حظي الشيعة في العالم بصورة عامة وشيعة العراق بصورة خاصة باهتمام الباحثين الأكاديميين ومراكز البحوث والدراسات الإستراتيجية بعد إهمال طويل لتاريخهم وعقائدهم وما مروا به خلال الحقب التاريخية من معاناة وصراع مع السلطات الحاكمة التي حاولت إخضاعهم وإطفاء جذوة عقيدتهم دون جدوى،
وقد شهدت مدة عقد الثمانينات من القرن العشرين اهتماماً ملحوظاً ومتزايداً من جهات وأطراف ومراكز مختلفة في توجهاتها الفكرية والأيدلوجية لدراسة هذه الطائفة والروابط التي تجمع بين أفرادها والسمات العامة لها وقد جاء ذلك بعد النهوض الشيعي الكبير في نهاية عقد السبعينيات من القرن المذكور أعلاه وظهور الشيعة كقوة لا يمكن إهمالها أو إغفال تأثيراتها على الصعيدين الدولي والإقليمي بالإضافة إلى الطروحات الفكرية السياسية والاجتماعية الجديدة التي أخذت تظهر على الساحة لرموز ومفكرين شيعة إذ تميزت هذه الطروحات بالاعتدال والوسطية والعصرنة مع ما تملكه من صلابة وقوة في بناءها العام لذلك
فقد جاءت الدراسات والبحوث والتقارير تتراكم حول الشيعة وتاريخهم ودورهم السياسي والثقافي في العالم الإسلامي وفي العراق بشكل أساسي، والحقيقة فقد تميزت هذه الدراسات بسمات علمية وأكاديمية جادة ورصينة في جانب منها فيما تميزت الأخرى بالسطحية والعشوائية وعدم الوصول للحقيقة والخوض فيها
بل كانت دراسات مربكة تفتقد إلى المصداقية والنزاهة فماتت بسرعة بمواجهة الدراسات الجادة والعلمية لكن ذلك لا يمنع من التأكيد على أن كل هذه الدراسات جاءت لتسد فراغاً كانت تشهده الدراسات الأكاديمية في هذا الجانب ونتيجة لقوة الظلم المسلط على شيعة العراق على مدى قرون وفقدانهم أبسط حقوقهم الثقافية والسياسية والدينية وتصاعد الأصوات الداخلية والخارجية لإنصاف هذه الطائفة التي تشكل الأكثرية السكانية وإيقاف ما يجري بحق أبناءها من عمليات قتل وتشريد وتهجير واستباحة للكرامات والحقوق
أزداد الاهتمام بهم وانبرى باحثون وكتاب ومؤرخون لانجاز دراسات عنهم تزيل حالة الغموض والإرباك السائدة في الأوساط الأكاديمية العالمية وعلى هذا السياق فقد جاءت الدراسة البحثية الرائعة للمؤرخ (إسحاق نقاش) المعنونة (شيعة العراق) لتنظم إلى الدراسات الأكاديمية المنصفة العلمية النزيهة،
وبالفعل فأن هذه الدراسة المنشورة بكتاب كتب باللغة الإنكليزية وتمت ترجمته إلى اللغة العربية وطبع في إيران جاء بمواصفات البحث الأكاديمي الناجح من ناحية استخدام البحث العلمي والتحليل للحوادث والنصوص والوقائع مع الاستخدام المكثف للمصادر الأصلية من وثائق وصحف وكتب لذلك أصبح (شيعة العراق) مصدراً مهماً وخطيراً لكل الباحثين الذين يدرسون تاريخ العراق المعاصر من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية
فهو متخم بالمادة العلمية والتحليل المستند إلى النصوص والحوادث والرصانة والحيادية في الطرح ويمكن للقارئ أن يلاحظ عند قراءته لهذا الكتاب الانسياب المتسلسل للمعلومات والحوادث الواردة فيه بلا صعوبة ومبالغات وغموض وهذا ما منح الكاتب والكتاب درجة عالية من المصداقية في نتاجه الفكري.
يبدأ إسحاق نقاش كتابه في سرده لموضوعته منذ التشكلات الأولى للمدن المقدسة في العراق وهو يركز على الأهمية التاريخية والدينية والثقافية لكل من مدن النجف الأشرف وكربلاء المقدسة والكاظمية وسامراء مركزاً على المجتمعات الحضرية التي ضمتها هذه المدن وقوة جذبها وتأثيرها في الشأن العراقي والإقليمي محاولاً تقديم جرد تاريخي عن النشأة والسكان والعوائل والأسر الدينية العلمية في مدن العتبات المقدسة
لاسيما مدينة النجف الأشرف بوصفها المدينة الأكثر نفوذاً في صناعة الوعي الثقافي والإنتاج الفكري المكرس للشخصية الشيعية وتكونها العقائدي والكاتب لا يترك التفاصيل الدقيقة التي لم يهتم بها كتاب آخرون أو لم يعيروها الأهمية التي تجعل منها عوامل مؤثرة في سياق الحدث التاريخي والبناء العقائدي
فقد وجدنا الكاتب يركز على الشعائر الحسينية وأثرها في قوة وتماسك الشيعة وقدرتهم على مواجهة التحديات المتعاقبة طوال التاريخ الإسلامي والكاتب إسحاق النقاش يقرأ هذه الشعائر والطقوس ودور المدن المقدسة في الترويج لها والحفاظ عليها كجزء من بناء الهوية الشيعية وقدرتها على الصمود بوجه محاولات التشويه والتهميش والتدمير والحقيقة نرى ذلك الربط الموضوعي المثير للانتباه بين الشعيرة الدينية والوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحالة الاندماج بين المؤسسة الدينية (المرجعية الدينية والمدارس والحوزات) والإفراد الذي يصل إلى أعلى درجات الانسجام والتوافق والقبول برأي العلماء المراجع وفتاواهم
ثم يسترسل الكاتب في بحثه المشوق متناولاً بعقلية تحليلية الدور السياسي لشيعة العراق ومراجعهم في فترة حرجة وخطيرة من تاريخ العراق المعاصر ونعني هنا مرحلة تشكيل الدولة العراقية عام 1921م ونهوض شيعة العراق بوجه الغزو الأجنبي في انتفاضات وثورات ومعارضة سلمية كان ابرز مظاهرها انتفاضة النجف الأشرف عام 1918م والثورة العراقية الكبرى عام 1920 باحثاً في الخلفيات والمؤثرات لتطورات المشهد العراقي داخلياً وخارجياً وخاصة في الجانب الإيراني
وفي قراءته تلك نرى الانهماك المقصود في التفاصيل التي وجد فيها نقاش عناصر تدعم بحثه وعمله ومنها العلاقات الأسرية والزيارات والمراسيم ويتوقف عند علامات بارزة في التاريخ العراقي المعاصر وظهور نخب شيعية حاولت تحقيق نوعاً من الموازنة واسترداد حقوق الطائفة من السلطة السياسية الحاكمة لكنها واجهت الجفاء والرفض
وفي هذا الإطار فأن الكاتب يركز على قوة المطالبة الشيعية بالإصلاح والعدالة والمساواة التي أخذت تبرز بفاعلية مع انطلاق العقد الثالث من القرن العشرين وتمثل ذلك بالإضراب العام لسنة 1931م وانتفاضات العشائر لعامي 1935 و 1936م والدور الأساس للمرجعية الدينية في تبني المطالب الشيعية
وليس هذا فحسب بل إن الكاتب يلج مجال الإصلاح المؤسساتي داخل البناء المرجعي عبر البحث في إصلاح التعليم والمدارس وقدرة هذه المؤسسات الدينية على التوافق مع التعليم الحديث ويشير في هذا السياق إلى جهود جمعية منتدى النشر والشخصيات العلمية الفاعلة التي أرادت النهوض بالمستوى العام للتعليم الديني وإدخال الدروس والمناهج والطرق الحديثة والحقيقة
إن هذا يؤكد على قدرة هذه المؤسسات عن الاستجابة للتحديات الجديدة المتولدة عن الدولة العراقية الجديدة ويمكن للقارئ أيضاً أن يطلع على قوة الملاحظة والأدلة التي يجمعها النقاش ويقدمها لإثبات مظلومية شيعة العراق ومعاناتهم المستمرة مع السلطات الحاكمة وقدرتهم على مقاومة هذه المظالم وعدم الرضوخ أو الاستكانة مما جعل مناوئيهم يفقدون القدرة على طمس الشخصية الشيعية وتدميرها بل أن الثقافة الشيعية راحت تسود الجو الثقافي العراقي أدباً وشعراً ونتاجاً فكرياً وتصاعد ظهور النخب المثقفة السياسية والأدبية المعبرة عن الهم الجماعي الشعبي وهي نخب في حقيقتها مدعومة من المرجعية الدينية ومتكونة في الأساس داخل هذا الإطار الديني
إذ يؤكد نقاش على موضوعة تشكل هذه النخب وخروجها من عباءة المرجعية الدينية ويستمر الكاتب في بحثه الشامل ليصل إلى عام 1991م وهو عام الانتفاضة الشعبية العارمة ضد التسلط البعثي البغيض وبين البداية والنهاية يعمل على تفكيك الأفكار والحوادث ليعيد صياغتها بلغة علمية مركزاً على الإصدارات والجهود الشيعية المتنوعة لتأكيد الذات والحصول على حق المساواة والعدالة مبرهناً على قوة الدوافع المحركة لنيل هذه المطالب والتضحيات المقدمة في هذا السبيل.
استخدم إسحاق النقاش في كتابه هذا الأسلوبين الوصفي والتحليل فهو تارة يصف الأحداث والوقائع بلغة سلسلة جذابة ومعبرة وقادرة على النفاذ إلى ذهنية القارئ وقلبه وتحقيق تواصل حقيقي وانشداد موضوعي فضلاً عن البساطة في الطرح ومرة أخرى يعود الكاتب للتحليل وقراءة النص قراءة متأنية تمتاز بالعمق وفي كلا الحالتين فأن الكاتب يتبع بصرامة المنهجية العلمية ومراعاة التسلسل التاريخي للوقائع،
وهذا ما أعطى الكاتب والكتاب صفة الرصانة الأكاديمية ودقة التصرف بالمعلومات الواردة أعتمد الكاتب على مجاميع كبيرة من المصادر الوثائقية والصحف العراقية والنجفية وعشرات الكتب المتنوعة المقاصد وجاء استخدام المصادر كل في مكانه الصحيح وعلى العموم فأن الكاتب إسحاق نقاش قدم للمكتبة دراسة رائعة وعلمية عن شيعة العراق امتازت بالمصداقية والموضوعية وفيها أبرز الدور السياسي والثقافي لشيعة العراق ووزنهم الاجتماعي والاقتصادي
وبذلك فأن الكتاب لا يمكن إلا الاعتماد عليه كمصدر مهم لدراسة تاريخ العراق المعاصر وتاريخ شيعة العراق ودور مدم العتبات المقدسة في تشكيل الهوية الجماعية للشيعة وبناء ذاكرة تاريخية موحدة ومن المناسب القول إن كتاب شيعة العراق كتاب جدير بالقراءة ولاسيما من قبل الباحثين والأكاديميين وطلبة البحوث والمختصين بالشأن التاريخي والسياسي .