إن هذا التراث العلمي يعبر عن جهود ضخمة بذلتها عقول كبيرة وقلوب أتعبت العيون والأبدان وسهرت الليالي وضحت بالكثير من الملذات الدنيوية، وهاجرت هنا وهناك طلباً للعلم، كل ذلك طلباً لله وخدمة لتراث أهل البيت(عليهم السلام).
لقد علَّم الوحيد البهبهاني طلاب مدرسته على أمرين هما:
الإبداع وقوة المناظرة والمناقشة، على أن يتم هذان الأمران ضمن الحدود المعقولة والمشروعة ولا تتجاوزها لمجرد الرغبة في الإبداع والمناقشة حتى لو تعتمد على أسس معقولة ومشروعة وقواعد مسلمة وأصول موضوعية، والتي منها:
عدم انحصار البحث في المسألة بالتأمل العقلي البحت، بل لابد أن تكون نظراته ناشئة من إحاطته بالأقوال والأدلة في المسألة، وأن تكون نظراته للنصوص خاصة نظرة عرفية وغيرها من العناصر التي يلزم توفرها في الدراسة العلمية المعتبرة.
الميزة التي تتميز بها كتابات الوحيد أنها تربي الطالب والقارئ وتعوده على الفهم العميق للروايات وأقوال العلماء وتقييمها ونقدها دون الشعور بالتسليم المطلق تجاهها.
فحين يقرأ الطالب كتابات الوحيد فإنه يعيش خلالها أجواء علمية ثرة، وعالماً يزخر بالأدلة والآراء والنقاشات، وبعد هذه الرحلة العلمية الطويلة والمضنية والملذة في آن واحد، يخرج وهو يشعر فجأة بأنه تمليك القدرة التي تمكنه من فهم الأقوال والروايات والبحوث والآراء وتقييمها.
فقد وصل فكر الوحيد ومارس تأثيره في حركة النهوض في علم أصول الفقه بسبب تحرره وتجرده من دائرة (الذهنية) التي سببت أزمة الفكر في العصور الحديثة. لقد تحرر فكر الوحيد البهبهاني من هذه النزعة اللاتاريخية وكانت مدرسة كربلاء التي ينتمي إليها عاملاً مساعداً حيث استطاع أن يتحمل قسوة المواجهة ولكن بعد أن انتزع اعترافاً بمكانته العلمية الرفيعة ومؤهلاته.
إن فكر الوحيد البهبهاني وإن ظهر في فترة زمنية معلومة إلا أنه لا يزال فكراً حياً متجدداً، وهو في بعض الساحات كان فكراً سابقاً لأوانه.
فهو أستاذ الكل، العلامة، المجدد، محمد باقر بن محمد أكمل المشهور بالوحيد البهبهاني. وقد ذكر أغا بزرك الطهراني في حديثه عن نسبه أنه ينتهي إلى عشر وسائط من طريق أبيه إلى الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان (ت413هـ)، ومن جهة أمه إلى المجلسي الأول محمد تقي (ت1070هـ)(1).
ومن هنا نراه قد عبر في مؤلفاته عن المجلسي الأول بـ(الجد)، وعن المجلسي الثاني محمد باقر (ت1111هـ) بـ(الخال)(2). وعلى هذا فمترجمنا نشأ وترعرع وانحدر من أبرز وأعرق البيوتات العلمية في الطائفة العلمية، وعرف أيضاً بـ(المحقق الثالث)، و(العلامة الثاني).
وأما لقب الأستاذ الأكبر فهو من الألقاب التي عرف بها عند الفقهاء والعلماء المتأخرين، وكانوا يلقبونه بـ(الآقا) و(الآغا) وهي كلمة تركية تعني باللغة الفارسية السيد، المولى، الكبير(3)، وقد لحق لفظ (الآقا) رجالات هذه السلسلة من الأسرة لشهرة الوحيد البهبهاني به(4).
ومن ألقابه (المؤسس البهبهاني) ولعل السر الذي دعا إلى تلقيب الوحيد البهبهاني بـ(المؤسس) هو أن البحوث ومقدماتها من أصول وغيره، وإن كانت قد هذبتها أقلام، وهي نتاج أفكار وأفهام من ذي قبل، لكنها لم تكن ذات أساليب فنية حديثة، ولم يكن سير الاستدلال منتهجاً نهجه الطبيعي، فكانت الأفكار الثمينة مبعثرة في صفحات خطتها أقلام كريمة، ثم جاء الوحيد البهبهاني فكرس جهده في نظم هذه الأفكار وترتيبها في أحسن ترتيب وتهذيبها في أجمل تهذيب فتناول البحوث العلمية وأفرغها في قوالب حكمية وعرض لها بأساليب رضية وزاد عليها أكثر من الزيادة.
والخلاصة أن الوحيد البهبهاني كان لا يركز فكره في موضوع إلا وقد أفرغه في قالب قشيب، فلم يدع فكرة إلا وهو صائغها فإن كانت لها سابقة نقحها وهذبها وزاد عليها وطرح حشوها حتى يخيل أنها شيء جديد، ولا غرو في ذلك بعد أن كانت الفكرة الأصولية مبعثرة مشوهة قبل ذلك.
والغريب أن الوحيد البهبهاني أتى من بنات أفكاره بالشيء الكثير مما لم تكن لها سابقة في عالم الوجود، الأمر الذي يدل على عظم أفكاره الصائبة في تهذيب القواعد العلمية وتحرير المسائل الأصولية وتفريعاتها في قوالب رصينة قد لا تشبه أوضاعها السابقة.
وقد عود طلابه وطلاب مدرسته على الفهم العميق والناقد، وبعث فيهم روح التقييم والاجتهاد، ففي عصره كان قد تم تأسيس جديد لعلم الأصول، وأما قبل ذلك العصر فإن عالم الفقه والفقاهة كان تحت سلطة ونفوذ الأخباريين(5).
لقد استطاع الوحيد البهبهاني أن يسجل تفوقاً ساحقاً على الأخباريين ويجهز على آرائهم ويعيد الحياة إلى جسد الفقه والأصول ليحتل مكانته وقيمته الحقيقية.
ولا شك أنه بكفاحه المتواصل في هذا المجال وإعداده لطلبة وتلاميذ كبار أتحف بهم العالم الإسلامي يعد في الحقيقة رئيس جميع الأصوليين وكبيرهم طيلة القرنين الأخيرين ولذا نجد أن كل المجتهدين المعاصرين إما من تلامذته مباشرة أو بالواسطة.
ولقد حول النقد الذي أورده الأخباريين ضد الأصوليين إلى عامل من عوامل تثبيت الفكر الأصولي وتقوية مداركه ومستنداته، لأن ذلك النقد استدعى إحكام الأسس العامة للمنهج الأصولي وصياغة قواعد الأصول التي تبناها الفقهاء الأصوليين صياغة علمية برهانية بعد أن اعتادوا على عرض القواعد الأصولية على أنها مسلمات لا تحتاج إلى برهنة، فقد انبروا للدفاع عنها بكل جد، ودفعوا الشبهات المثارة ضدهم، أي ضد خيارهم العلمي، ووجودهم الفكري الذي يدينون له بالطريقة، والذي يتميزون به عما سواهم من اتجاهات فكرية.
وقد اختلف في تاريخ ولادته، فقد ذكرت في ولادته عدة تواريخ هي: 1116هـ، 1117هـ، 1118هـ(6). وفي هذا المجال أنشد البروجردي مؤرخاً(7):
والبهـبهـاني معـلـم البشر مجدد المذهب في الثاني عشر
ولد الوحيد في أصفهان، ولكن عرف بالبهبهاني ونسب إلى بهبهان لطول إقامته في تلك البلدة.
أما من حيث الأسرة فقد انحدر الوحيد من أسرة عريقة ذات نسب شريف، فأبوه محمد أكمل بن محمد صالح الإصفهاني من أحفاد الشيخ المفيد وكان من كبار علماء الطائفة وأما أمه فهي سيدة محترمة ذات نسب رفيع، فهي حفيدة الفقيه الكبير محمد صالح المازندراني صهر المجلسي الأول.
بعد هجرته من أصفهان، دخل الوحيد البهبهاني النجف الأشرف وأقام فيها. وقد هاجر إليها وهو في عنفوان شبابه (في عمر الثامنة عشرة) مكباً على الدرس جاداً في تحصيل العلم والمعرفة (أعم من العلوم العقلية والنقلية) ونظراً لما أوتي من ذكاء خارق استطاع أن يطوي مدارج الرقي بسرعة.
فقد درس الفقه والأصول عند السيد صدر الدين الرضوي القمي، وفي الفلسفة والحكمة درس على يد السيد محمد الطباطبائي البروجردي، وكان في مرحلة سابقة قد درس علوماً عدة في مرحلة المقدمات على يد أبيه وعمته الفاضلة.
أما وفاته ومدة حياته فقد اختلفت فيها الأقوال: فقال البعض أنه عمر ثلاثاً وتسعين عاماً، وقال آخرون تسعين عاماً، وقال فريق ثالث قرابة التسعين، أما سنة وفاته فقد ذكروا عدة تواريخ وهي: 1205هـ، 1206هـ، 1208هـ.
ناهز عمره التسعين عاماً، وتوفي في 29 شوال 1205هـ، دفن في كربلاء في رواق أبي عبد الله الحسين(عليه السلام) عند أقدام الشهداء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الطهراني، آغابزرك، الكرام البررة، 1/173. (2) البهباني، محمد باقر، الحاشية على مدارك الأحكام، 1/19 المقدمة. (3) البهبهاني، أحمد محمد علي، مرآة الأحوال، 1/130. (4) خرمشاهي، محمد علي، دائرة معارف تشيع، 1/135. (5) التنكابني، محمد بن سليمان، تذكرة العلماء، 137. (6) الطهراني، آغابزرك، مصفى المقال في مضفي علم الرجال، ص66، وقد ذكر القمي، عباس، في الفوائد الرضوية، 2/656 أنه ولد في حدود 1118هـ في مدينة أصفهان. (7) مدرس، محمد علي، ريحانة الأدب، 1/51. (8) القمي، عباس، الكنى والألقاب، 2/109.