نستعرض هنا دراسة لهذا الكتاب من وجهة نظر محايدة ليس لها في عمر أو التشيع سوى الحقيقة..
وهي قراءة لا تقوم على أسانيد وأحاديث وأصول أو تدخل في اتجاهات الفرق والمذاهب لتأتي برد قائم على أسس عقائدية.
وإنما تم ذكر بعض الهوامش ليطلع القارئ الكريم على أسس هذه القراءة النقدية.
فهي تدوين لمضمون (عمر والتشيع) ولكن بقلم آخر ورؤية من جانب آخر لما جاء فيه التماسا للاختصار والأخذ بالمفيد في الرد.
(عمر والتشيع) أصدره الكاتب في زمن كان يشهد العراق وهو مركز الشيعة في العالم.. صراعات واضطرابات هي الآثار الجانبية لحرب أذاقته الموت والدمار وهو يعتقد أن التنسيق بين الوقائع التاريخية سيكون له دور في تجفيف انهار الدم وإطفاء غلواء الجفاء والتباعد.
ولكن الوقائع التاريخية براء من هذا الإرهاب الذي سقط العالم بين رحاه، إنما هي النفس البشرية التي لم تحصن بالمعرفة ولم تبحث عن الحقيقة بل استكانت إلى الجور والزيف..
وأيا كان فان الفكر الديني المتحرر الذي لا تغله قيود جهة أو طائفة أو فئة وهو قمة الوعي الرسالي واللسان الناطق باسم الإسلام.. وبه تعتق الأمة من سياسة التكفير وفتاوى التسقيط والتشويه.
غالى (حسن العلوي) في الخليفة الثاني.. ويستدل أدلته من شخصية عمر نفسها ومكوناتها بادئا من الطفولة والفتوة إلى أن يدخل الإسلام حياته.
ويخرج بين هذه المكونات ما يطرأ عليها من أحداث وبهذا يكوّن البنية الأولى التي يجعلها دليلًا لتوليه الخلافة.. وانه الشخص المناسب لها.
وباستناده إلى تلك الصفات والمميزات التي تحملها شخصية عمر يعطي الشرعية له في إقامة السقيفة التي أخذت بالدين نحو النماء والكمال كما يرى الكاتب.
وبعدها يمشي العلوي في سيرة عمر خلال خلافته وما اعترضتها من عوارض آخذًا منها أدلة يستنبطها لكي يستمر في إعطائه صفة الشرعية على حكمه ومن ولّاهم من بعده، دون أن يتطرق إلى الأحداث التي جارت ذلك..
فالكاتب يريد أن يبتعد عن مجاراة أحداث لا يرغب في إثارتها خوفًا من الخروج عن مسيرة موضوعه.
وكذلك نحن في قراءتنا سنساير الكاتب ولن نتطرق إلى ما تركه من أحداث جارت زمن عمر وقبله وبعده.. مقتصرين على البحث في نطاق ما ذكره دون الخروج إلى ما لم يخض فيه.
يبدأ الكاتب بتصوير شخصية عمر في البادية وقبل الإسلام، واصفا إياه بأنبل صفات العرب..
فيجعل منه شخصية مركبة أخذت محاسن العصر الجاهلي وانتقت مفاهيم العصر الإسلامي بدقة فأضحت شخصية جذابة للصفات والمؤهلات فضلا عن المظهر الهيكلي الذي ساعده ـ برأي المؤلف ـ على أن يفرض سيكولوجيته على قومه ويثير الدهشة والزهو في النفوس فهو الصارم المتقد النبيل والغيور والمفعم بالإحساس…
ثم ينتقل الكاتب إلى السقيفة دون أن يتطرق إلى أين تنزوي شخصية عمر في الحروب والحملات وأين تتجلى صفاته في العقبات التي واجهها الإسلام حين نشوئه.
فهو يغيب عن ذلك سواء في التاريخ أو في أسطر كتابه (قفل الأمة)..
فهذا البطل الصارم يفر من الزحف يوم حنين(1)..!!!
ولنتابع.. فالسقيفة في نظر العلوي هي فتح المسلمين وعمر هو العبقري الذي اخترع الابتكار الأعظم الذي صان الإسلام من التقهقر في أجواء القبلية وأسنة الكفر.. فابتكر السقيفة قبل أن يُجهَز على الدين فيضيع سعي النبي هباءً..
فالسقيفة مجهود فكري جبار نال عمر شرف ابتكاره.. ولا ندري كيف نرد له صنيعه لأنه تدارك كبوة الإسلام وحمى دين النبي الذي رحل دون أن يجعل من بعده قائدا يسير بهذا المد المتسع إلى بر الأمان ويرسي أسس هذا الدين الفتي. (هذا ما يراه الكاتب).
وتناسى اعترافات عمر بقصوره عن اقل المستويات العلمية،
فهذا احمد بن حنبل يروي في مسنده (عن ابن جدعان قال: سمع عمر رجلاًًً يقول: اللهم اجعلني من الأقلين فقال عمر: يا عبد اللّه وما الأقلون؟، قال: سمعت اللّه يقول: وما آمن معه إلاّ قليل، وقليل من عبادي الشكور وذكر آيات آخر، فقال عمر: كل أحد أفقه من عمر)(2).
وما ذكر السيوطي عن علم عمر.
– أخرج إبن المنذر، عن أبي وائل: أن عمر سئل عن قوله: وأَبّا، ما الأب؟ ثم قال:
– وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف، عن أنس قال: قرأ عمر: وفاكهة وأبّا فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب ثم قال: نهينا عن التكلف(3). وفي رواية.. (ما كُلِّفنا هذا أو ما أُمرنا بهذا)
ومثل ذلك جهله في معنى الكلالة(4) وفي أحكام الطلاق(5) والغسل والوضوء(6) إلى آخره من تلك السلسلة غير العلمية والتي غض الطرف عنها حسن العلوي بل تجاهلها، ولا يسع المقام هنا سوى للإشارة إليها.
ونكتفي بالرد على الناحية العلمية والثقافية لعمر بما تقدم..
هذا الشخص بتلك اللّا مؤهلات يقود الأمة أفضل من قيادة نبيها (بسقيفته العبقرية)!!
يا لعمر.. انه المفكر الذي يعرف بالدين أكثر من رسوله(صلى الله عليه وآله)، انه ينقذ الإسلام، لان نبيه(صلى الله عليه وآله) لا يدري كيف ينقذ الأمة، ولم يفكر بإنقاذها قبل أن تداهمه المنية.. ولا يدري مؤسس هذا المشروع الذي امتد إلى أطراف الأرض أن ينتخب من هو أجدر في الحفاظ عليه..
فلا يكون سوى إحدى نتيجتين:
الأولى: أن عمر أكثر خوفا وحرصا على الإسلام من نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله)، أو أن يكون نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله) قد نسي أو فاته ما لم يفت عمر أو ينساه بسبب عبقرية الثاني وفطنته..
كاتبنا لا يمر بأحداث ما قبل السقيفة لأنه يدري أن مروره عليها سوف يستوقفه ويسائله عن عبقرية عمر وقراراته ومن أين استمد الشرعية ليلقيها على أفعاله !! أمن كتاب أو من قول رسول؟!
لذلك ينأى الكاتب بعيداً عن ذلك فاراً من استعراضه.. بحجة عدم الخوض في بطون العقائد.
فغدير خم.. أول كارت أحمر يرفع في وجهه.. لينبهه أن إلقاءه وطرحه زل عن الاتزان والاستقامة. ومن قبله اعتراض عمر على النبي(صلى الله عليه وآله) في صلح الحديبية.
والسقيفة في نظره مجردة عن النوايا التي أنجبتها.
وليت شعري لو كان أي فرد قد أمال دفة أمته بحجة تفكيره وقناعته لما بقيت امة على وجه الأرض تحظى بالحياة !!
فلا ادري بأي دليل يتسلح الكاتب حينما يرى أن عمر عبقري وفذ لأنه ابتكر السقيفة التي ـ بنظره ـ أنقذت الدين من الهلاك.. ويسلبها من معلم البشرية ومنقذ الإنسانية من الضياع فلا يجد عنده أدنى فكره عن إدارة هذا المشروع العظيم وكيف يحفظ في غيابه!!
نعم فصاحب الرسالة’ الذي ملأ الخافقين ذهولاً بإدارته وحارت بشخصيته أقلام المفكرين والأدباء والأعلام.. قائد الفتوحات والحملات رجل الدولة الإسلامية يترك الأمة من بعده إلى لا شيء..
أو يتركها لاجتهادات عمر، وغيره وقراراته، فربما هم أدرى منه!!
وبذلك فالسقيفة التي أدارتها أياد القبلية وأولدتها الدسائس من أجل الوصول للسلطة، تصبح فتحًا للمسلمين!!
ولنا هنا على عبقرية السقيفة تعليق..
أن فكرة الاستيلاء على الخلافة لم تكن وليدة السقيفة والتي يصورها الكاتب بمجلس طوارئ لإنقاذ الأمة من الفراغ الذي يتركه فقدان النبي(صلى الله عليه وآله) وضرورة الإسراع بتسنم شخص دفة القيادة كي لا يسقط لواء الإسلام!!
إنما السقيفة تلك جاءت نتيجة لعمل منظم ومنسق كان يقوم به عمر ومن تبعه على مخططاته ممن كان لهم الدور الفاعل في إنجاح مشروع السقيفة..
ويبدأ هذا التخطيط من محاولة خلافة النبي(صلى الله عليه وآله) في إمامة الصلاة أيام مرضه(صلى الله عليه وآله)(7).
ومثلها التخلف عن جيش أسامة وعصيان أوامر النبي(صلى الله عليه وآله) جهراً(8)، وكذلك منع النبي(صلى الله عليه وآله) من كتابة وصيته(9)، هذا كله قبل رحيل النبي(صلى الله عليه وآله)، وسيأتي ما كان بعد ذلك..
السقيفة التي يصورها الكاتب بالفتح وبعملية الإنقاذ للدين الحنيف، وقد فرضتها آنذاك الظروف في نظره، فالفراغ في السلطة قد هدد بتصدع الإسلام وكان لابد من وجود صيغة تطبيقية لإنقاذ الأمة.. فكان هذا الإرث الخفي وهو السقيفة.
ولكي يضفي الكاتب عليها غطاء الشرعية فقد جهز لها ذلك من خلال تحليل الوقائع تحليلاً خاصًا:
أولها: إسقاط الرواية في عمر بقوله في بيت الرسول عندما حضرته الوفاة: (إن الرسول يهجر).. فحسن العلوي لا يرى أي داع لمواجهة هذه الرواية لأنها عارية عن الصحة ومسلوبة الثقة..
على الرغم من أن رواة أبناء العامة وأئمتهم كالبخاري ومسلم(10) وابن حنبل(11) وابن تيمية(12) والنسائي(13) والهيثمي(14) وابن سعد(15) وغيرهم يؤكدون حضور الصحابة في بيت النبي(صلى الله عليه وآله) حين احتضاره وتذكرها مصادرهم بصورة مختلفة عما عند الشيعة..
ويجدر هنا الإشارة إلى أن أبا بكر عندما حضرته الوفاة قام عمر قائلا: اسمعوا لخليفة رسول الله، قد رضيني لكم(16)..
يقول عمر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) انه يهجر ولا يسمح لأحد بأن يأتي بالدواة والكتف، ويمنع النبي(صلى الله عليه وآله) من الوصية ولكنه وبنفس العزيمة يحث الناس على السماع لوصية أبي بكر بتعيينه خليفة له..
أترك للقارئ التعليق على هذا الموقف، ولكي يتضح جليا أين وضع (ضميره) كاتبنا العلوي عندما كتب كتابه.
ويحاول العلوي عبثا أن يسقط إحدى التهم لتضيء عتمة السقيفة قليلًا من خلال تزيينها وإظهارها بصورة تخالف ما نقله التاريخ وقد تقدمت مصادره..
ثانيها: الفراغ أو الفجوة التي أحدثها رحيل الرسول(صلى الله عليه وآله) وتأزم الوضع آنذاك والاضطراب الذي بدأ يزحف إلى مفاصل الدولة الإسلامية الفتية فكان لابد من إجراء فوري وطارئ يعيد لها اتزانها ـ وكأن الرسول(صلى الله عليه وآله) رحل على حين غرة.. سقط شهيدا أو لقي حتفه فجأة.. أو غاب في ظلمات الغيب ـ ..
وكأن الرسول(صلى الله عليه وآله) قائد الأمة ومؤسس لدعائم الدين اغفل من بعده من يحيل إليه أمر هذه الأمة..
أهو الرسول الذي سها عن ذلك فأحدث سهوه ثغرة كادت أن تطيح بالدعوة الإسلامية؟!..
أم هي السماء لا تدري أي تداع سوف يضرب هذه الأمة بعد رحيل رسولها فلم تجعل من بعده أمينا على الرسالة وحافظا لنهجها؟؟..
أم أن الدين كان يحتاج لاجتهادات عمر ويفتقر إليها فترك آخر أمره إليه فنظر به وأهداه السقيفة..
لا أدري..!!!
إلى مَ يميل الكاتب.. حين يسترسل في الإطراء على عمر لأنه أدار السقيفة وأحكم عقدها..
ثم يسترسل الكاتب في أطروحته فيقول: إن الإمام علي(عليه السلام).. اتخذ أسلوب المعارضة المسالمة ـ إذا صح التعبيرـ عن رأيه.. فهو طرح للمجتمع نظرية في التعارض والاختلاف لا تقوم على أساس السلاح أو الخطابات وإنما على منهج علمي ومسالم.. وهو الانعزال والتنحي.. ثم بعدها يرى الكاتب أن الإمام وهو من بناة دعائم الدين الأوائل ليس له أن يكون مساهمًا في تقويضها فشرع في الاتصال بأصحاب السلطة… والمشاركة في العملية الإدارية..
ونحن على علم أن الخلافة أخذت قسرا من الإمام علي(عليه السلام)، وان سكوت الإمام عن حقه كان وراءه أسباب، أولها وآخرها يتصل بالدين نفسه(17).
فالإسلام ولد في بيئة حكمتها المواريث القبلية القاسية والتقاليد المتعصبة التي جاء الدين فهدمها وعمل على إرساء مبادئه وتأسيس أركانه كما أرادها الله تعالى..
وبهذه البداية الصعبة التي عاشها الدين ورجاله في صراع مع ارث بدائي في النفوس بدأ الدين حياته في رمضاء الجزيرة.. وعاش فتوته في عصر الرسول(صلى الله عليه وآله)
لكن بعض النفوس التي دخلت الدين خوفًا أو طمعًا مازالت تواقة إلى جذورها والعودة إلى ربوع طبيعتها القاصرة.. وبرحيل رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعلى الرغم من عدم الأخذ بوصيته بقي الدين في مأزق..
فتفشت النزعة القبلية من جديد وبدأت تنتشر بذورها وانطلقت المطامع مدفوعة بشتى الغرائز بلا هوادة تكتسح ما كان يحدها.. ولأن هذا الدين هو دستور السماء المهدد بالقضاء عليه وبذلك تغرق الإنسانية بالتيه والضياع.. فكان علي(عليه السلام) هو باب مدينة علم الرسول(صلى الله عليه وآله) بمثابة طوق النجاة الذي أوصل الدين إلى شاطئ السلامة..
وحركة الإمام هذه يقابلها حسن العلوي وغيره بتجاهل صارخ ويمر بها مرورًا هادئًا دون أن يدر مكامن الحس اللغوي فيه فيكتب بعض السطور في منح هذا الدور العظيم حقه.. فلا تشحن عاطفته ولا يترك لمداده أن يغدق في الوصف والتبيان، فلا يقول أن أمير المؤمنين علي(صلى الله عليه وآله) كان بحق (قفل الأمة) كما وصف عمر.. فالعلوي حسن غير مكترث بذلك الدور القيادي الذي انفق الإمام فيه نفسه من أجل نجاة الإنسانية وتطهيرها من ملوثات المجتمع ودوافع الطامعين..
لكن الحقيقة رغم ما يُلقى عليها من أستار وعتمة تبقى أنوارها على مر الدهر والعقود تشرق ممزقة الظلام الزائف.
وبعد هذا الفتح (السقيفة) ينغمر الكاتب في مديح ثرٍ لشخص عمر في خلافته وزهده وحسن إدارته، فيشهد عصره أيما ازدهار وتمدن فالإدارة السياسية والنظم العسكرية والأمنية تشهد أعلى مستوياتها في النجاح والتقدم وكذلك العدل في الرعية ورغد العيش والفتوحات والعمل والتجارة.. الخ..
فهذه هي الحياة الإسلامية الحضارية وليدة التخطيط الضخم الذي أهدى الإسلام أولى جواهره وهي السقيفة، وطبعا في هذا الوصف (المنصف) لا نقرأ عن الفوضى والاستياء الذي عم الرعية كما تذكر كتب المؤرخين أن في زمن عمر شكت الرعية عدم العدالة في العطاء وسوء التوزيع الذي عرفته بلاد المسلمين في عصره على مصطلحات العنصرية والطبقية وأضحت مهددة بالارتداد إلى الجاهلية، ولعدم التساوي في العطاء أخذت ملامح الدين النبوي الداعية إلى المساواة ـ إلا في التقوى ـ إلى الاندراس.
وفي خضم هذه الرفاهية الأخاذة يذكر الكاتب دون أن يدري أن ما رواه يوقظ في النفس شكاً واستغرابا مما وصفه من دولة عادلة.. فيقول: في زيارة له إلى الشام يدخل عمر على واليه يزيد بن أبي سفيان فيرى القماش متدلياً من الحيطان فيستغرب أن تلبس الحيطان ثيابا زاهية من مصنوعات حلب ودمشق، فاتجه إليها وشرع يقطع أوصالها قائلا: ويحك! أتلبس الحيطان ما لو ألبسته قوماً من الناس لسترهم من الحر والبرد؟!.
هذا هو رد الخليفة العادل المنصف.. وهذا فعله لمواجهة إسراف ولاته على الأمصار.. عمر الذي يصفه الكاتب بأنه عادل لا تأخذه لومة لائم في أمور المسلمين يشرع بتقطيع الحرير فحسب.. دون أن يعزل واليه يزيد وينحيه من مقامه.. ولا أعلم سبباً لأحجام عمر العادل! الفاروق عن مبادرة توقف هذا الإسراف في أموال المسلمين من قبل واليه، ولعل رد عمر هو الأصدق من وصف حسن العلوي لواقع عصره.. إذا تأملناه جيدا.. فقصور مشيدة اتخمها الترف من أموال المسلمين.. ورعية سُلبت أموالها فلا تجد لها ملبساً يقيها من حر أو برد.
وهكذا يستمر الكاتب في عرضه لشخصية عمر وأنه كفؤ للخلافة وهي حقّ له ويسحب لها بعض الشرعية من خلال بسط ذكر بعض المواقف للإمام علي(عليهم السلام) مع عمر وهو بذلك يريد أن يضفي عليها طابع الإقرار من قبل الإمام(عليه السلام) لعمر وكأنه يشير إلى أن مبادرة الإمام من المشاركة في تسيير الدولة من خلال إعطاء المشورة إنما هي موافقة ضمنية وإشارة خضراء لشرعية هذا المنصب وصلاحيته..
ثم يعقب بعد ذكر انجازات عمر.. بأن الإمام علي(عليه السلام) كان المستشار الأول للخليفة !!.. وان عمر كان في أغلب أحكامه يستند إلى مشورة الإمام(عليه السلام)..
ويدفع ذلك الزعم بأن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) ما كان يعطي المشورة لعمر ليبقي عمر على مسند الخلافة أو ليعترف بشرعيته، بل لكي تبقى كلمة الله هي العليا، فهي المصلحة العامة لا أكثر، ومما يؤكد ذلك انه(عليه السلام) كان على خلاف مع عمر وانه كان يكره لقائه، روى البخاري في صحيحه، وهذا نصه (عن عائشة.. فأرسل ـ أي علياً(عليه السلام) ـ إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا احد معك كراهية لمحضر عمر)(18).وأيضا ورد في مصادر أخرى(19).
عمر والعراق..
يجد حسن العلوي أن عمر له علاقات طيبة في كل بلاد الإسلام فمصر والشام والجزيرة ما زالت تحتفظ بالامتنان لعمر..
إلّا أنه بقي عالقًا في العراق.. فأهل العراق لم يحسنوا له الصنيع رغم أنه قد أجزل لهم من أفضاله وأفكاره وأعماله إلا أن البلاد وأهلها أدارت وجهها عن صنيعه ويبقى عمر حائراً!، يُساءل العلوي عن سبب جفاء العراقيين له والعلوي يخوض في صفحات تاريخ العراق عله يجد سببا منطقيا لهذا الإنكار، ولأن هذا البلد أنكر الصنيع فقد سقط في مهاوي الصراعات والانقسامات رغم أن عمر قد حمل له الإسلام ناصعا وواحدا ونقيا..
إذن فأمصار العراق أصبحت في منظار العلوي من اكتشاف عمر وصناعته.. وكأن هذه الأرض التي أثرت التاريخ بعمرها لم يحسب لها وجود إلا بوجود عمر.. الكوفة.. البصرة..
لا ادري لماذا يسعى الكاتب إلى إلصاق كل مثير ومتميز إلى عمر؟ ربما لرغبة في ذاته يعجز عن مقاومتها !..
ولا ادري كيف ترد الأقطار الشكر إلى أمرائها؟!!.. اعتقد إنها ترد ذلك من خلال تأثير الخليفة ونقشه لسياسته على معالم المدينة لكي تبقى تحتضن آثاره وترويها إلى أسماع الزمن.. ولكل مدينة خطوطها وملامحها التي تكتسبها ممن يخطها فلا إنكار ولا تعمد في تضييع الإحسان.. إنما هي المدن يصنعها خلفاؤها فتخلد ذكرهم.. وأيا كان هذا الذكر فهي إما صرح من صروح المجد والعنفوان وصورة ناصعة عن دولة الإنسان.. وإما سلسلة من الظلم والقمع وسياسات الكبت ينوء بثقلها التاريخ.. هذا إذا سلمنا أن عمر صانع المدن التي يشير إليها الكاتب..
متناسيا من الذي نقل عاصمته من المدينة المنورة إلى الكوفة وأكسب العراق الدور السياسي والعسكري وفيما بعد أعطاه البعد العقائدي من خلال انتشار ذريته وأتباعه في هذا البلد وحتى ارتوت أرضه من دمائهم فأثمرت الولاء والتشيع.
القطيعة والمشاركة.. الثنائية الوهمية..
يقول حسن العلوي إن هناك منهجين يتقاسمان الفقه الشيعي في منظوره للخلافة الإسلامية بعد الرسول(صلى الله عليه وآله)..
* منهج القطيعة الذي لا يعترف بأحقية الخلافة للخلفاء الثلاثة ولا يعترف بشرعية السقيفة وأصحابها، وأصحاب هذا المنهج يستندون إلى أن عصيان القوم لوصية الرسول(صلى الله عليه وآله) هو ما يدعو إلى الابتعاد عنهم وعدم الاعتراف بهم..
ويميل هذا الاتجاه إلى التطرف في وصف الخلفاء وأحوالهم.. والى جذب عواطف الناس إلى حال الإمام علي(عليه السلام) وما حل به..
وكذلك يؤكد على فقدان الارتباط بين الجانبين آنذاك ويقطع صلة الحوار والتداخل في الحاضر.. فهو منهج معارض في مضمونه.. رافعا راية (لا).. في وجه المقابل..
* والمنهج الآخر أكثر اعتدالًا وحكمة وهو منهج قائم على مبدأ المشاورة والمبادرة مستدلًا على المشورة التي يقدمها الإمام(عليه السلام) آنذاك إلى الخليفة وتعاونه مع سلطة الدولة بتسيير أمور المسلمين وإدارة شؤونهم من خلال إعطاء النصح والرأي وبذل المشورة والاقتراحات للخليفة.. ولكل منهج رواد..
وربما عنف الكاتب المستبصرين وهم رجال من السنة،تشيعوا..
عنف عليهم قناعاتهم في المنهج المعارض باعتباره منهجا يفتقر إلى لغة العقل والحقيقة كما يستعرض مقاطع من كتاب (ثم اهتديت للتيجاني) وغيره..
ويقول العلوي إن هذا المنهج هو وليد حاجات سياسية ونوايا لدول وقع تحت حكمها الوسط الشيعي قاصدة السوء للدين الإسلامي وجهات مؤسسه لهذا الغرض..
ويميل إلى أن منهج المشاركة هو الغالب الآن أو يكاد أن يغلب بعد أن لم يحصد العامة من القطيعة غير لغة الطائفية والتفرقة والدم والدمار..
ولعل القارئ للتاريخ بوضوح، والمتمعن في غربلة أحداثه وتحكيم المنطق والوعي فيه يجد أن الفقه الشيعي الحق.. الفقه المتين المؤسس على رؤى آل البيت ع.. لا يعترف بهذين المنهجين اللذين يراهما حسن العلوي..
إنما يقوم الإسلام على غدير خم ويوقف أهله هناك فيحكمهم أطاعوا قول رسولهم أم لا.. وعلى هذا الرد.. تسلك الأمة طريقها.. وقد سلكته..
مجردين الواقعة من الآراء والاجتهادات.. آخذيها كما ذكرت في كتب الفريقين من أهل الإسلام.. هذا أولا..
وثانياً: موقف الإمام(عليه السلام) لا يرسم صورتين إحداهما قطيعة والأخرى مشاركة، فموقفه(عليه السلام) نوجزه في زمنين لا فاصل بينهما..
أولهما: انقطاع الإمام وليس قطيعته للحفاظ على الموروث الديني وتدوينه بعد أن استلب من الدين قائده وتلقفته أيدي السقيفة لذلك كان لزاما عليه جمع السنة بما تحويه ووضعها في منج ديني علمي لبناء المؤسسة الإسلامية على الأساس الأول.
ثانيهما: أن مشاركة الإمام في إبداء المشورة والرأي دليل قاطع على أحقيته بها.. ولأنها له.. إذ لو كان عمر أو غيره ممن يستحقونها فما من داع لرجوعهم إلى الإمام(عليه السلام) ومعرفة رأيه.. وما أعطى الإمام نصحه إلا ليستقيم أمر هذه الأمة.. وتسير على منهج القران وأحكامه.. ولكي تستعيد روحها الإسلامية بعد أن غاب عنها المؤسس الأول(صلى الله عليه وآله) وغُيبت وصيته..
بهذه القراءة نجد أن فعل الإمام(عليه السلام) ما كان لتشكيل ثنائية مع عمر أو القناعة بأن الخلافة عند أهلها، وإنما الأمر كله هو الدين الذي ظمأ.. وجف عوده.. وابتعدت عنه الأمة وقادتها لتلبية حاجات في نفوسهم تتقاطع مع أحكامه..
فلا مشورة الإمام تعطي معنى المشاركة والتصريح بشرعية الخلافة ولا انقطاعه لتأصيل جذور الإسلام تصرخ بالقطيعة والتشكي والحث على الفرقة..
إنما هو دور لإخراج الأمة من عقدة الضلال التي هوت بها..
فليس المذهب الشيعي تشطره المشاركة والقطيعة لأنها لا وجود لها وإنما يقوم على مبدأ مصلحة الدين والاحتكام إلى القرآن والعقل.. أما ما وراء ذلك فلا وجود له..
وكذلك فأن دعوة حسن العلوي ربما فيها الاندفاع نحو التقريب بين الفريقين من السنة والشيعة ورغبة في الاندماج والتعارف أكثر.. لكن هذه المبادرة رغم حسنها لا يمكن أن تكون على حساب جهة.. فيبدأ بتهميش أصولها وموقفها وتغييب بعض ما مرت به.. والابتعاد عما تحمله من هوية وتقليص لحجم الأثر الذي خلفته، من اجل توكيد قناعته لدى المقابل وحثه على التقارب..
فلكل فريق وجهة نظر ورؤية في قراءة الأحداث.. وقناعة في فهم الأمور والمجريات.. إنما المعضلة في الآليات التي تصنع هذه الرؤى والمعتقدات فهي تجعل من المواقف مادة متشنجة فيضاف إليها ويمحى أمنها وتزرعها في حاضنات ملتهبة بالتحذير من الرأي الآخر أو السماع له فتشاع وتروج في هذه الصورة المغلقة..وكل من ركن إلى هذه الأدوات فهو في رهان خاسر من أن يربح التاريخ والإسلام لجهته أيا كانت هذه الجهة..
الفقه الشيعي ليس جبهة معارضة دوما تنادي بالتمرد والصراع.. وليس منابر للنوح والتشكي فتجر قادتها إلى منازل ليست لهم من اجل ربح مشاعر المتلقي وكسبه إلى جانبها.. وليس ساحة تنزل إليها الأنظمة السياسية والجهات المغرضة فتتجاذب أسسها وتوظفها لخدمة أغراضها وترتقي على رموزها..
وربما المطلع على آراء مراجعه وقادته يرى اتفاقهم على وحدة الدين مع قبول الرأي الآخر ومناظرته ومناقشته تحت سقف المنطق والعقل دون التعدي عليه أو رفضه..
فلو راجعنا كتابات الشيعة قاطبة لا تجد أي عالم أو فقيه أو مرجع اصدر فتوى بتكفير الفريق الآخر أو وصمه بالشرك..
وقراءة التاريخ بمنظور العقيدة، دون أن تجرفنا رغبة أو عاطفة أو ميل.. فلم نُخلق وفي عروقنا الكره والاتهام والتشهير..
فلو سار العلوي في طرحه على درب الحقيقة دون إغفال بعض الحوادث أو النأي عنها والإقبال على الأخرى فسوف يجد المؤسسة الشيعية دوما تفتح أبوابها للمناظرة والمناقشة.. بعيداً عن التجريح والتسقيط لأن هذه المؤسسة موجودة كما يعرفها العلوي ومؤسسها الإمام علي(عليه السلام) من أوائل بناة الكيان الإسلامي وتأسيس دولة الإسلام فلا يعقل أن ينسلخ هذا النسيج السامي ويركن بالتمرد والعصيان وهو أولى في التقريب أسوة بقائده..
فلا يقوم التقارب بسحق معالم الفقه الشيعي وما يقوم عليه وان كان حسن العلوي أو غيره ذاما المذهب الشيعي على انعكافه على التمسك بالإمامة وعدم اعترافه بسيرة الخلفاء.. فيجب عليه أن يلقي الضوء على جميع الأحداث التي شهدتها الأمة الإسلامية منذ ولادتها إلى أن فارقت سيدها(صلى الله عليه وآله)..