هو السيّد محمد علي بن السيّد أحمد بن السيّد محسن الحكيم، ولد في جمادى الأولى عام 1329هـ في بيئة أبرز سماتها الورع والتقوى، تحت ظل والده العلامة الجليل السيد أحمد(رحمه الله)، حيث التقى والورع والعلم والزهد، فنبت في تلك الرياض النضرة نبتة صالحة، سار من خلالها في طريق المعارف الدينية، حتى أصبح ـ بعد حين ـ شجرة باسقة، (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا).
كانت أسرته الخاصة التي نشأ في بيئتها تضم والده، ذلك الشيخ المتعب الكبير، المبتلى بأمراض عديدة، لكنه مع ذلك كان يسقيه من معارفه، ويفيض عليه من أخلاقه، ويغدق عليه بعطفه، كما تضم أخواله الثلاثة الأعلام، وهم: آية الله العلامة السيد محمود الحكيم(قد)، وآية الله السيد هاشم الحكيم(قد)، وأشهرهم وأبرزهم وأكثرهم صِلةً به هو آية الله العظمى السيد المحسن الحكيم (تغمده الله برحمته).
فكانت نشأته الأولى بين هؤلاء الأعلام، يستفيد من تجاربهم، ويستقي من علومهم، ويتلقى منهم ما يَستَحسِنونه من غذاء روحي له ولأقرانه.
دراسته العلمية
لم يكن سيدنا مختلفاً عن سائر أقرانه في الدخول إلى الكتاتيب (الملالي)، ليتعلّم هناك القراءة والكتابة حيث كان مألوفاً لدى الجميع، لكن سيّدنا لم يدُم هناك أكثر من شهر، لعدم استفادته منهم، فانتقل إلى التعلّم في البيت، حيث أصبح المعلّم الأوّل له أبوه الجليل السيد أحمد(قد)، فكان يُقْرِئه القرآن الكريم، مع تركيزه على القراءة الصحيحة والاهتمام بالوقف والإدغام وغيرهما.
وما أن أتمّ ختم القرآن الكريم ـ وهو بعد لم يتجاوز التاسعة من عمره ـ حتى ابتدأ بدراسة الكتب الحوزوية.
درس عند خاله آية الله السيد هاشم الحكيم(قد) الأجرومية وقطر الندى وشرح ابن الناظم على الألفية، وشارك السيد يوسف الحكيم(قد) بدرس كتاب الحاشية لملا عبد الله في المنطق عند المرحوم السيد الحكيم(قد)، وأتمّ الحاشية وتمام الشمسية عند آية الله الشيخ محمد تقي آل الشيخ راضي (قد) كما درس معالم الدين عند آية الله الشيخ محمد رضا المظفر(رحمه الله). ثم إنه درس الكفاية عند مجموعة من أهل العلم.
أما الرسائل فكان أستاذه فيها المرحوم آية الله السيد ميرزا حسن البجنوردي(رحمه الله)، وكان سيدنا المترجم على علاقة وطيدة به، كما درس عنده قسماً من المنظومة للسبزواري، وحضر المكاسب عند آية الله الشيخ عبد الحسين الحلّي(رحمه الله).
ثم إنه ابتدأ بحضور الخارج في الأصول عند آية الله العظمى الشيخ محمد حسين الأصفهاني(قد) في دورته الأخيرة، كما حضر درس المرحوم آية الله العظمى الشيخ أغا ضياء العراقي(قد) في الأصول، كما أنه حضر البحث الخارج في الأصول عند آية الله الشيخ حسين الحلّي(قد) في دورته الأولى.
من اليمين: السيد علي بحر العلوم والشيخ حسي الحلي والسيد المترجم له تاريخ الصورة ربيع الأول 1378 هـ
أما الخارج في الفقه فلم يحضر إلا عند السيد الحكيم(قد). كما حضر عند السيد الحكيم(قد) البحث الخارج على المكاسب، والذي كانت حصيلته فيما بعد كتابه المعروف بـ(نهج الفقاهة).
تدريسه واهتمامه بالعلم
اهتم المترجم له(قد) بتدريس المناهج الحوزوية منذ شبابه، فقد قام بتدريس الكتب الحوزوية مرات كثيرة، وخصوصاً المقدّمات، كما أنه درّس الكفاية عدة مرات، كان أولها للشيخ الجليل الشيخ محمد الشيخ راضي(رحمه الله)، وكان منهجه في تدريسه لتلك الكتب العلمية مختلفاً عما هو المألوف، من توضيح عبارة الكتاب فقط، بل كان يتوسع إلى حدّ قد يصل إلى مستوى البحث الخارج.
وقد تتلمذ عليه كثيرون، منهم: ولده المرجع الكبير آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم، السيد محمد حسين السيد سعيد الحكيم، الشيخ محمد الشيخ راضي، السيد محمد تقي الحكيم، الشيخ أحمد السماوي، السيد علي السيد حسين مكي العاملي، السيد عز الدين بحر العلوم، الشيخ سلمان اليحفوفي، وغيرهم كثير.
ولم يكتف سيدنا المترجم ـ في شبابه ـ على الدرس والتدريس، بل كان اهتمامه منصبّاً ـ أيضاً ـ على نشر التراث الديني، حيث كان يعيش آنذاك ـ لعدم تيسر الطبع والنشر ـ في زوايا المكتبات الخاصة أو العامة في النجف الأشرف، حيث المخطوطات القديمة التي كانت تعلوها الأتربة في زوايا مهملة.
نشاطه الاجتماعي
بعد ظهور مرجعية الإمام الحكيم(قد) في ظرف حرج من الجانبين السياسي والاقتصادي، لم يكن بوسع الإمام الحكيم(قد) أن يتصدى لكل ذلك بمفرده، فكان لسيدنا المترجم صهرِه السيد محمد علي الحكيم(قد) الدور الكبير في رفع الكاهل عن السيد الحكيم، وتقضية جميع شؤونه، حتى الاجتماعية منها، فكان أثر ذلك واضحاً بعلاقته(قد) المتميزة مع عدد من الأسر العلمية، كآل المظفر، وآل القاموسي، وآل الخرسان، وآل الجواهري، وآل الشيخ راضي، حيث كانت تربطه بهذه الأسرة الأخيرة علائق وثيقة، حيث لا زال رجالهم ونساؤهم يكنّون له كامل الاحترام والمحبة والتبجيل.
سفره إلى الهند وباكستان
كان الإمام الحكيم(قد) كثير الاهتمام بوحدة الكلمة وتوحيد الصف، وكان كثيراً ما يحمل الهم عندما يسمع بنشوب نزاع وخلاف بين العشائر الشيعية، على اختلاف أماكنها وألوانها.
لكن هذه المرة صكّ سمعه نشوب مشكلة في الهند كادت تخرق الصف الشيعي إلى نصفين، بين أسرتين علميّتين مهمّتين، أسرتي النواب والعبقاتي، وبعد وقوع الخلاف بين الأسرتين انضم إليهم الطلبة ومن يتعلق بهم، بحيث أصبح الشرخ واضحاً، يصل في بعض الأحيان إلى لعن جماعة لأخرى، ونشر المنشورات التي تحط من قدر هذه أو تلك.
كان اختيار السيد الحكيم(قد) لحل هذه المشكلة هو إرسال وفد من قِبَلِه، وقد ضم الوفد كلاَّ من سيدنا المترجم والمرحوم الشيخ محمد الرشتي. وكان(قد) موفقاً في اختياره، حيث حُلّت الأزمة بشكل يكاد أن يكون مستغرباً، وبعد تمام الصلح بعث المتخاصمون بوثيقة شكر لسماحة السيد الحكيم(قد) مثمّنين اهتمامه الأبوي، وأنها أول التفاته من المرجعية لهذا الشأن، كما وأثنوا فيها على الجهود الجبارة التي قام بها الوفد، بحيث ذكر أحد القطبين أن هذه المشكلة لو لم يكن السيد الحكيم قد دخل في حلها أو كان الوفد الذي اختاره غير هذا الوفد لما كان لهذه القضية أن تُحل، وذلك لما يتمتع به سيدنا المعظم(قد) والمرحوم الرشتي من حرمة وتقديس لدى المتخاصمين.
اهتمامه التبليغي
كانت سفرة باكستان والهند تجربة حية في المجال التبليغي، حيث وجد في نفسه القدرة على ارتقاء المنبر ووعظ الناس والتأثير فيهم والأخذ بمجامع قلوبهم، فهمّ على العودة إلى باكستان من أجل تبليغ الأحكام، خصوصاً عندما وجد الجهل مستشرياً فيهم إلى حد الضياع والجهل بجملة من الأحكام الضرورية.
وبالفعل، وبعد الاستخارة في الحرم الشريف كانت الآية: (أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين)(الأنبياء:55)، صمَّم على العودة إلى باكستان، فاستقبل هناك استقبالاً حافلاً قلّ نظيره، وبقي معهم مدة ثلاثة أشهر تقريباً، فكان نجاحه هذا معهم نجاحاً مبهراً، حتى أنّ المرحوم الخال الشهيد السيد مهدي الحكيم قال: (إنّ السيد محمد علي الحكيم ناجح في باكستان مائة بالمائة).
وفـــاته
حانت ساعة القدر وأذن الوقت بالرحيل شاء الله أن تخمد تلك الشعلة الوهاجة التي ظل عطاؤها سنين متطاولة. آن لذلك القلب الكبير أن يغفو ويلحق بعالم الملكوت حيث النعيم الأبدي حل وقت سكون تلك الروح العبقة الطيبة مودعة عالمنا بكل اطمئنان لتعود لبارئها ـ إن شاء الله ـ راضية مرضية.
في ليلة الثاني والعشرين من ربيع الأول وعند صلاة المغرب يسلم سيدنا نفسه ليرتحل إلى ربه وبكل سكينة وهدوء تنقضي بموته حقبة من الزمن عاشها في النجف الأشرف مائة عام وزاد عليها ثلاثاً وهاهو اليوم يرتحل ليكون مثواه الأخير في رحاب أمير المؤمنين(عليه السلام).
كان في مرضه الذي ألـمَّ به أخيراً ـ ولم يتجاوز الأسبوعين ـ مدرسة تستعرض ما تلوناه سابقاً وبكل تفاصيله لكن بزمن متسارع. عابد ذاكر لا يفتر عن الذكر يهتم بالصلاة ويسأل عنها كل حين متوكلاً على الله حامداً شاكراً.
في تلك الساعات كانت حافظته ولياقته الطبيعية واهتمامه العلمي وتفقده للآخرين وفيها يسأل أحفاده الشباب عن دروسهم.
وكذلك تبقى طبيعته من قضاء مآدبه ـ ما أمكنه ـ بنفسه فيمسك القدح بيديه المرتعشتين ويأخذ الملح قبل الطعام ويقرأ الفاتحة ويعطي الصدقة.
ومع كل هذا كان يقول: (أنا أشعر أنني في بداية النهاية) كان كلامه هذا بالنسبة لنا لافتاً إذ ليس هناك ما يقلق لكن الذي يبدو أنه(قد) كان ينظر بنور الله.
جانب من تشييع العالم الرباني السيد محمد علي الحكيم (قدس سره) في الحرم العلوي الطاهر
في صباح يوم السبت شيع تشييعاً كبيراً في كربلاء المقدسة، وفي يوم الأحد خرج التشييع من مسجد الشاكري متجهاً إلى الحرم العلوي الطاهر بتشييع مهيب حضره عدد كبير من الشخصيات الدينية والسياسية وقد أمَّ المصلين عليه سيدنا المرجع الكبير آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم (أطال الله في عمره)،
وبعد التوديع الأخير للحرم الطاهر حمل النعش إلى مقره الأخير في مقبرة علماء الأسرة في مسجد الهندي، هذا وقد عطلت الحوزة العلمية دروسها ليوم واحد وأقيمت له عشرات الفواتح في مختلف البلدان.
رحم الله سلفنا الصالح ورفع درجاته وأسكنه فسيح جناته وألحقه بأوليائه الطاهرين محمد وآله الطيبين.