علي عبد الزهرة الفحام
تطرح المدرسة السلفية المعاصرة شبهات تاريخية تحاول من خلالها أن تقلب معادلات التاريخ التي صنعتها رجالات الشيعة وجماهيرها المجاهدة من أجل أن تغير المفاهيم الصحيحة الناصعة إلى هرطقات إعلامية تملأ فيها عقول الشبيبة السلفية في البلدان الإسلامية بالحقد والكراهية والكذب والتزوير خدمة لمصالح طائفية وفئوية ضيقة وبغيضة…
إحدى هذه الشبهات التي طالما عزفوها على وتر التشويه التاريخي ادعاؤهم أن شيعة العراق يتحملون المسؤولية المباشرة عن خذلان الحسين ابن بنت رسول الله صلوات الله عليهما وقتله وأهل بيته في واقعة كربلاء الأليمة حيث تراهم يروجون لهذه الفرية المحرقة في أدبياتهم الفكرية المنتشرة عبر شبكة المعلومات العالمية.
لا نريد هنا أن ندخل في التحليل التاريخي للتوزيع الديموغرافي والطائفي لسكان العراق وبالخصوص مدينة الكوفة وأين دور الشيعة في صياغة الحدث التاريخي في سنة ستين للهجرة لأن هذا له بحثه المستقل والمتشعب ولكن نحاول في هذه الجولة التاريخية أن نأخذ القارئ الكريم على موقف من مواقف أحد أبطال شيعة العراق الأحرار الذي مثل التشيع الناصع والعقيدة العلوية التي صنعت رجالاً لا يزال التاريخ مديناً لهم في نصرة الإسلام والذب عن الدين وإعلاء كلمة الحق بوجه العتاة الظالمين.. إنها وقفة مع المجاهد الشهيد (عبد الله بن عفيف الأزدي) رضوان الله عليه.
الشيعة… طلائع المعارضة الشريفة
مثل خط التشيع منذ أن انحرف مسار الأمة الإسلامية واتفقت كلمتها على إزالة أهل البيت عليهم السلام عن مراتبهم التي رتبهم الله تعالى فيها مثل هذا الخط صوت المعارضة المحقة التي وقفت بوجه الباطل وثبتت مع أئمة الهدى مع قلة العدد وخذلان الناصر يدفعها صلابة العقيدة ووضوح الهدف ورسوخ الإيمان… فكان أن أخذت هذه العصابة المحقة قسطاً كبيراً من الظلم والفتك والتشريد والتقتيل التي مارسته ضدهم الأنظمة الحاكمة بسبب مواقفهم الصلبة والمبدئية في التسليم لأئمتهم وعدم الخضوع لأي سلطة ما خلا سلطان أهل بيت رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين.
ولقد كان أهل الحق من شيعة العراق على قلة عددهم يثيرون قلق حكام الجور وأئمة الضلال لأن ما كان يصدر عنهم من مواقف بدأ يترسخ في ذهنية أبنائهم كثقافة غير قابلة للاستئصال مهما مورست معها أشكال القمع الفكري والمادي… وقد تصاعدت ثقافة الرفض بين صفوف القواعد الشيعية بعد واقعة كربلاء وأخذت أيديولوجيا الوعي تنضج في ذهنية الطبقة الشيعية مما زاد من مأزق الأنظمة الحاكمة وأقض مضاجعها.
ويأتي الموقف البطولي الذي وقفه صاحب أمير المؤمنينA عبد الله بن عفيف الأزدي في إطار ردود الفعل الكامنة في قواعد التشيع على جريمة بني أمية الكبرى بقتل ذرية رسول اللهE وسبي حرمه وعياله وما تعرضوا له من إذلال وقهر وهتك على يد والي يزيد على الكوفة (عبيد الله بن زياد)…
الأزدي… مسيرة الولاء والشهادة
وللأسف فإن المصادر التاريخية الخاصة والعامة تخلو من ذكر تفاصيل حياة المجاهد عبد الله بن عفيف الأزدي وهي إحدى نقاط الضعف والثغرات التي يعاني منها الباحث في تتبعه لمسار الأحداث التاريخية..
ولكن رغم شحة المعلومات فإننا نستطيع أن نحدد ملامح الشخصية العقائدية للأزدي من خلال متابعة التوجه العقائدي لقبيلة الأزد ومسيرتها مع أهل البيت والصحابة..، يقول د. عمر كحالة في معجم قبائل العرب 1/15: (الأزد: من أعظم قبائل العرب وأشهرها، تنتسب إلى الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن كهلان من القحطانية… وفي سنة 9ه قدم صرد بن عبد الله الأزدي في وفد من الأزد، فأسلم وحسن إسلامه، فأقره عليه الصلاة والسلام على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم أهل الشرك، فخرج صرد يسير بأمر رسول اللهE…) ويبدو أن كثيراً من رجالات قبيلة الأزد كانوا في معركة الجمل في الجانب الآخر المعادي لأمير المؤمنينA بعد أن خدعتهم الدعاية الأموية والزبيرية والعائشية بقميص عثمان… حيث يضيف الدكتور كحالة: (وقاتلت الأزد تحت لواء عائشة أم المؤمنين سنة 36 ه، فقتل منهم في وقعة الجمل 2000 أزدي. وقيل: قتل منهم 1350 أزدياً، واستعرت نار الحرب سنة 37 ه بين علي ومعاوية، فانقسمت الأزد قسمين: فريق مع علي، وفريق مع معاوية..).
وفي تاريخ الطبري 3/422: (حدثنا أبو مخنف عن جابر عن الشعبي قال: حملت ميمنة أمير المؤمنين على ميسرة أهل البصرة فاقتتلوا ولاذ الناس بعائشة رضي الله عنها أكثرهم ضبة والأزد..)… ورغم انحياز غالبية عشيرته في حرب الجمل إلى جانب عائشة بنت أبي بكر فإن عبد الله بن عفيف الأزدي لازم أمير المؤمنينA منذ تلك المعركة وقاتل إلى جنبه حتى فقد فيها إحدى عينيه كما أجمعت على ذلك المصادر التاريخية… في بحار الأنوار 35/116: (وكانت عينه اليسرى ذهبت في يوم الجمل، والأخرى في يوم صفين) (انظر: تاريخ الطبري (ت310) 4/351، مقتل الحسين لأبي مخنف الأزدي (ت 157) ص 207، الفتوح لأبن أعثم الكوفي (ت314) 5/124، العوالم لعبد الله البحراني (ت1113) ص 387، مثير الأحزان لابن نما الحلي (ت635) ص73، اللهوف للسيد ابن طاووس (ت664) ص96، كشف الغمة لابن أبي الفتح الأربلي (ت693) 2/279،) وإذا دلنا هذا على شيء فإنه يدل على أن عبد الله الأزدي كان صلب العقيدة منفتح البصيرة إذ لم يتأثر بموقف الأغلبية الأزدية التي ناصرت أعداء أمير المؤمنينA ويبدو أن موقف عبد الله بن عفيف الأزدي وغيره من رجالات الأزد الشيعة المخلصين قد أثرت أثرها في أبناء عشيرتهم المغرر بهم فرجع أكثرهم إلى الحق وأصبحوا من خلص أصحاب علي ومن بعده الحسن والحسين(عليهم السلام) وقد وثق لهم أمير
المؤمنين(عليه السلام) مواقفهم الولائية الشجاعة بأبيات شعرية نسبت إليه ذكرها المحدث القمي(رحمه الله) في سفينة البحار (1/20) حيث قال:
(مدح أمير المؤمنين ـ (عليه السلام) ـ قبيلة الأزد في شعره [المنسوب إليه]:
الأزد سيفي على الأعداء كلهم
وسيف أحمد من دانت له العرب
قوم إذا فاجأوا أبلوا وإن غلبوا
لا يجحمون ولا يدرون ما الهرب
قوم لبوسهم في كـل معتـرك
بيض رقاق وداودية سـلب
إلى أن قال(عليه السلام):
(والأزد جرثومة إن سوبقوا سبقوا
أو فوخروا فخروا أو غولبوا غلبوا
أو كوثروا كثروا أو صوبروا صبروا
أو سوهموا سهموا أو سولبوا سلبوا)
ورغم ما أصاب عبد الله بن عفيف الأزدي من جراحات في معركة الجمل ذهبت فيها عينه اليسرى إلا إنه واصل مسيرة الولاء والجهاد مع إمامه أمير المؤمنين(عليه السلام) فشارك باندفاع منقطع النظير في وقعة صفين (38 ﻫ) وفيها فقد عينه اليمنى قال الطبري 4/351: (فلما كان يوم صفين ضرب على رأسه ضربة وأخرى على حاجبه فذهبت عينه الأخرى) فأصاب العمى كلتا عينيه إلا أن قلبه ظل يتوقد بصيرة فكان جل ما يدعو به ربه أن يرزقه الله الشهادة في طريق الحق وعلى يد شر خلق الله على ما سنذكره بعد قليل..
أما في الجانب السلوكي العبادي فقد لخصت المصادر التاريخية ملامح الشخصية الروحية للأزدي بجملتين:
أولاً :إنه كان (من خيار الشيعة وزهادها).
ثانياً: إنه (كان يلازم المسجد الأعظم فيصلي فيه: إلى الليل)..
ولم تكن العبادة في نظر الأزدي طقوساً روحية جوفاء يمارسها الرجل حتى تصبح عادة نفسية يعتاد عليها بل استطاع هذا الرجل العراقي الكوفي الشيعي أن يجعل منها وسيلة للارتقاء المعنوي والأخلاقي يحقق للمؤمن رسوخاً في المبادئ وثباتاً على الحق ووضوحاً في الرؤيا وبذلك استطاع عبد الله الأزدي أن يورث أبناءه عقيدة الولاء لأهل البيت(عليهم السلام) وأن يثبت على موقفه رغم كبر السن وكف البصر ووهن العظم ..
الأزدي في قلب المواجهة!
وحان وقت المواجهة مع العدو في 12 من محرم سنة 61 للهجرة حيث أدخلت سبايا أهل البيت(عليهم السلام) على الدعي بن الدعي عبيد الله بن زياد ودارت المواجهة الخطابية بين عبيد الله من جهة والإمام زين العابدين والسيدة زينب(عليهما السلام) من جهة أخرى خرج منها عبيد الله بن زياد بمزيج من الانكسار والخيبة نغصت عليه نشوة النصر بقتل الحسين(عليه السلام) لذلك أراد أن يعوض هذه الخيبة بخطبة يلقيها بالمصلين في مسجد الكوفة حيث يعتكف عبد الله بن عفيف الأزدي كعادته في كل يوم فلما حضر وقت الصلاة (نودي الصلاة جامعة فاجتمع الناس في المسجد الأعظم فصعد المنبر ابن زياد: فقال الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ونصر أمير المؤمنين يزيد بن معاوية وحزبه وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي وشيعته..) وهنا لم يستطع ابن زياد أن يكمل كلامه حيث تصدى له البطل عبد الله بن عفيف الأزدي قائماً من بين الجموع وموجهاً أعنف الكلمات للأمير المغرور وكأنه يستخف به وبكل سلطانه فوجه له صفعة أخرى قائلاً: (يا ابن مرجانة إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك والذي ولاك وأبوه يا ابن مرجانة [يا عدو الله] أتقتلون أبناء النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين..).
والذي يدقق في هذه العبارات يلمس بوضوح ملامح الخطاب الشيعي الجريء والذكي الذي كانت تمثله المعارضة الشيعية حيث أزال عبد الله الأزدي بكلماته كل ما كان يحيط بالطاغية من هيبة السلطان وسطوة الحكم ولم يهاجم عبيد الله بن مرجانه وحده بل شمل كلامه أباه زياد بن سمية وأميره يزيد وأباه معاوية بن هند وباختصار هو إسقاط لكل رموز وأصنام الدولة الأموية..
ويبدو أن ابن زياد صعق لكلمات الأزدي فلم يزد على أن قال بغضب (من المتكلم؟!) فكانت الصفعة الثانية من قبل عبد الله بن عفيف الأزدي حيث اقتحم الصفوف وقال بأعلى صوته:
(أنا المتكلم يا عدو الله ! أتقتل الذرية الطاهرة التي قد أذهب الله عنها الرجس في كتابه وتزعم أنك على دين الإسلام؟ وا عوناه! أين أولاد المهاجرين والأنصار لا ينتقمون من طاغيتك اللعين ابن اللعين على لسان محمد نبي رب العالمين).. الفتوح 5/124.
ومن خلال التمعن بدقة في كلمات هذا النص يمكننا تسجيل الملاحظات التالية:
أولاً: إصرار عبد الله بن عفيف الأزدي على موقفه وتحديه لطاغية معروف بسفكه للدماء وعدم تورعه عن المحارم بل ويكرر في مسامعه وعلى مسامع الأشهاد عبارة (يا عدو الله).
ثانياً: حاول الأزدي أن يستنفر البقية الباقية من الحمية الدينية التي يمكن أن توجد في ضمائر الأمة الميتة حين نادى: (وا عوناه ! أين أولاد المهاجرين والأنصار لا ينتقمون من طاغيتك)..
ثالثاً: روى الأزدي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) حديثاً بلعن يزيد بن معاوية وأبيه وقد سمع هذا الحديث كل من كان في المجلس من الرجال والنساء والصبيان.
انتفاضة الأزد في الكوفة
ومن أجل أن يحفظ ابن زياد ما تبقى له من هيبة منكسرة أصدر أوامره العرفية باعتقال عبد الله بن عفيف الأزدي (فتبادرت إليه الجلاوزة من كل ناحية ليأخذوه، فقامت الأشراف من الأزد من بني عمه فخلصوه من أيدي الجلاوزة وأخرجوه من باب المسجد فانطلقوا به إلى منزله) حيث يذكر الطبري وجود نحو 700 مقاتل من الأزد من قبيلة عبد الله الأزدي حاضرون في الكوفة.. وكعادة الطغاة في أخذ البريء بجريرة غيره أمر ابن مرجانة باعتقال الشخصيات القيادية في قبيلة الأزد وعلى رأسهم (عبد الرحمن بن مخنف الأزدي) ثم وجه قادة شرطته المنافقين (عمرو بن الحجاج الزبيدي ومحمد بن الأشعث وشبث بن الربعي) على رأس قوة عسكرية كبيرة من شرطة الكوفة فاشتبكوا في معركة طاحنة مع عرب اليمن من قبيلة الأزد انتهت المناوشات بدخول مقاتلي ابن زياد إلى دار عبد الله بن عفيف الأزدي غير آبهين بحرمة البيوت ولا عجب في ذلك فإن الذي ينتهك حرمة بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) لا يتورع عن بيوت عامة المسلمين.
و لم يكن في البيت سوى عبد الله وابنته المذعورة التي ما إن رأت الخيالة تدخل بيت أبيها حتى صاحت (يا أبت! أتاك القوم من حيث لا تحتسب!) وهنا تذكر ابن عفيف الشيخ الضرير صولاته إلى جانب إمامه علي بن أبي طالب فشمر للجهاد وووطد على الموت نفسه فأجاب ابنته (لا عليك يا ابنتي ! ناوليني السيف، فناولته فأخذه وجعل يذب عن نفسه وهو يقول:
أنا ابن ذي الفضل العفيف الطاهر
عفيف شيخي وابن أم عامر
كم دارع من جمـعهم وحـاسر
وبـطل جدلته مغـــادر…)
وهنا يتناقل المؤرخون عبارة قالتها ابنة عبد الله بن عفيف الأزدي لما رأت أباها يقاتل الأعداء وحيداً حيث نادت (يا ليتني كنت رجلا فأقاتل بين يديك اليوم هؤلاء الفجرة قاتلي العترة البررة) وهذه الجملة تكشف عن مدى تأثير التربية الشيعية في صنع إرادات الشباب في مقارعة الظالمين والبغاة المنحرفين، وإذ لم تستطع هذه الفتاة المؤمنة من المشاركة المباشرة في القتال اتخذت دور ما نسميه اليوم (الدعم اللوجستي للمعركة) فكلما هاجمته جماعة من جهة أشعرته بهجومهم فتارة تقول (جاؤوك عن يمينك أو أتوك من شمالك) فيذب عن نفسه حتى أوقع فيهم مقتلة كبيرة فأثخن بالجراح فتناوشوه من كل جانب وهو يرتجز:
أقسم لو فرج لي عن بصري
ضاق عليكم موردي ومصدري
ابن زياد يعزف على الوتر الطائفي
وانتهت المواجهة باعتقال عبد الله بن عفيف الأزدي فجيء به تحوطه الجلاوزة إلى عبيد الله بن زياد فدارت محاورة تاريخية مهمة بين الرجلين حاول فيها عبيد الله أن يبدو بمنظر المزهو المنتصر فبادر عبد الله قائلاً: (الحمد لله الذي أخزاك) فما كان من الأسير المثخن بالجراح إلا أن قابله بنفس الشدة والصلابة التي بدأ فيها أعظم جهاده فأجابه (يا عدو الله بهذا أخزاني؟!، والله لو فرج الله عن بصري لضاق عليك موردي ومصدري) صفعة أخرى أصابت ابن زياد في الصميم فلما فشل في انتزاع أدنى تراجع أو انكسار من عبد الله بن عفيف الأزدي راح يعزف على الوتر الطائفي محاولاً استنفار حمية (العثمانيين والأمويين) الذين كان لهم ثقل مهم في قبائل الكوفة فبادر إلى سؤال غريب يكشف عن نيته السيئة لتصعيد الاحتقان بين الشيعة والعثمانيين في الكوفة فقال: (يا عدو نفسه! ما تقول في عثمان بن عفان رضي الله عنه؟)؟!.
ولكن على ما يبدو أن عبد الله بن عفيف الأزدي لم يكن فقط مجاهداً ومتنسكاً وعابداً بل كشف موقفه عن حنكته السياسية وذكائه ونظرته الثاقبة في مقاربة المواقف والأهداف وحرصه على إسقاط كل أوراق عبيد الله بن زياد وسحب البساط من محاولته اليائسة لتشويه مسيرة الحركة الجهادية الشيعية المتصاعدة في ارض العراق فكان أن أجابه بقوله:
(يا بن عبد بني علاج! يا بن مرجانة وسمية! ما أنت وعثمان بن عفان؟ عثمان أساء أم أحسن وأصلح أم أفسد، الله تبارك وتعالى ولي خلقه يقضي بين خلقه وبين عثمان بن عفان بالعدل والحق، ولكن سلني عن أبيك وعن يزيد وأبيه!).. حيث يعود الأزدي لتذكير المجتمع الكوفي بالخلفية الأخلاقية والنسبية لأميرهم الذي يعتلي منابرهم ويصلي في مسجدهم ويتحكم بأرواحهم وأرزاقهم فهو (ابن عبد بني علاج) وعبد بني علاج هذا رجل اسمه (أبو عبيدة) ادعى أبوة زياد بن سمية، أما (سمية) جدة عبيد الله و(مرجانة) أمه فهما أشهر من التعريف!
لم يعط عبد الله بن عفيف الأزدي رأيه في (عثمان بن عفان) لا مدحاً ولا ذماً وترك أمر محاسبته لله تعالى وهو بذلك نجح في تحييد التوجه الطائفي الذي كان عبيد الله بن زياد يرغب في فرضه على المجلس، وعندما عجز الأمير المقهور عن تحقيق أي مكسب في هذه المواجهة انتقل إلى الورقة الأخيرة التي كان الجميع بانتظارها فقال: (والله لا سألتك عن شيء أو تذوق الموت [غصة بعد غصة]) ولكنها ورقة محترقة بنظر الأزدي الذي كشف للحاضرين عن سر كان يعيشه طيلة سنين طويلة بعد ذهاب عينه الثانية في صفين فقال:
(الحمد لله رب العالمين أما إني كنت اسأل الله ربي أن يرزقني الشهادة من قبل أن تلدك أمك، وسألت الله أن يجعل ذلك على يدي ألعن خلقه وأبغضهم إليه فلما كف بصري يئست من الشهادة والآن فالحمد لله الذي رزقنيها بعد اليأس [منها، وعرفني الإجابة منه في قديم دعائي])..
وهكذا سقطت جميع أوراق عبيد الله بن زياد فما كان بيده إلا أن أمر بضرب عنق ذلك الشيخ العراقي الشيعي الأزدي وما اكتفى بضرب عنقه وإنما أمره بصلبه في (السبخة) وهي المناطق المالحة الوسخة التي يجتمع في الماء الآسن… وقد أشار السيد البراقي (ت1332) في تاريخ الكوفة ص 103 إلى مكان قبره قائلاً: (وأما عبد الله بن عفيف الأزدي، فإنه دفن بالسبخة وقبره قريب من مقام يونس(عليه السلام)).
وهكذا مثلت صورة الشيخ (عبد الله بن عفيف الأزدي) انطلاقة الوعي الجماهيري الشيعي في مرحلة ما بعد واقعة الطف والتي أصحبت عقيدة يتوارثها أبناء الشيعة كابراً بعد كابر، يقول الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (ت1373) (أصل الشيعة 207): (وكانت هذه العقيدة الإيمانية، والعاطفة الإلهية، كشعلة نار في نفوس بعض الشيعة، تدفعهم إلى ركوب الأخطار، وإلقاء أنفسهم على المشانق، وتقديم أعناقهم أضاحي للحق، وقرابين للدين. اعطف بنظرك في هذا المقام إلى حجر بن عدي الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، ورشيد الهجري، وميثم التمار، وعبد الله بن عفيف الأزدي، إلى عشرات المئات من أمثالهم، أنظر كيف نطحوا صخرة الضلال والجور وما كسرت رؤوسهم حتى كسروها وفضخوها، وأعلنوا للملأ بمخازيها، فهل تلك الإقدامات والتضحية من أولئك الليوث كانت لطمع مال، أو جاه عند أهل البيت(عليهم السلام)، أو خوفاً منهم وهم يومئذ الخائفون المشردون؟! كلا، بل عقيدة حق، وغريزة إيمان، وصخرة يقين..) أما الشيخ باقر شريف القرشي فيوثق جهود الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في صنع هذه الشخصيات العظيمة قائلاً: (وأوجد الإمام في أثناء حكمه القصير وعياً أصيلاً في مقارعة الظلم، ومناهضة الجور فقد هب في وجه الحكم الأموي أعلام أصحابه كحجر بن عدي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وعبد الله بن عفيف الأزدي وأمثالهم من الذين تربوا بهدي الإمام، فدوخوا أولئك الظالمين بثورات متلاحقة أطاحت بزهوهم وجبروتهم، لقد كان حكم الإمام – حقا – مدرسة للنضال والثورة، ومدرسة لبث الوعي الديني والإدراك الاجتماعي..) (حياة الإمام الحسين 2/111).