ينطلق الإسلام من أرضيته الصالحة للنمو والتطور والازدهار والرفاهية الاقتصادية والاجتماعية، بدعائم الأمن والسلام والكلمة الطيبة، وانسيابية مسيرة الحياة، بما فيه الفرد والمجتمع والدولة، بروح التفاني في خدمة الذات والإنسانية جمعاء، وفق فكر تربوي عظيم، وآلية تنطلق من القرآن الكريم وما تمهده السنة النبوية الشريفة، والمتواصل وفقه فكر أهل البيت(عليه السلام) وفق مبدأ (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (سورة البقرة/ من الآية256)، وهو مبني على (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (النحل/ من الآية 125)، (والله يدعوا إلى دار السلام) (يونس/ من الآية 25)، (وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) (المائدة/ من الآية 2)،
(وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم) (التغابن/ من الآية 14)، وهكذا القرآن الكريم يزدهر بهذه الآيات البينات لبناء الإنسان من الدواخل وما يحيطه من ماديات وغير ماديات، وبناء العلاقة الطيبة مع أخيه الإنسان، لذا ترى من هذا المنطلق يقول أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) للأشتر: (واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخٌ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق… الخ) (نهج البلاغة).
وبذات الروح الرسالة المحمدية المباركة، وتواصلاً للتطبيق الإنساني الذي ينقاد بالروح السلمية الأخلاقية تكون نهضة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) عند ظهوره، ونتصفح ذلك من خلال الروايات المتعددة في السنة النبوية الشريفة ومن استمد منها، وقد ورد في (منتخب الأثر ص310، لطف الله الصافي) عن (بحار الأنوار) أنه (أقبل رجل إلى أبي جعفر(عليه السلام) وأنا حاضر ـ أي جابر بن عبد الله الأنصاري(رضي الله عنه) ـ فقال رحمك الله اقبض هذه الخمسمائة درهم فضعها في مواضعها فإنها زكاة مالي،
فقال له أبو جعفر(عليه السلام): بل خذها أنت فضعها في جيرانك والأيتام والمساكين، وفي إخوانك من المسلمين إنما يكون هذا إذا قام قائمنا فإنه يقسم بالسوية، ويعدل في خلق الرحمن، البر منهم والفاجر، فمن أطاعه فقد أطاع الله ومن عصاه فقد عصى الله، فإنما سُمي المهدي لأنه يهدي لأمر خفي يستخرج التوراة وساير الكتب من غار بأنطاكية، فيحكم بين أهل التوراة بالتوراة، وبين أهل الإنجيل بالإنجيل، وبين أهل الزبور بالزبور، وبين أهل الفرقان بالفرقان، وتجمع له أموال الدنيا كلها، ما في بطن الأرض وظهرها،
فيقول للناس تعالوا إلى ما قطعتم فيه الأرحام، وسفكتم فيه الدماء، وركبتم فيه محارم الله، فيعطي شيئاً لم يعطَ أحداً كان قبله، قال: وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): هو رجل مني اسمه كاسمي يحفظني الله فيه، ويعمل بسنتي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ونوراً بعد ما تمتلئ ظلماً وجوراً وسوءاً).
وخلاصة ما يخص الإمام المهدي(عليه السلام)، نستشف بعض مما تقدم من النص المبارك ما يلي:
1ـ لنبدأ من نهاية النص من حديث الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله)، (هو رجلٌ مني اسمه اسمي يحفظني الله فيه)، ويعني هو امتداد لذريتي، المتمثلة بفاطمة الزهراء(عليها السلام)، وابن عمه الإمام علي(عليه السلام)، أما (يحفظني الله فيه)، له أبعاد عديدة منها، لكونه من نسل أو سلالة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)، وهو وراثة بيولوجية، ووراثة فكرية عقائدية، في حمل فكر وتطبيقات الرسالة المحمدية، والنتيجة تكون (ويعمل بسنتي) وفق هذه المؤهلات التي يتصف بها ويحملها بك إخلاص وإقدام… وبهذا يكون (يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ونوراً بعدما تمتلئ ظلماً وجوراً وسوءاً).
2ـ يظهر النور المهدوي المبارك ـ من خلال النص المتقدم ـ وبدايته بالحوار الفكري والعقائدي، أو يمكن تسميته بحوار الأديان وحوار الحضارات، (لا بالسيف كما يتصوره البعض)، فالمحاججة تكون بالالتقاء وتبادل الآراء لإحقاق الحق، وبهذا يحكم المهدي بن الحسن(عليه السلام) (بين أهل التوراة بالتوراة، وبين أهل الإنجيل بالإنجيل، وبين أهل الزبور بالزبور، وبين أهل الفرقان بالفرقان)، وهذا دليل رائع على أن المهدي ومن منطلق الرسالة المحمدية الشريفة الكريمة السمحاء، يقوم بحوار الأديان والحضارات، كلٌّ بلسانه وعقيدته لوضعه على قويم الصراط، وتقويم أفكارهم وعقائدهم بما ورد بكتبهم، وتفاعل الأفكار وتقويمها، وبالأمن والأمان، وهو المؤتمر الشامل الجامع المانع بأبعاده الإنسانية والأخلاقية، وفق وحدة مصدر التشريع والتبليغ الرسالي السماوي، والانطلاق من وحدة الفكر لمختلف الأديان نحو بناء الإنسان والإنسانية بالمحبة والسلام…
وهذا دليل على أن النهضة المهدوية لا تُبنى ولا تنطلق من إراقة أو سفك الدماء، وإنما تنطلق من أسمى منهج إنساني حواري من خلال النقل (المتمثل بالكتب السماوية) والعقل المتمثل بالأفكار والحقائق المطروحة، وهنا تكون الكتب السماوية، المرشد الأساسي الموجه لحوار الأديان والحضارات، وبكل معنى السلام والطمأنينة والإنسانية…
3ـ ترابط البناء الفكري القويم، والاجتماعي المتين، والاقتصادي الذي يبني بعضه بعضاً، على أساس الوعي والحقائق المطروحة، بمنظور الأمن والأمان الإنساني، لذا فبعد حوار الأديان والحضارات بشعوبها ومجتمعاتها، تستوعب وحدة العقيدة الإنسانية، والمنظومة الاقتصادية الموحدة الواحدة، لمعالجة حالة الفوضى الاجتماعية والفكرية والاقتصادية، وبهذه الإنسانية العظيمة (تجمع إليه أموال الدنيا كلها، ما في بطن الأرض وظهرها)، وبهذا تُبنى الاستراتيجية ومنظور الضمان الاجتماعي (Social Security) والعدالة الاجتماعية (Social Justice) وفق بناء الرفاهية الاجتماعية (Social Welfare) ، بعاملي الوعي والطواعية لبناء بعضهم البعض، وذلك من خلال ما يتم جباية الأموال من الصناعة الاستخراجية (من باطن الأرض كالمعادن والنفط المستخرج) والصناعات التحويلية (المتمثلة بتحويل شكل الخدمات والسلع من شكل إلى آخر)، وكذلك ما يتم من المحصول الزراعي، وهذا مختصر لما (في بطن الأرض وظهرها) من الأموال التي تجمع…
4ـ مرحلة ما قبل توزيع الأموال، يتم بث روح الترفع عن ماديات الحياة، لإزالة فكر الطمع والجشع في دواخل النفس البشرية وذلك من خلال قوله(عليه السلام) (للناس تعالوا إلى ما قطعتم فيه الأرحام، وسفكتم فيه الدماء، وركبتم فيه محارم الله)، وهذه الحلقة النفسية التي تربط ما بين ماديات الحياة وشعور الإنسان بإنسانيته، وكيف كان في عهد جنونه في جمع الأموال بالأساليب المحرمة، من تدمير المجتمع، وسفك الدماء بالحروب واستغلال الآخرين في مقدراتهم وقواهم العقلية والجسدية، وعمل كل شيء محرم من كذب ودجل ونفاق والاتجار بما لا يرضي الله كالمخدرات والأسلحة الفتاكة للشعوب، المنظورة وغير المنظورة… وغيرها من الأمور الدنيئة…
5ـ مرحلة توزيع الأموال، التي يتم فيها بالعدالة والدقة، وفق ما شرع الله، لذا يكون عطاؤه كما في النص المبارك (فيعطي شيئاً لم يعط أحداً كان قبله)، وهذه قمة العدالة وإحقاق الحق في التوزيع، من نقي القنوات الاقتصادية وينتج من استثمارها بالشكل الأمثل، وبهذا يكون التوزيع له أبعاده الإنسانية ـ الأخلاقية، في الرفاهية الاجتماعية بالتضامن والتكافل الاجتماعي…
وبهذا الخصوص ورد عن ابن عساكر في منتخب الأثر/ ص310 (يكون في آخر الزمان خليفة يحثى المال حثياً، ولا يعدُّ) وبذات المصدر ص311 عن مصابيح السنة، عن النبي(صلى الله عليه وآله) في قصة المهدي(عليه السلام) قال: فيجئ إليه الرجل فيقول يا مهدي أعطني أعطني، فيحثى له في ثوبه ما استطاع أن يحمله)، وهذا دليل على قوة الاقتصاد في عهده(عليه السلام).
ويضيف المصدر (منتخب الأثر/ ص311) عن ابن طاووس قال: (المهدي جواد بالمال، رحيم بالمساكين، شديد على العمّال)، وهو ما يدلّل على قوة الدورة الاقتصادية، وقوة العائدية، وكثرة الأموال المتوافرة، بالإضافة إلى كونه(عليه السلام) يهتم بالشريحة الفقيرة والمسكينة التي لا تستطيع العمل، أما لأسباب العجز أو ما شاكله، وبذا كان الضمان والرعاية الاجتماعية له… إما كونه شديد على العمّال، فهو مدى مستوى تقويمه للأمور الإدارية والمالية والحيلولة دون الوقوع في آفة العصر المتقادم على مر العصور، ألا وهو الفساد الإداري والمالي، والذي يجعل من الشعوب ظالم ومظلوم، والغارق بالحرام في هدر حقوق الآخرين…
وبهذا نراه(عليه السلام) كما قال عنه الإمام علي(عليه السلام) (يعطف الهوى على الهدى إذا عطفوا الهدى على الهوى، ويعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي) (نهج البلاغة).
وفيما يخص دولة الإمام المهدي(عليه السلام) وقوة اقتصادها والتطور والنمو والازدهار والعمران والأمان يقول أبو جعفر محمد بن علي(عليه السلام): (وتظهر له الكنوز، يبلغ سلطانه المشرق والمغرب، ويظهر الله عز وجل به دينه على الدين كله ولو كره المشركون، فلا يبقى في الأرض خراب إلا عُمِّر…) (منتخب الأثر/ ص392).
وهذا مستمد مما روي عن الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله) في هذا البعد القيادي والاقتصادي والعمراني: (تظهر الأرض كنوزها، وتبدي بركاتها، ولا يجد الرجل منكم يومئذ موضعاً لصدقته ولا بره لشمول الغنى جميع المؤمنين…) (منتخب الأثر/ ص308) وكذلك قوله(صلى الله عليه وآله): (ويظهر الله عز وجل له كنوز الأرض ومعادنها) (منتخب الأثر/ ص293)…
وهذا يدلل على أن يكون المشرق والمغرب موحداً في ظل قيادته الكريمة، التي تهدف إعمار الإنسان وإعمار البلدان، والإعمار يكون شاملاً وجامعاً، شاملاً لك البلدان، جامعاً للأمور القويمة للبناء الدنيوي ـ الآخروي، وبحماية وأمن الإنسان من شروره على نفسه، وشروره على الآخرين، بقويم الفكر والسلوك الإنساني، مما يؤدي أن يكون (فلا يبقى في الأرض خراب إلا عُمِّر…) ودعمه بالموارد اللامحدودة بين يديه، والأموال الكبيرة، لذا (لا يجد الرجل منكم يومئذ موضعاً لصدقة ولا بره لشمول الغنى جميع المؤمنين)، وهذا يدلل على إن التكامل الاقتصادي والاجتماعي والفكري، بتفاعل قوى الفرد والمجتمع والدولة، وأيضاً يدلل على عدم وجود صراعات بين الشعوب والأقاليم، فيكون الإعمار قد أخذ مفعوله واهتمامات قائد هذه الأمة في كل أطرافها المترامية… ويثبت بذلك القصور في التوزيع في دقة بناء المجتمع والاقتصاد الشامل ينبني في الكيفية التي يُفهم ويعمل به وفق ما أنزله الخالق من الكتب السماوية، وبالذات القرآن الكريم وما يسترشد به الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله) بأحاديث النبوية الشريفة، وما علَّم به الأئمة الكرام(عليهم السلام)… وبما توضع وفق ذلك لآليات التطبيق القويم، الذي يعرف كل ذي حقٍ حقه، ويعرف كل إنسان واجبه، ليؤدي واجبه الفردي والجماعي، بمشاريعه الخاصة والعامة، لتكون النتيجة إيفاء الحقوق لأهلها…
ويظهر مما قاله الإمام الباقر(عليه السلام) والوارد في (ينابيع المودة) والذي ذكره (منتخب الأثر/ ص308) بأنه (…وتخرج العجوز الضعيفة من المشرق تريد المغرب، لا يؤذيها أحد، ويخرج الله من الأرض نباتها، وينزل من السماء قطرها)، وهو ما يدلل على مدى الترابط الاقتصادي والأمني وتقدمهما في عصر الظهور وبناء دولة الإمام المهدي الشريفة، وهذا ما يؤكد دقته في إحقاق الحق في (الملاحم والفتن)، بأنه (ويبلغ من رد المهدي المظالم حتى لو كان تحت ضرس إنسان شيء انتزعه حتى يرده)، وبهذا يتحقق إحقاقه الحق بكل أبعاده، شاملاً بذلك البعد الاقتصادي أو المالي، وبه يكون إحقاق الحق والعدالة والمساواة من سمات دولة الإمام المهدي…
ويضيف ابن عباس في البعد الأمني في تفسيره لقوله تعالى: (ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (التوبة/ من الآية 33)، قال: لا يكون ذلك حتى لا يبقى يهودي ولا نصراني، ولا صاحب ملّة إلا دخل الإسلام، حتى يأمن الشاة والذئب والبقر والأسد والإنسان والحية، وحتى لا تقرض فأرة جراباً…) (منتخب الأثر/ ص295) وهذا دليل على الاستيعاب الكامل للأبعاد القيادية، ومدى دقة ومتانة الأبعاد الإنسانية في الحكم والإدارة، وما ينتج عنه من أمن وأمان، ومدى التآلف وإحقاق حقوق الإنسان والحيوان والبيئة المحيطة، ومدى قوة وفاعلية وآلية الاقتصاد والرفاهية الاقتصادية ـ الاجتماعية، فالمحور الأول والمتزامن مع أنشطة الحياة يكون باستتباب الأمن، بفاعلية دقة وآلية قويم الإدارة والقيادة فيها، التي تبني واقعاً اقتصادياً ـ اجتماعياً ـ إنسانياً مشتركاً، بحيث تذوب الأديان جميعها والملل في بودقة الإسلام الحنيف السَمْح، التي تطمئن فيه النفوس والأبدان وتتآلف، لتزيل فكرة الصراعات المقيتة، وبذا تُحمى الأعراض والأموال…
وبهذا قد ترمز الفأرة إلى الفقر، أو ما يتم اغتصابه أو سرقة حقوق الآخرين، وأما ما يرمز بالجراب فهو الحالة الاقتصادية أو الوضع الاقتصادي، وتتجسد هذه الصورة في أن لا يكون الاقتصاد قد أصيب بآفة العجز أو الإنسان بحالة الفقر والعجز، وبذا تتحقق الرفاهية الاقتصادية ـ الاجتماعية في دولة الإمام المهدي، وبتقويم البناء الإنساني والمادي والمعنوي…
ويضيف منتخب الأثر في ص472 عن النبي(صلى الله عليه وآله) في قصة المهدي (… وتزيد المياه في دولته، وتمد الأنهار، وتضعف الأرض أكلها وستخرج الكنوز)، وبهذا يقول الإمام علي(عليه السلام): (… ولو قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها، ولأخرجت الأرض نباتها، ولذهبت الشحناء من قلوب العباد، واصطلحت السباع والبهايم حتى تمشي المرأة بين العراق إلى الشام لا تضع قدمها إلا على النبات، وعلى رأسها زينتها لا يهاجمها سبع ولا تخافه…) (منتخب الأثر/ ص474)، وهذا دليل مضافاً إلى تكامل عوامل بناء الحياة الإنسانية والنفسية… وبهذا (يذهب الشر، ويبقى الخير، ويذهب الربا…) (منتخب الأثر/ ص474)، وهذه تُفاعل أبعاد استقرار الحياة الاجتماعية والاقتصادية والأمن الكوني، وهنا انعكاسه على الجانب الصحي، الجسدي والعقلي والنفسي، واستقرارهم، وهنا يضيف أمير المؤمنين(عليه السلام) (… وتطول الأعمار، وتؤدى الأمانات، وتحمل الأشجار، وتتضاعف البركات، وتهلك الأشرار، وتبقى الأخيار…) (منتخب الأثر/ ص474)، وهذا مؤشر على تطور ونمو العلوم المختلفة، بالإضافة إلى الاهتمام بالبيئة وحمايتها من التلوث، بالإضافة إلى الوعي الاجتماعي والتقويم السلوكي للإنسان، وأجيال جديدة واعدة لا تعرف إلا الخير والتفاعل معه والتفاني من أجله…
وهنا للإمام الباقر(عليه السلام) تفسيره للآية الكريمة: (اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها) (الحديد/ من الآية17)، أي يحييها القائم(عليه السلام) فيعدل فيها فيحيي الأرض بالعدل بعد موتها بالظلم (منتخب الأثر/ ص478)، وعن النبي(صلى الله عليه وآله): (تأوى إليه أمته كما تأوى النحل إلى يعسوبها، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً حتى يكون الناس على مثل أمرهم الأول لا يوقظ نائماً، ولا يهريق دماً) (ص478) ومما يروى عن الرسول(صلى الله عليه وآله) أيضاً: (…تنعم أمتي فيه نعمة لم ينعموا مثلها قط، تؤتي الأرض أكلها لا تدخر عنهم شيئاً، والمال يومئذ كدوس يقوم الرجل فيقول خذ…).
ويشمل هذه مجموعة الأقوال، أمور عديدة منها:
1ـ إحياء الأرض بعد موتها بالعدل، يعني إنسانية الحياة، وحقوق الإنسان، وإرجاع الأمور إلى نصابها القويم وبالقويم، ويكون لكل ذي حقٍ حقه، العدل في توزيع الأرض، والحق والعدل في حماية البيئة ووضع نظام أمني لها، والعدالة في حماية الإنسان ذاته من شرور نفسه في التمادي في كل شيء، المادي منه وغير المادي، بالإضافة إلى ما يؤثر في ذلك على أخيه الإنسان أو نظيره…
2ـ والعدل يشمل أيضاً في مجالي الاستثمار والعائدات، بقنواتها المختلفة، الخدمية والسلعية، ليكون التوزيع لعناصر الإنتاج بأدق صورها، والاستقرار الاجتماعي، وأمن المجتمع، فلا تكن هناك جنح، ولا تكون هناك جنايات، بحق الإنسان والحيوان والبيئة…
3ـ أما شمولية الحياة وانسيابيتها في التنظيم الإداري، تجعل من القيادة إنسانية بكل مفاصلها، لذا ترى الأمة بكل لغاتها وطوائفها وألوانها وطيفها، لاختيار القيادة المحققة لمطاليبها في حياة أفضل، (فتأوي إليه(عليه السلام)) بالاختيار المناسب والأمثل لقائدها، والاختيار له في حمايتها وحماية إمكانياتها المادية وغير المادية ومواردها الاستخراجية والتحويلية…
4ـ وحدة اتجاه القائد والرعية المُنْتخِبة له، رغم إنه قائد بتطبيقاته(عليه السلام) وحمايته للمجتمع ومصالحه وفق أدق العدالة المحققة ترضي الجميع حتى الحيوان والبيئة، وإلا ما معنى (تنعم أمتي فيه نعمة لم ينعموا مثلها قط)، وهذا على مستوى الإنسان وقيادته، وحماية البيئة والمجتمع بأدق تفاصيلها المثمرة والمستقرة، والذي يجعل من الدورة الاقتصادية بتتابع أدق مفرداتها من استثمار ودخل فردي ودخل قومي أو كوني أو عالمي، وادخار واستثمار، وهذه هي التي تؤدي إلى قوله(صلى الله عليه وآله): (والمال يومئذ كدوس…) فائض في هوامش الأرباح وحماية المجتمع بتأمين كل احتياجاته، وتهيئة أجواءه الاستثمارية الاستهلاكية، بفاعلية الوعي الإنساني، وأمانة الإنسان وحماية مستقبله الاقتصادي والأمني…
5ـ البعد الأمني المرتبط بالجانب الاقتصادي (تهلك الأشرار وتبقى الأخيار) وكذلك مدى استيعاب الأمن القومي أو العالمي على استقرار الشعوب وحمايتها من سفك الدماء وهدر الحقوق بأن يقول(صلى الله عليه وآله): (لا يوقظ نائماً) وهو أمن المجتمع وعدم دخول القلق والخوف إلى قلبه، بغصب حقوقه وموارده واستقراره، وهو آمن بذلك حتى على حياته، لذا لا يكون خائفاً أن يظلمه أحد فيسفك دمه بغير حق، وهذا يتمثل في قوله(صلى الله عليه وآله): (ولا يهريق دماً) وبطبيعة الحال تكون نتيجة هذه الصورة الإنسانية الرائعة في الأمن والاستقرار، الأمن والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، بل وحتى الأمن والاستقرار الحضاري الإنساني المتفاعل، وبهذا يتحقق القول (وإنه يبلغ سلطانه المشرق والمغرب، وتظهر له الكنوز ولا يبقى في الأرض خراب إلا عمره) (منتخب الأثر/ ص482).
وما أروع وأدق قول الإمام أبو جعفر الصادق(عليه السلام) في ذلك حيث يقول: (إذا قام قائمنا وضع الله يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم، وكملت به أحلامهم) (منتخب الأثر483) وهذا القول يعني الكثير الكثير، حيث مما يعني ويرمز قوله(عليه السلام): (وضع الله يده على رؤوس العباد) بأنه يحقق العدالة وإحقاق الحق والمساواة، فلا فقير بعد ذلك اليوم، ولا مظلوم، ولا تفرقة، ولا تناقضات، وهنا بناء وحدة الفكر وتكامله، ووحدة وتماسك الحضارة بقوله(عليه السلام): (فجمع بها عقولهم)، ويكون ذلك على الخير والمحبة والعلم وحماية بعضهم بعضاً، بكل وعي واستيعاب أمثل وأنسب، والبناء والأعمار والتطور والنمو لكل مفاصل الحياة، بما فيه الإنسان، ومنفذ ذلك أن تكون النتيجة (وكملت به أحلامهم)، بما انتزع منهم الغل والحقد والضغينة من النفوس والسلوكيات والأفكار، وقضي على التلوث بكل أشكاله،
المادية والمعنوية والفكرية، أي حماية المجتمع من تلوث بيئته الفكرية وبيئته الميدانية… وهو ما يحقق تكامل حلقات الترابط بين المجتمع بأمنهم الاجتماعي والاقتصادي والفكري… الخ وذلك لا يكون إلا في دولة تستوعب الجميع من أجل الجميع في الدول المحمدية ـ المهدوية… وهذا ما تستوعبه دراستنا المختصرة، ولنا وقفة في كتاب مستقل حول دولة الإمام المهدي إن شاء الله، بنظرة تحليلية
علمية معاصرة.