Take a fresh look at your lifestyle.

المواقف المبدئية من ثمار المدرسة العلوية صعصعة بن صوحان أنموذجاً

0 1٬256
              المبادئ ذمام، واعتمادها يلزمه الصدق والوفاء. وللولوج إلى فضاءاتها يتطلب الوقوف على أمرين:
   الأول: سلامة الفطرة، وصفاء النشأة.
   والثاني: صحة المبادئ.
            فالنور الذي يلمع على صفحة الضمير، ويعمل في جنبات الوجدان يمثل الومضة الأولى للإحساس بالوجود الواعي، والبدء بوضع البصمات، وتحديد المسارات المشرقة، سواء بالجبلة النقية أو بالتوجيه الصائب، فإذا سلم الإنسان من عوامل التشويه وانتصرت فيه إرادة العدل والصلاح، اتسمت حياته بالطمأنينة ورست في مرافئ النور ومرابع الحقيقة. ومهما تلبدت سماء أيامه بسحب الخلاف والانحراف فإن بصيرته تنسج له درعاً يتقي بها سهام الغفلة، ويتخذ من مصدر إلهامه ومبدأ يقينه جُنة تبعد عنه أسباب الضعف والتراجع.
           والمواقف المبدئية المحمودة تعبر عن جواهر أخلاق العرب في الجاهلية والإسلام، تلك التي اهتم بها الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) وقال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، والشواهد كثيرة ربما يخرجنا ذكرها عن صلب الموضوع، ولكن لا بأس من الإشارة إلى المشهور منها كموقف السموأل بن عادياء، الذي فضل الالتزام بالمبادئ على حياة أعز عزيز (ولده) حفاظاً على الخلق السامي الذي تجله العرب(1).
            وإذا كانت الجاهلية على علاتها مسرحاً لكثير من التي يفخر بها أصحاب النفوس الأبية، فإن في الإسلام مواقف أكثر وأجل، فإن رسول الله الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله) كان المثل الأعلى في الثبات على المبدأ، وليس في سيرته موقف لا يجسد هذه الصفة الفاضلة، فهو مجمع الفضائل، ويكفي أن نشير إلى موقفه الشريف وقوله الصادق: (يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته)(3).
             وعلى هذا الخلق السامي تربي أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) فكانت حياته سلسلة من الثبات على المبدأ واحترام الحق والشريعة المقدسة، حتى أنه ضحى بحقه بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) تمسكاً بمبدأ سلامة الدين وحفظ وحدة المسلمين. وعندما دانت له الأمة وبايعته خليفة وقائداً لدولة الإسلام، رفض مهادنة الناكثين والقاسطين والمارقين. وبهذه المنهجية سارت المدرسة العلوية.
           إن تحقيق الأهداف بمبدئية، والوصول إلى واقع مثمر يحتاج إلى صلابة وإصرار مدعوم بالحجة مع التجرد من (الأنا) والتحلي بحسن الخلق. والذي وجدناه محفوظاً في عيون التاريخ، ومحفوظاً بالعناية أكثر من سواه من ثمرات النفوس الكريمة هو العمل النافع المؤطر بحسن الخلق. وهو ما رفعه إمام البلغاء والمتكلمين أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى أعلى الدرجات بقوله المختصر النافع، الجامع المانع: (قيمة كل امرئ ما يحسنه)(4)، ومن مصاديق الإحسان: الثبات على مبدأ الحق، والدفاع عنه.
            وفي هذا المضمار يتبارى الأفذاذ من تلامذة مدرسة الوصي أبي السبطين علي أمير المؤمنين(عليه السلام) تدفعهم طباع طيبة وأعراق أصيلة ولدت وترعرعت في أحضان الفضيلة، وجبلت على الوفاء، فأثبتت للناس أن المعدن الثمين لا يصدأ، وأن الصلابة في إحقاق الحق من صفات المؤمنين الذين يقتدون بأميرهم الأمثل ربيب الرسالة حبيب الرسول(صلى الله عليه وآله).
             والحديث هنا لا يستهدف القمة بل ينشد التعرض لحسن مواقف بعض المتميزين من الأمة، وهم الصفوة من أصحاب الدرجات العالية في صدق الإيمان الخالي من غبار الرياء والمنافع الدنيوية، يشهد لهم الخصوم قبل الأصحاب، وتخلد مآثرهم المواقف الصعبة، ولا يحد من عزيمتهم لقاء الأشداء ومصاولة الأعداء، وهم ينشدون مراتب الشهداء.
             ومن خلال النظر في سيرة النخبة الطيبة، تلمح تفرداً يستحق التأمل، وإن كان لا يثير العجب، فهو نتيجة حتمية إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار التلاحم الروحي، والانصهار بشخصية القائد(عليه السلام) فإذا استعرضت المدونات، اهتديت إلى العشرات بل المئات من خيرة الصحابة والتابعين، ولوقفت على التفرد الذي جسده كثير منهم وبينهم من ينعتون بالأركان الأربعة (سلمان، والمقداد، وأبو ذر، وعمار) وقائد القوات العلوية مالك بن الحارث الأشتر النخعي وآخرون لا يمكن ذكر أسمائهم لكثرتهم،
           ونستثني منهم النموذج الذي اخترناه (صعصة بن صوحان) الذي قدم هو وأخواه (سيحان وزيد) الصورة الرائعة في الفداء والوفاء في معركة (الجمل) مع جيش الولي أمير المؤمنين علي(عليه السلام) (… وكانت الراية بيد سيحان فقُتل، فأخذها زيد، فقُتل، فأخذها صعصعة …)(5).

مرقد صعصعة بن صوحان العبدي في قرية عسكر/ البحرين

           وفي صعصعة قال الزركلي نقلاً عن الإصابة وتهذيب ابن عساكر ورغبة الآمل: (إنه ابن صوحان بن حجر بن الحارث العبدي. من سادات عبد قيس من أهل الكوفة. كان خطيباً بليغاً عاقلاً شهد صفين مع علي(عليه السلام) ونفاه المغيرة من الكوفة إلى جزيرة أوال في البحرين بأمر معاوية، فمات فيها سنة 60هـ وقيل مات بالكوفة(6).
           فهو إذن خريج مدرسة البلاغة والشجاعة والمبادئ الصادقة. كان جريئاً شديد القلب عند البأس، مؤمناً بأن علياً مع الحق والحق مع علي وكان معارضاً صلباً لشخص معاوية بن أبي سفيان ولأساليب حكمه، وكثيراً ما كان يسمعه ما لا يرضيه.
            قال المنقري: (عند استيلاء أهل الشام على الماء في صفين، دعا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) صعصعة بن صوحان، فقال: أئت معاوية فقل…، وقال معاوية لأصحابه: ما ترون؟ قال الوليد بن عقبة: امنعهم الماء كما منعوه ابن عفان… وقال عبد الله بن أبي سرح: … امنعهم الماء منعهم الله يوم القيامة. فقال صعصة بن صوحان: إنما يمنعه الله يوم القيام الكفرة الفجرة، شربة الخمر، ضرْبَك وضرب هذا الفاسق، يعني الوليد بن عقبة. فتواثبوا إليه يشتمونه ويتهددونه، فقال معاوية: كفوا عن الرجل فإنه رسول)(7).

مسجد الصحابي صعصة بن صوحان العبدي في الكوفة قبل تجديد بنائه

             ولصعصة(رحمه الله) مواقف مع معاوية شخصياً نقل منها أبو علي القالي، فقال: (حدثنا الهيثم عن مجالد عن الشعبي قال: دخل صعصعة بن صوحان على معاوية أو ما دخل عليه…(8) ودارت محاورة حول نسب صعصعة، فأظهر صعصعة قدرة فائقة في الإحاطة بنسبه، وذكر فضائل قبيلته وكريم خصال آله، وكان فصيحاً بليغاً متمكناً، أثار إعجاب معاوية سواء بفطنته أو شجاعته، وما عرف عنه ووصل إلى معاوية خبره، مما دفع معاوية إلى أن يتظاهر بالتألم من المصير الذي آل إليه، وما يترتب عليه، فقال: (أما والله لقد كان يسوؤني أن أراك أسيراً، قال: وأنا والله لقد كان يسوؤني أن أراك أميراً. ثم خرج، فبعث إليه فرُد، ووصله وأكرمه)(9).
            (وحين قدم معاوية إلى الكوفة دخل عليه رجال من أصحاب علي(عليه السلام) وكان الحسن(عليه السلام) قد أخذ الأمان لرجال منهم وكان فيهم صعصعة، فلما دخل عليه صعصعة قال معاوية لصعصعة: أما والله إني كنت لأبغض أن تدخل في أماني. قال: وأنا والله أبغض أن أسميك بهذا الاسم، ثم سلم عليه بالخلافة. فقال معاوية: إن كنت صادقاً فاصعد المنبر والعن علياً. قال: فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، أتيتكم من عند رجل قدَّم شره وآخر خيره، وأنه أمرني أن ألعن علياً فالعنوه لعنه الله. فضج أهل المسجد بآمين. فلما رجع إليه فأخبره بما قال: قال: لا والله ما عنيت غيري، ارجع حتى تسميه باسمه.
             فرجع وصعد المنبر ثم قال: أيها الناس إن أمير المؤمنين أمرني أن ألعن علي بن أبي طالب فالعنوا من لعن علي بن أبي طالب. قال: فضجوا بآمين. قال: فلما خبر معاوية قال: لا والله ما عنى غيري. أخرجوه لا يساكنني في بلد. فأخرجوه)(10).
           وقال يوماً لمعاوية: كيف؟ وقد عطلت السنة وأخفرت الذمة، فصارت عشواء مطلخة في دهياء مدلهمة قد استوعبتها الأحداث وتمكنت منها الأنكاث(11).
             مثل هذه التصرفات المليئة بالتحدي لا تقابل إلا بالحكم الصارم الفوري عند كثير من الحكام، فما الذي جعل معاوية يصفح عن صعصعة؟!
             لم يكن موقف معاوية هذا جديداً أو وحيداً، بل طالما تعرض لمثل هذه المواقف من مناوئيه، وكثيراً ما كان يسلك نفس السلوك الذي سلكه مع صعصعة، ولم يتخذ معهم موقفاً خشناً، بل كان يجزل لهم العطاء، ويتظاهر بالتسامح، أما ليغلق باباً يهب منه دخان خانق في وقت هو بحاجة إلى المداراة والمداجاة، أو ليكسب جانب مؤيديه وأنصاره الذين يسمونه الداهية،
             والحقيقة أنه قناص فرص، وحين لا تسعفه قدراته الذاتية يلجأ إلى أرباب المكر والحيلة يشتري منهم الرأي والتدبير. أما موقف صعصعة فلا يختلف عن موقف المجاهد في ساحة المنازلة ينتظر الفوز بالشهادة، ولا يجد في الخنوع والتراجع ثمناً لكرامته ومنزلته وإيمانه(12).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: معجم البلدان، ياقوت الحموي، مادة الأبلق، 1/75، دار صادر 1977.
(2) المصدر السابق، 2/326.
(3) نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 3/168، مط الاستقامة بمصر.
(4) الطبقات، ابن سعد، 6/154، مصورة عن طبعة ليدن، مؤسسة النصر، طهران.
(5) الأعلام، خير الدين الزركلي، 3/294، ط3.
(6) وقعة صفين، نصر بن مزاحم المنقري، من 160ـ161، مط المدني، القاهرة، 1382هـ.
(7) كتاب الأمالي، أب علي القالي، 2/230ـ231، منشورات المكتب الإسلامي.
(8) المصدر السابق.
(9) رجال الكشي، ص70ـ71, مؤسسة النشر الإسلامي، رقم ط1، 1427هـ.
(10) تاريخ دمشق، ابن عساكر، 6/425، روضة الشام، 1329هـ. المطلخمات: الشدائد، المدلهمة: المظلمة، الأنكاث: ما نقض من الأكسية ليغزل ثانية.
انظر: المنجد في اللغة، لويس معلوف، الطبعة 23.
(11) خواطر ومقتبسان في الدين والأدب والحياة، طالب علي الشرقي، مخطوط.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.