بـ(مسجد الصاعدية). أما الآن فيسمى بـ(مسجد المقام) أو (مسجد مقام الإمام علي(عليه السلام))…
وكان أول مؤذن في هذا المسجد بعد إعماره (الحاج سُميّر) بضم السين وتشديد الياء وكان يدفع له (آل مرجان) راتباً شهرياً جراء خدماته وبعد (الحاج سُميّر) صار الحاج سلمان هو المؤذن وكان معيناً من قبل الأوقاف.
ما قصة تسميته بـ (مرد الشمس)؟
إن قصة (رد الشمس لأمير المؤمنين(عليه السلام) في حياة الرسول(صلى الله عليه وآله) بدعائه وبعد النبي(صلى الله عليه وآله) ببابل مشهورة والروايات والأخبار من كلا الفريقين في ذلك كثيرة، وشعر الشعراء الذي سجل هذه المأثرة أكثر من أن يحصى.
ويذكر صاحب (مستدرك سفينة البحار، 6/ 48) أنه ردت الشمس لأمير المؤمنين(عليه السلام) في زمن الرسول(صلى الله عليه وآله)… أما صاحب (بحار الأنوار) فينقل بأن الشمس تكلمت مع الإمام علي(عليه السلام) سبع مرات. (إثبات الهداة، 5/ 60ـ72).
وجاء في (مستدرك سفينة بحار الأنوار، 6/ 47) أنه لما رجع أمير المؤمنين(عليه السلام) من قتال أهل النهروان في العراق، ودخلوا أرض بابل وجبت صلاة العصر فسأله المسلمون الصلاة فقال لهم: (إن هذه أرض مخسوف بها وقد خسف الله بها ثلاثاً وعليه تمام الرابعة ولا تحل لوصي أن يصلي فيه، ومن أراد منكم أن يصلي فليصلِ…).
وأخرج الحديث في كتاب (صفين) جويرية بن مسهر العبيدي إذ قال: (فتبعته في مائة فارس، وقلت والله لا أصلي أو يصلي هو ولا قلدته صلاتي اليوم، قال: وسار أمير المؤمنين إلى أن قطع أرض بابل وتدلّت الشمس بالغروب ثم غابت واحمر الأفق، قال: فالتفت إليّ ثم قال: أذن يا جويرية. فقلت: يا أمير المؤمنين العشاءين بعد لم تجب، فقال أمير المؤمنين: أذن العصر، فقلت في نفسي أأذن للعصر وقد غابت الشمس؟! ولكن عليَّ الطاعة فأذنت، فقال: أقم، ففعلت، وإذا أنا بالإقامة إذ تحركت شفاهه بالكلام كأنه منطق الخطاطيف لم أفهم ما هو فرجعت الشمس وصرير عظيم حتى وقفت في مركزها من العصر فقام عليه السلام فكبر وصلى وصلينا خلفه، فلما فرغ من صلاته وقعت الشمس كأنها سراج في طشت، وغابت واستبكت النجوم، فالتفت إلي وقال: أذن العشاءين يا ضعيف اليقين). وقعت هذه المعجزة على الأرجح في 17 شوال من عام (38هـ).
ما قاله بعض كتاب ومؤرخي الحلة في مقام مرد الشمس
قال الشيخ يوسف كركوش صاحب كتاب (تاريخ الحلة، 1/ 126) (إن الشمس ذات مرة طلعت بعد ميعادها بساعتين مجاملة للإمام علي الذي تأخر عن موعد صلاة الصبح ذلك اليوم)، ويبدو من كلام الشيخ أنه لم يحف برواية (مرد الشمس) للإمام بهذا المكان، حتى أنه ذكر أن الحدث هو صلاة الصبح والمصادر كلها أشارت إلى أن الحدث هو صلاة العصر.
وفي موضع آخر من الكتاب نفسه ولى صفحة (149) يذكر غير ذلك، قال: (لم نرَ في مدينة الحلة بناية مهمة تلفت النظر قد شيدت في العصر الإسلامي البتة اللهم إلا مسجداً صغيراً شيد في ذلك الوقت في الطريق الذي يصلها بمدينة كربلاء، وهذا المشهد يعرف بـ(مشهد الشمس) و(مسجد علي) وتذكر الروايات المشهورة أن أمير المؤمنين(عليه السلام) قد أشار إلى الشمس لتقف في هذا المكان لإكمال نصره في إحدى حروبه)،
ويبدو واضحاً مدى اضطراب كلامه هذا مع ما جاء على صفحة (126) من الكتاب نفسه. وأرى أنه يميل إلى الرأي القائل بأن (بختنصر) أحد ملوك بابل قد شيد في هذا المكان معبداً لعبادة الشمس… ذكر ذلك على صفحة (149) إذ قال نقلاً عن كتاب قديم كما يدعي يقول (بختنصر) (إنني شيدت في بابل معبداً بالآجر والقار للشمس التي تعد صاحبة السلطة المطلقة والحاكمة الناهية في بلاطي…).
ومن خلال لقاءاتي مع بعض المعمرين من سكنة البساتين المحيطة بالمقام فقد أكد لي أغلبهم بأن هناك طريقاً مرصوفة بالحجارة تمتد من باب المقام متجهة إلى نهر الحلة حيث كان هناك معبر إلى بابل ثم يستمر الطريق إلى بابل، وكذلك من خلف المقام يوجد طريق يماثله يمتد إلى برس (بور سيبا).
أما السيد هادي كمال الدين صاحب كتاب (فقهاء الحلة) فكان أكثر دقة في التعبير من زميله (يوسف كركوش) في هذا الشأن، إذ ذكر في كتابه (وفي الحلة مقام مشهد الشمس الشهير في الماضي بقبته الذهبية التي لم يبق من ذهبها اليوم شيء ويقع هذه المقام التاريخي المقدس على مسافة كيلوين متر تقريباً من الحلة وله قدسيته قبل الإسلام وبعده فإن (نبو خذ نصر) أحد ملوك البابليين قد أقام في موضعه مشهداً تقام فيه طقوسهم الدينية تقديساً لآلهة الشمس،
وشاءت العناية الإلهية أن يكون محل تقديس الشمس موضعاً لتقديس خالق الشمس في مشهد الشمس على يدي أمير المؤمنين(عليه السلام) حينما فاتته فريضتا الظهيرة والعصر وهو في طريقه إلى صفين، وقد اعترف بهذه الكرامة الكثير من علماء الفريقين).
وتعقيباً على ما ذكره السيد نقول أن الكثيرين من علماء الفريقين ذكروا فقط فريضة واحدة وهي (صلاة العصر) كما ذكروا بعد رجوعه من صفين وليس كما ذكر السيد (وهو في طريقه إلى صفين)…
ثم يمضي السيد كمال الدين مناقشاً رأي ما يمنع التصديق بتلك الإعادة فأية مانعة جمع بين إعادتها للإمام في هذا المشهد وبين كونه كان قديماً مشهداً لتمثال آلهة الشمس التي يقدسها البابليون؟!
فهو موضع إلى حدثين متعاقبين يجمعها اسم مشهد الشمس ويختلفان موضوعاً وسبباً كما نعلم أن الكعبة كانت في الجاهلية موضعاً للحج ثم لما جاء الإسلام فرض الحج إليها… فهل يسوغ لعاقل أن يكذب تشريع الإسلام لفريضة الحج بزعم أن هذا الحج كان من أعمال الجاهلية؟! (1/16).
ما قاله الشعراء في هذا الحدث:
ردت علـيه الشمس لمـــا فـــــاته وقت الصـلاة وقد دنت للمغــرب
حتى تبلـــج نورها في وقتهـــــــا للعصـر ثم هـوت هـوي الكـوكب
وعلـــيه قـد ردت ببـــابل مـــرة أخـرى وما ردت لخــالق مغـرب
إلا ليوشـــع أو لــــه من بعــــده ولردهــــا تـــأويل أمر معجــــب
ومن ذلك ما قاله مجد الدين المعتزلي:
وآثــار بالطـعـــام وقد توالـــت ثــــلاث لــــم يذق فيها طعــــاما
فرد علــيه ذلك القرص قرصـاً وزاد عليه فــوق القرص جامــا
ومن ذلك قول ابن أبي الحديد المعتزلي:
يــا من رُدّت ذكــاء ولـم يفــز بنظيرهـا مـن قبـل إلا (يوشـع)
وقوله أيضاً من قصيدة أخرى:
إمام الهدى بالقـرص آثر فاقتضى له القرص ردّ القرص أبيض أزهرا
وقال ابن نما الحلي:
جاد بالقرص والاطوى ملء جنبيــ ــــه وعــــاق الطعــــام وهو سغــوب
فــأعـاد القرص المنــير عليه الــــ ــــقرص والمقــرض الكــرام كسوب
وللشاعر علي بن إسحاق البغدادي قصيدة يذكر فيها حادثة مرد الشمس مطلعها:
يا سـادتي يا آل ياسين فقــط عليك الوحــي من الله هبــط
مكـلم الشمس ومن رُدّت لـه ببابل والغروب منها قد قبـط
ولعل هذا الشيء اليسير الذي مكننا الله تعالى من الموقوف عليه فيه بعض الفائدة نسأل الله التوفيق إنه نعم المولى ونعم النصير