كان سليم بن قيس الهلالي قد أدرك خطورة المرحلة التي يعيشها، وأدرك أن أعداء أهل البيت(عليهم السلام) لم تقتصر مهامهم على التصفية الجسدية التي تطال أشخاصهم بل ستعمد هذه التصفيات إلى تغييب تاريخ أهل البيت(عليهم السلام) ومحاولة مسخه، ولعل ما أعلنه أعداءهم من محاولة القضاء على فكر أهل البيت دعا سليم بن قيس أن يعيد النظر في تعاطيه مع الأحداث التي يعيشها…
كانت ظروفاً حرجة، وأحداثاً تستفز فيها قرائح الغيور أن يعبر عما تعتمله نفسه من وجدان…
كان سليم يعيش حالة الحظر على الحقائق التي تمارسها السلطة الحاكمة، حيث مصادرة الحدث، وتشويه الحقائق، حينما أحظر تدوين حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومنعه من قبل الحاكم فما بالك بتسجيل الوقائع والأحداث حيث تنقل إلى أجيال بعد مئات السنين؟
كان سليم يخفي هذا الوجدان ولكنه لم يأبه بتعليمات السلطة، فالإعلام المكتوم كان برنامجاً حكومياً ارتكبته العصابات الحاكمة، والتستر عل مجريات الأحداث أمر يطغى على المعطيات السياسية لتلك الفترة.
وكان سليم بن قيس يشعر بعظم المسؤولية وخطورة الأمر إذا ما هو تغافل على تسجيل الأحداث وحاول إمرارها ـ ولو في الفترة الحرجة لمنع تدوين الحديث ـ أن يحملها بكل تفاصيلها ليقدمها إلى الأجيال التي أخفي عليها الكثير.
إذن كانت صحافة سليم بن قيس أرشفة لمجريات عقد من الزمان لا يقوى أحد أن يتحدث أو يتساءل عما جرى لأهل البيت(عليهم السلام)، وكماشة السلطة تطبق بفكيها على حقوقهم فضلاً عن أشخاصهم التي تتعرض إلى شتى أنواع القتل والتنكيل.
كان سليم قد سجل مشاهداته في كتابه وأرشف أحداثه في أحاديث لم تتعد عن المشاهدة فضلاً عن السماع عن المعصوم، فكان دقيقاً جداً إذ لم يسجل في كتابه إلا ما سمعه من المعصوم أو ما شاهده عياناً فمثلاً يقول: وليس منها حديث أسمعه من أحدهم إلا سألت عنه الآخر حتى اجتمعوا عليه…(1) وفي رواية أخرى تثبت تأكده عما سمعه بقوله: قلت لعلي عليه السلام: يا أمير المؤمنين إني سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئاً من تفسير القرآن ومن الرواية عن النبي(صلى الله عليه وآله) ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم…(2)
وقوله: فحدثت أمير المؤمنين(عليه السلام) بالكوفة بما حدثني به سلمان وأبو ذر والمقداد… إلى آخر الرواية(3)….
من هنا اكتسب كتاب سليم بن قيس أهمية قصوى على الصعيد العلمي وشهد بصحته جهابذة العلم وثقاة الطائفة وأجلة الأصحاب حتى أنه لم ينل كتاب من الحظوة والتقدير والاحترام كما ناله كتاب سليم، ولعل في شهادات علمائنا على عظمة كتاب سليم أمراً يفوق تصور الثناء والتبجيل وقد استحق ذلك لكونه أول مشروع يكون شاهداً على أحداث فترة بعيد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) الحرجة على أهل البيت(عليهم السلام) وعلى شيعتهم.
ولسنا نغفل عن توثيقات الأئمة أنفسهم لهذا الكتاب مما حدى بعلمائنا أن يتعاطوا مع هذا الكتاب بأسلوب يختلف عن تعاطيهم مع الكتب الأخرى وسنجد هذه التوثيقات الصادرة عن أهل البيت(عليهم السلام) تدلل على عظمة الكتب واكتسابه صفة الوثاقة المطلقة التي لا يتخللها أدنى احتمال تضعيف أو سبب للتشكيل.
وإليك بعض توثيقاتهم عليهم السلام لهذا الكتاب:
أولاً: الإمام زين العابدين(ع)
عن أبان قال: فحججت من عامي ذلك فدخلت على علي بن الحسين عليه السلام وعنده أبو الطفيل بن وائلة صاحب رسول الله(صلى الله عليه وآله) وكان من خيار أصحاب علي(عليه السلام)، ولقيت عنده عمر بن أبي سلمة ابن أم سلمة زوجة النبي(صلى الله عليه وآله). فعرضته ـ يعني: كتاب سليم ـ عليه وعلى أبي الطفيل وعلى علي بن الحسين(عليهما السلام) ذلك أجمع ثلاثة أيام ـ كل يوم إلى الليل ـ ويغدو عليه عمر وعامر، فقرأه عليه ثلاثة أيام فقال عليه السلام لي: (صدق سليم رحمه الله هذا حديثنا كله نعرفه، وقال أبو الطفيل وعمر بن أبي سلمة: ما فيه إلا وقد سمعناه من علي صلوات الله عليه، ومن سلمان ومن أبي ذر ومن المقداد(4).
ثانياً: الإمام محمد الباقر(ع)
في حديث رواه سليم بن قيس في كتابه فعرضه على علي بن الحسين(عليهما السلام) فأقره، ثم قرأه أبان على محمد بن علي(عليهما السلام) فصدقه.
قال أبان فحججت بعد موت علي بن الحسين(عليهما السلام) فلقيت أبا جعفر محمد بن علي(عليهما السلام) فحدثته بهذا الحديث كله لم أترك منه حرفاً واحداً. فاغرورقت عيناه، ثم قال: صدق سليم قد أتاني بعد أن قتل جدي الحسين(عليه السلام) وأنا قاعد عند أبي فحدثني بهذا الحديث بعينه، فقال له أبي: صدقت، قد حدثك أبي بهذا الحديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام) ونحن شهود…(5).
ثالثاً: جعفر بن محمد الصادق(ع)
روى العلامة المامقاني عن الإمام الصادق(عليه السلام) في شأن كتاب سليم بن قيس قال: من لم يكن عنده من شيعتنا ومحبينا كتاب سليم بن قيس الهلالي فليس عنده من أمرنا شيء، ولا يعلم من أسبابنا شيئاً، وهو أبجد الشيعة وهو سر من أسرار آل محمد…(6).
هذا ما نقله التاريخ عن اهتمام أئمة أهل البيت(عليهم السلام) بكتاب سليم وكونه أصل من أصول حديثهم، ومنبع من منابع علومهم حتى صار هذا التوثيق يأخذ مناحي عدة في كلمات علمائنا رضوان الله عليهم.
فقد وصف بأنه أول ما كتب في تاريخ أهل البيت(عليهم السلام)، وهذا يعني أن التاريخ الوثائقي كان على يد سليم بن قيس، وأرشفة الأحداث والوقائع التي وقعت بعيد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله) كانت من اهتمامات سليم بن قيس وعلى هذا فيحق لنا أن نسميه (برجل التاريخ) و(المؤرخ الوثائقي) و(ورائد التدوين) وهذه شهادة علمائنا رضوان الله عليهم في هذا الشأن:
1ـ المحدث القمي قال في الكنى والألقاب: هو أول كتاب ظهر للشيعة معروف بين المحدثين(7).
2ـ أن كتاب سليم بن قيس الهلالي الذي يبتغي أن يقال في شأنه أنه أقدم وأفضل من جميع كتب الإمامية كما اعترف به المجلسي في مجلد الفتن من البحار…(8).
3ـ العلامة السيد الخونساري محمد باقر قال في روضات الجنات: أما كتابه ـ أي كتاب سليم ـ المشار إليه فهو أول ما صنف ودون في الإسلام وجمع فيه الأخبار(9).
4ـ السيد شهاب الدين المرعشي النجفي في هامش إحقاق الحق قال: هو من أقدم الكتب عند الشيعة…(10).
إضافة إلى ما ذكره السبكي في كتابه محاسن الرسائل في معرفة الأوائل: أن أول كتاب صنف للشيعة هو كتاب سليم بن قيس الهلالي(11).
هذا شأن الكتاب الرائد في مجال تدوين التاريخ، إلا أننا لا نغفل عن كلمات الثناء من قبل العلماء في عظمة الكتاب واعتباره من الأصول الأوائل المعتبرة.
1ـ السيد جمال الدين بن طاووس قال في كتابه حل الإشكال على ما حكاه عنه صاحب المعالم في التحرير الطاووسي: تضمن الكتاب ما يشهد بشكره وصحته كتابه(12).
2ـ العلامة محمد تقي المجلسي قال في روضة المتقين: أن الشيخين الأعظمين حكما بصحة كتابه، مع أن متن كتابه دال على صحته(13).
3ـ العلامة السيد مصطفى التفريشي قال في نقد الرجال: والصدق مبين في وجه أحاديث هذا الكتاب من أوله إلى آخره(14).
4ـ الشيخ عبد الحسين الأميني النجفي قال في كتاب الغدير بعد كلامه عن كتاب سليم: وإنما ذكرنا هذا الإجمال لتعلم أن التعويل على الكتاب مما تسالم عليه الفريقان وهو الذي حدانا إلى النقل عنه في كتابنا هذا(15).
5ـ السيد محمد صادق بحر العلوم قال في مقدمته على كتاب سليم: قد حقق هؤلاء الأعاظم صحة نسبة الكتاب إلى سليم وأنه معتبر غاية الاعتبار وأخباره صحيحة موثوق بها… فإذن الكتاب لا شبهة فيه ولا ريب يعتريه(16).
قصة الكتاب:
تمثل قصة انتقال كتاب سليم إلى أبان ومن ثم إلى ابن أذينة وبعده تناقلته الأجيال من جيل إلى جيل، تمثل هذه المراحل المعاناة التي تعرض لها أهل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم، كما أنها تمثل المحنة التي عاشها الكتاب وهو يعيش مخاضات مرحلة حبلى بالتحديات لفكر أهل البيت(عليهم السلام) وحقوقهم.
كان سليم قد أودع مشاهداته لفترة ما بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) في كتابه، وكان كتابه هذه خزانة أحداث هائجة بالتصفيات الفكرية فضلاً عن التحديات السياسية التي يعانيها أهل البيت(عليهم السلام)، وقد مثل أبشع صورة الحجاج بن يوسف الثقفي الصنيعة المروانية الذي لاحق شيعة علي(عليه السلام) بأسلوب يتنافى والقيم الإنسانية فضلاً عن الدينية وسعى إلى تصفيتهم بشكل لا يدع الشك باستخدام أسلوب القتل الجماعي الذي مارسه الحجاج طيلة فترة حكمه.
وكان ممن طالتهم ملاحقة الحجاج هو سليم بن قيس الهلالي حتى دعته ينتقل من بلد إلى بلد حاملاً كتابه الذي يعتبره وديعة لا يمكن التفريط بها دون أن يبوح بسره هذا، ودعته الملاحقة للإنتقال إلى بلاد فارس والإقامة في مدينة (نوبندجان) القريبة من شيراز، وكانت المصادفة السعيدة أو قل الرعاية الإلهية أن تهيء لقاءً غير مرتقب بين المهاجر سليم بن قيس الكوفي وبين شاب يتطلع إلى الحقيقة متحرراً من تقليدية الفكر الموروث الذي أخذه إلى مجاهل لا يجد فيها ضالته، كان أبان بن أبي عياش متطلعاً لمعرفة الحق وكان سليم يراقبه عن كثب ولم تمنع سنواته المبكرة أن يرشحه سليم لأخطر مهمة، وهي مهمة حفظ الأمانة وحمل الوديعة التي طورد من أجلها سليم وآلاف مثل سليم.
وكان أبان ذو فكر ثاقب وحرية معرفية يستشعرها حين يطلب من سليم أن يملي عليه مشاهداته في ذلك اليم العصيب الذي انقض على الحق وأهله فكان أبان يسأل سليماً عن مجريات التاريخ وكان سليم يرى في أبان ذلك الأنموذج الذي يقرأ فيه ثورة فكرية عارمة، فكان يحدثه عن أمير المؤمنين(عليه السلام) وعن سلمان وأبي ذر والمقداد وعمار وأمثالهم وكان يغمره بحقائق ما جرى، وأبان يتلقى الحقائق بكل شوق ولهفة ويتزود من علوم سليم ما يظن بها على غير أبان.
وحين بلغ أبان مبالغ المعرفة والتفقه في أمر آل محمد صلوات اله عليهم كان سليم يدرك أن أبان هو صاحب الأمانة التي سيتلقاها قريباً بعيد موته، فلما أحسن سليم بنزول الموت فيه دعا أباناً إلى تحمل المسؤولية في حمل كتابه فقد جرب ما في أبان من التطلع إلى المعرفة وقد سمع أبان ما في كتاب سليم حين حدثه بمحتويات الكتاب وأخذ عليه عهد الله تعالى أن لا يبوح بأمر الكتاب مادام سليم حياً وأن يدفعه إلى ثقاة شيعة علي(عليه السلام) فيما إذا نزلت بأبان نازلة، وقد تلقى أبان هذه الأمانة بكل فخر وسعادة وهو يحمل من أسرار آل محمد(صلى الله عليه وآله) ما لم يحظ به أحد، والعجيب في أمر أبان أنه حمل هذه الأمانة وهو لا يزال في السادسة عشر من عمره وهذا ما يبعث الفخر والاعتزاز في نفس أبان أن يخص بهذه المهمة وهو بعد في مقتبل تفتحه الفكري مستقبلاً لأسرار لا يحتملها إلا ذوو الشأن والعقيدة الصحيحة، حتى عد تسليم سليم لكتابه أباناً توثيقاً له وشهادة لحسن عقيدته واستقامة فكره.
وإذا كان هذا حال كتاب سليم يحمل فيه من أسرار سنوات عجاف ألقت بكلكلها على صدر الحقائق فبعثها مقروءة بعين الحاكم لا يعين الحقيقة، وقد أدى مشروع سليم هذا إلى كشف ما لم يستطع أحد كشفه لو لا توثيقه هذه الوقائع في أرشفة من مجاميع ليودعه كتابه، وحين انتشر هذا الكتاب واطلعت الأمة على واقع الأحداث لم يكد علماء السلطان أن يحتملوا ما وجدوه في كتاب سليم فكيف الطعن على سليم بعد أن عرفت استقامته لتكتمه على أمر الكتاب، إلا أن أبان حين نشره للكتاب وروايته له وجه المخالفون سهام حقدهم لأبان ورميه بشتى تهم التضعيف والتنكيل حتى وصل الأمر في تسقيط أبان إلى استخدامهم كلمات التضعيف في حقه بما لم يسبقهم إليه أحد وإليك عرضاً فيما قالوه في أبان تضعيفاً له واجتناباً لرواية كتاب سليم بن قيس الهلالي.
أولاً: قال شعبة بن الحجاج فيما نقله شعيب بن حرب أنه سمع شعبة بن الحجاج يقول: لأن أشرب من بول حمار حتى أروي أحب إليّ من أن أقول: حدثنا أبان بن عياش(17).
ثانياً: أحمد بن حنبل قال عن أبان: هو متروك الحديث، ترك الناس حديثه منذ دهر وقال: لا يكتب عنه قيل: كان له هوى وقال: كان منكر الحديث(18).
وتعبير كان له هوى ـ أي كان له هوى في التشيع ـ وهذا في نظرهم موجب لإسقاط روايته.
ثالثاً: يحيى بن معين قال: متروك(19).
رابعاً: النسائي قال: متروك، وقال: ليس بثقة(20).
خامساً: أحمد بن علي الأبار قال فيما رواه العقيلي عنه: رأيت النبي(صلى الله عليه وآله) في المنام فقلت: يا رسول الله أرضى أبان بن أبي عياش، قال: لا(21).
إلى آخر قائمة المضعفين له والمسقطين لروايته، وإذا استعرضنا أولئك الذين شهدوا باستقامته لرأينا العجب في شهادتهم بصلاحه والإجماع على ترك روايته وهذا ديدن أولئك الذين رموا شيعة أهل البيت(عليهم السلام) ورواة أحاديثهم بالضعف لمنع رواياتهم عن الانتشار.
1ـ قال أبو حاتم: متروك الحديث وكان رجلاً صالحاً لكنه بلي بسوء الحفظ(22).
2ـ أبان حيان قال: كان أبان بن أبي عياش من العباد الذين يسهرون الليل بالقيام ويطوون النهار بالصيام، سمع عن أنس أحاديث وجالس الحسن فكان يسمع كلامه ويحفظ، فإذا حدث ربما جعل كلام الحسن عن أنس مرفوعاً وهو لا يعلم ولعله روى عن أنس عن النبي(صلى الله عليه وآله) أكثر من ألف وخمسمائة حديث ما لكبير شيء منها أصل يرجع إليه(23).
3ـ الفلاس قال: متروك الحديث وهو رجل صالح(24).
إلى غير ذلك من الشهادة بصلاحه واستقامته وفي الوقت نفسه التسالم على عدم الأخذ بروايته لتشيعه ولرواية كتاب سليم.
ولا يهمنا ذلك بعد أن نقرأ ما قاله ابن قتيبة في حقه شاهداً على عظيم منزلته وعلو مقامه حيث قال: وكانت تفخر عبد القيس بأن بين مواليها أبان بن أبي عياش الفقيه(25).
هذا هو حال الرجل ـ أبان ـ عند العامة، أما عند علماء الإمامية فقد تسالموا على صلاحه وتوثيقه إلا ما ظهر من ابن الغضائري في تضعيفه حيث قال: تابعي ضعيف جداً روى عن أنس بن مالك وروى عن علي بن الحسين(عليهما السلام)، لا يلتفت إليه(26).
وتبعه على ذلك العلامة الحلي في رجاله فقال: والأقوى عندي التوقف فيما يرويه لشهادة ابن الغضائري عليه بالضعف.
وقد أثبت السيد محسن الأمين أن مرجع تضعيف أبان هو ابن الغضائري وحاله معلوم في تضعيف الرجال.
قال السيد الأمين في أعيانه: الظاهر منشأ تضعيف الشيخ له قول ابن الغضائري، وصرح العلامة بأن ذلك منشأ توقفه فيه كما سمعت، وابن الغضائري حاله معلوم في أنه يضعف بكل شيء ولم يسلم منه أحد فلا يعتمد على تضعيفه(27).
وكتاب ابن الغضائري لم يثبت له، ولو ثبت له فهو لابنه أحمد وهو ليس كأبيه الحسين بن عبيد الله الغضائري الذي هو من شيوخ الاجازة، ومع كل هذا فنحن نجل حتى أحمد بن الحسين من هذا الكتاب، وأكاد أجزم أن كتاب ابن الغضائري موضوع من قبل المخالفين الذين حاولوا الطعن على رواة الشيعة وعلى لسان أحمد بن الغضائري(28) علماً أن كتاب الغضائري غير موجود بل هو موزع في كتاب ابن طاووس وهذا ما ذكره العلامة آغا بزرك الطهراني في الذريعة وقال في آخر كلامه رحمه الله: أن نسبة كتاب الضعفاء هذا إليه مما لم نجد له أصلاً حتى أن ناشره قد تبرأ من عهدته بصحتهن فيحق لنا أن ننزه ساحة ابن الغضائري عن الإقدام في تأليف هذا الكتاب والاقتحام في هتك هؤلاء المشاهير بالعفاف والتقوى والصلاح المذكورين في الكتاب والمطعونين بأنواع الجراح، بل جملة من جراحاته سارية إلى المبرئين من العيوب(29).
وقال السيد الخوئي رحمه الله في معجم الرجال: أما الكتاب المنسوب إلى ابن الغضائري فهو لم يثبت ولم يتعرض له العلامة في إجازته وذكر طرقه إلى الكتب…(30).
هذا أقصى ما أخذ على كتاب سليم، وهو تضعيف ابن الغضائري لأبان وقد عرفت حال كتاب ابن الغضائري ولنتساءل ما الذي فعله أبان بعيد استلامه من سليم كتابه وقد أخذ عليه العهود والمواثيق بحفظه وعدم التفريط فيه، وكيف تناقله الرواة حتى أوصلوه إلينا؟
انتقل أبان إلى البصرة وأقام فيها، وكان له شأن بين أوساط الشيعة وقد اتصل بزعيم الشيعة في البصرة وقتذاك عمر بن أذينة واطمئن إليه وعرف
دينه ووثاقته، وكان مما عرض لأبان وقد بلغ من العمر السادسة والسبعين رؤيا عجيبة، حيث رأى سليم وأعلمه بموته وأوصاه بحفظ الوديعة وعدم التفريط فيها.
قال سليم لأبان في الرؤيا: يا أبان، إنك ميت في أيامك هذه، فاتق الله في وديعتي ولا تضيعها وفاءً لي بما ضمنت من كتمانك ولا تضعها إلا عند رجل من شيعة علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وآله، له دين وحسب(31).
وتعجب أبان من هذه الرؤيا الصادقة التي تحققت بعد شهر من موعد وفاته، وفعلاً عندما حان أجل أبان بالموعد الذي أوعده سليم في الرؤيا انتقل إلى جوار ربه وبعد شهر من الموعد الذي ضربه له سليم، إلا أن أبان لم
يضيع وديعته فقد حدث بذلك عمر بن أذينة بالرؤيا وذكر له ما في الكتاب، فازداد ابن أذينة شوقاً لما سمعه من أبان وتقبل حمل الكتاب ونقله وحفظه لديه، وبعدما رحل أبان من دار الدنيا عمد ابن أذينة إلى الكتاب فنقله إلى من يثق بصلاحه ودينه منهم: (ابن أبي
عمير، وحماد بن عيسى، وعثمان بن عيسى، ومعمر بن راشد البصري، وإبراهيم بن عمر اليماني، وهمام بن نافع الصنعانين وعبد الرزاق بن همام الصنعاني).
فقام هؤلاء بنسخ الكتاب ورووه مرة عن سليم بدون واسطة ولعله يقصدون بذلك رؤيتهم لنسخة سليم الأصلية، ومرة يروون بالإسناد عن عمر بن أذينة عن أبان بن أبي عياش وهكذا أخذ الكتاب طريقه في الانتشار حتى صار من أهم الأصول الإمامية التي يعول عليها دون أدنى ريب.
وأهم ما كان في الكتاب من رواية ـ وإن كان جميعها من الأهمية بمكان ـ ما نقله من أحداث جرت على فاطمة الزهراء(عليها السلام) وما كان من هجوم القوم على دارها وإسقاطها محسناً وكسر ضلعها، بما يشجي الغيور ويهيج الوجدان والشعور، حتى كانت قرائح الشعراء أثرها في إثبات ما ورد في كتاب سليم وما رواه عن سلمان وغيره من الأصحاب فكانت هذه الروايات ثقتها معتمدة على أصل سليم شهرة وتسالماً، حتى كان للسيد محمد بن السيد مهدي القزويني منظومته الرائعة في إثبات واقعة الإسقاط بالإشارة إلى كتاب سليم وما رواه عن سلمان بقوله:
وا عجباً يستأذن الأمين
عليهم ويهجم الخئون
قال سليم قلت يا سلمان
هل دخلوا ولم يك استئذان
فقال أي وعزة الجبار
ليس على الزهراء من خمار
لكنها لاذت وراء الباب
رعاية للستر والحجاب
فمذ رأوها عصروها عصرة
كادت بروحي أن تموت حسرة
تصيح يا فضة أسنديني
فقد وربي قتلوا جنيني
فأسقطت بنت الهدى واحزنا
جنينها ذاك المسمى محسنا(32)
وهكذا يبقى كتاب سليم من أهم الأصول وأوثقها يحكي لنا قصة محنة آل النبي(صلى الله عليه وآله) ويؤكد في حفظ كتابه ونقله وإيصاله إلى أيدينا محنة كاتب جاهد وحامى عن حياض كلمة الله لتكون هي العليا.
نشرت في العدد 12
(1) كتاب سليم بن قيس، 558.
(2) نفس المصدر، 620.
(3) نفس المصدر، 827.
(4) نفس المصدر، 559.
(5) نفس المصدر، 629.
(6) المامقاني، تنقيح المقال 2/ 54.
(7) القمي، الكنى والألقاب 3/ 243.
(8) مقدمة كتاب سليم بن قيس، للمحقق الفذ الشيخ محمد باقر الأنصاري ص: 85.
(9) الخونساري، روضات الجنات 4/67.
(10) إحقاق الحق، 1/ 55.
(11) مقدمة كتاب سليم بن قيس ص: 85.
(12) نفس المصدر، 108.
(13) نفس المصدر، 109.
(14) نقد الرجال، 159.
(15) الأميني، الغدير 1/ 195.
(16) مقدمة كتاب سليم بن قيس ص:113.
(17) ابن حجر، ميزان الاعتدال 1: 10.
(18) تهذيب التهذيب 1/ 97.
(19) ابن حجر، ميزان الاعتدال 1/ 11.
(20) المصدر السابق.
(21) المصدر السابق.
(22) تهذيب التهذيب 1/ 97.
(23) ابن حجر، ميزان الاعتدال 1/ 12.
(24) تهذيب التهذيب 1/ 97.
(25) ابن قتيبة، المعارف ص:239.
(26) مقدمة كتاب سليم ص:221.
(27) المصدر السابق.
(28) الأمين، أعيان الشيعة 5/ 50.
(29) آغا بزرك، الذريعة 4/ 290.
(30) الخوئي، معجم رجال الحديث 1/102.
(31) مقدمة كتاب سليم ص:65.
(32) الحلو، موسوعة أدب المحنة ص:307.