المبادئ ذمام، واعتمادها يلزمه الصدق والوفاء. وللولوج إلى فضاءاتها يتطلب الوقوف على أمرين:
الأول: سلامة الفطرة، وصفاء النشأة.
والثاني: صحة المبادئ.
فالنور الذي يلمع على صفحة الضمير، ويعمل في جنبات الوجدان يمثل الومضة الأولى للإحساس بالوجود الواعي، والبدء بوضع البصمات، وتحديد المسارات المشرقة، سواء بالجبلة النقية أو بالتوجيه الصائب، فإذا سلم الإنسان من عوامل التشويه وانتصرت فيه إرادة العدل والصلاح، اتسمت حياته بالطمأنينة ورست في مرافئ النور ومرابع الحقيقة. ومهما تلبدت سماء أيامه بسحب الخلاف والانحراف فإن بصيرته تنسج له درعاً يتقي بها سهام الغفلة، ويتخذ من مصدر إلهامه ومبدأ يقينه جُنة تبعد عنه أسباب الضعف والتراجع.
والمواقف المبدئية المحمودة تعبر عن جواهر أخلاق العرب في الجاهلية والإسلام، تلك التي اهتم بها الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) وقال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، والشواهد كثيرة ربما يخرجنا ذكرها عن صلب الموضوع، ولكن لا بأس من الإشارة إلى المشهور منها كموقف السموأل بن عادياء، الذي فضل الالتزام بالمبادئ على حياة أعز عزيز (ولده) حفاظاً على الخلق السامي الذي تجله العرب(1).
وإذا كانت الجاهلية على علاتها مسرحاً لكثير من التي يفخر بها أصحاب النفوس الأبية، فإن في الإسلام مواقف أكثر وأجل، فإن رسول الله الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله) كان المثل الأعلى في الثبات على المبدأ، وليس في سيرته موقف لا يجسد هذه الصفة الفاضلة، فهو مجمع الفضائل، ويكفي أن نشير إلى موقفه الشريف وقوله الصادق: (يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته)(3).
وعلى هذا الخلق السامي تربي أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) فكانت حياته سلسلة من الثبات على المبدأ واحترام الحق والشريعة المقدسة، حتى أنه ضحى بحقه بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) تمسكاً بمبدأ سلامة الدين وحفظ وحدة المسلمين. وعندما دانت له الأمة وبايعته خليفة وقائداً لدولة الإسلام، رفض مهادنة الناكثين والقاسطين والمارقين. وبهذه المنهجية سارت المدرسة العلوية.
إن تحقيق الأهداف بمبدئية، والوصول إلى واقع مثمر يحتاج إلى صلابة وإصرار مدعوم بالحجة مع التجرد من (الأنا) والتحلي بحسن الخلق. والذي وجدناه محفوظاً في عيون التاريخ، ومحفوظاً بالعناية أكثر من سواه من ثمرات النفوس الكريمة هو العمل النافع المؤطر بحسن الخلق. وهو ما رفعه إمام البلغاء والمتكلمين أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى أعلى الدرجات بقوله المختصر النافع، الجامع المانع: (قيمة كل امرئ ما يحسنه)(4)، ومن مصاديق الإحسان: الثبات على مبدأ الحق، والدفاع عنه.
وفي هذا المضمار يتبارى الأفذاذ من تلامذة مدرسة الوصي أبي السبطين علي أمير المؤمنين(عليه السلام) تدفعهم طباع طيبة وأعراق أصيلة ولدت وترعرعت في أحضان الفضيلة، وجبلت على الوفاء، فأثبتت للناس أن المعدن الثمين لا يصدأ، وأن الصلابة في إحقاق الحق من صفات المؤمنين الذين يقتدون بأميرهم الأمثل ربيب الرسالة حبيب الرسول(صلى الله عليه وآله).
والحديث هنا لا يستهدف القمة بل ينشد التعرض لحسن مواقف بعض المتميزين من الأمة، وهم الصفوة من أصحاب الدرجات العالية في صدق الإيمان الخالي من غبار الرياء والمنافع الدنيوية، يشهد لهم الخصوم قبل الأصحاب، وتخلد مآثرهم المواقف الصعبة، ولا يحد من عزيمتهم لقاء الأشداء ومصاولة الأعداء، وهم ينشدون مراتب الشهداء.
ومن خلال النظر في سيرة النخبة الطيبة، تلمح تفرداً يستحق التأمل، وإن كان لا يثير العجب، فهو نتيجة حتمية إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار التلاحم الروحي، والانصهار بشخصية القائد(عليه السلام) فإذا استعرضت المدونات، اهتديت إلى العشرات بل المئات من خيرة الصحابة والتابعين، ولوقفت على التفرد الذي جسده كثير منهم وبينهم من ينعتون بالأركان الأربعة (سلمان، والمقداد، وأبو ذر، وعمار) وقائد القوات العلوية مالك بن الحارث الأشتر النخعي وآخرون لا يمكن ذكر أسمائهم لكثرتهم،
ونستثني منهم النموذج الذي اخترناه (صعصة بن صوحان) الذي قدم هو وأخواه (سيحان وزيد) الصورة الرائعة في الفداء والوفاء في معركة (الجمل) مع جيش الولي أمير المؤمنين علي(عليه السلام) (… وكانت الراية بيد سيحان فقُتل، فأخذها زيد، فقُتل، فأخذها صعصعة …)(5).
مرقد صعصعة بن صوحان العبدي في قرية عسكر/ البحرين
وفي صعصعة قال الزركلي نقلاً عن الإصابة وتهذيب ابن عساكر ورغبة الآمل: (إنه ابن صوحان بن حجر بن الحارث العبدي. من سادات عبد قيس من أهل الكوفة. كان خطيباً بليغاً عاقلاً شهد صفين مع علي(عليه السلام) ونفاه المغيرة من الكوفة إلى جزيرة أوال في البحرين بأمر معاوية، فمات فيها سنة 60هـ وقيل مات بالكوفة(6).
فهو إذن خريج مدرسة البلاغة والشجاعة والمبادئ الصادقة. كان جريئاً شديد القلب عند البأس، مؤمناً بأن علياً مع الحق والحق مع علي وكان معارضاً صلباً لشخص معاوية بن أبي سفيان ولأساليب حكمه، وكثيراً ما كان يسمعه ما لا يرضيه.
قال المنقري: (عند استيلاء أهل الشام على الماء في صفين، دعا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) صعصعة بن صوحان، فقال: أئت معاوية فقل…، وقال معاوية لأصحابه: ما ترون؟ قال الوليد بن عقبة: امنعهم الماء كما منعوه ابن عفان… وقال عبد الله بن أبي سرح: … امنعهم الماء منعهم الله يوم القيامة. فقال صعصة بن صوحان: إنما يمنعه الله يوم القيام الكفرة الفجرة، شربة الخمر، ضرْبَك وضرب هذا الفاسق، يعني الوليد بن عقبة. فتواثبوا إليه يشتمونه ويتهددونه، فقال معاوية: كفوا عن الرجل فإنه رسول)(7).
مسجد الصحابي صعصة بن صوحان العبدي في الكوفة قبل تجديد بنائه