تحتل حياة الرجال الذين اثروا في صنع التاريخ مكانة متميزة، حيث تمثل محطة يقف عندها الأجيال ليعرفوا ما قدموا أسلافهم من عطاء مثمر ونتاج أغنى التاريخ بالمواقف الخالدة التي لا زال ذكرها يتجدد مع مرور الزمان.
من هؤلاء الرجال برز خطيب الكاظمية وعميد منبرها الشيخ كاظم آل نوح الذي تميز بين أقرانه ورفاقه بسعة المعلومات وغزارتها إضافة إلى الأدوار التي اضطلع بها في نشر الثقافة الإسلامية في أوساط المجتمع مع التركيز على شريحة الشباب الذي كان يرى فيهم أملاً للأمة في التخلص من ترسبات الماضي وأمنية لمستقبل يسوده العلم والمعرفة.
حياته العامة
هو الشيخ كاظم بن الشيخ سلمان بن الشيخ داود بن الشيخ سلمان بن نوح (وبه اشتهرت الأسرة حتى عرفت بـ(آل نوح) بن محمد من آل غريب الكعبي الكاظمي وفي أسرته (آل كعب) يقول:
هم الحصن الحصين بيوم خوفٍ وهم غيث إذا طرقت عفاة
حِمى النزال إذا ما عمَّ خطبٌ وفي يوم النزال هم الكماة
بنو كــعـبٍ وغيرهمُ رعــايا لهم أمسوا وهم أبداً رعاة(1)
وقد هاجر آل نوح من الأهواز حيث موضع أمارتهم إلى العراق واستقرت في الحلة الفيحاء، ثم انتقلت منها إلى الكاظمية على عهد الشيخ سلمان آل نوح المولود في الحلة عام 1265هـ والمهاجر منها في منتصف العقد الثاني من عمره ولم يمهله الأجل في الكاظمية طويلاً حيث انتقل إلى رحمة الله وله من العمر ثلاث وأربعين عاماً وذلك سنة 1308،
وحمل جثمانه إلى النجف ليوارى الثرى بمقبرة وادي السلام ونهج ولده خطيبنا (كاظم) نهج أبيه في خدمة المنبر الحسيني فأجاد وحلق وأبدع وتفوق حتى انحصر في شخصه لقب (خطيب الكاظمية).
في مطلع شهر رجب عام 1302هـ/1885م ولد الشيخ كاظم في الكاظمية بين أبٍ خطيب لامع وأم علوية من السادة آل عطيفة الحسينين ولكنه فقد والده سنة 1308هـ وله من العمر ستة أعوام(2)، فنشأ يتيماً وكانت والدته تطمح أن يحل كاظم محل والده ويسلك نهجه في خدمة أهل البيت (عليهم السلام) فبدأ بتعلم الكتابة عند الكتاتيب ثم ما لبث أن ختم القرآن الكريم عند الشيخ محمود الجوخجي وله من العمر ستة سنين ونصف(3).
بعد أكماله الدراسة الأولية التحق بالأساتذة العلماء الأفاضل في الكاظمية حيث تلقى دروس النحو والفقه والعقائد على صفوة منهم(4) :
1 ـ السيد محمد السيد محسن الأمين العاملي.
2 ـ الشيخ محمد رضا أسد الله.
3 ـ السيد أحمد الكيشوان.
4 ـ الشيخ مهدي المراياتي.
5 ـ السيد محمد السيد محسن الأعرجي.
6 ـ الشيخ عبد الحسين أسد الله.
وغير هؤلاء حتى نال قسطاً من الفضل واغترف من علوم آل محمد مما أسس به شخصية علمية، وتزود بثروة ثقافية عامة لأداء رسالة المنبر الحسيني على أكمل وجه و أفضل أداء.
خطابته
بالرغم من فقدان خطيبنا لأبيه وهو صغير إلا أنه حرص على السير بسيرة والده الذي كان خطيباً نابغاً من خطباء الحلة ويعد من أوائل الذين ارتجلوا الخطابة على المنبر دون الاستعانة بالكتاب حيث كان الخطباء يقرؤون بكتاب (الروضة)(5)،
وكان من تلامذة والده الشاعر الحلي المشهور الشيخ حمادي آل نوح، وسرعان ما برع كاظم في نهج والده والالتزام بطريقته وأسلوبه حيث مارس القراءة على المنبر وهو بعد صغيراً في حياة والده ثم تدرج في سلم المجد المنبري حيث أخذ موقعه المتقدم ومكانه المتميز بين عباقرة المنبر ونوابغ الأدب والخطابة.
ما قيل فيه
1ـ ما قاله السيد هبة الدين الشهرستاني عنه (بحاثة ذائع الشهرة، واسع الخبرة، رفيع المقام في المجتمع العلمي والأدبي، خدم الأمة بعلمه وقلمه، كاتباً وخطيباً ولولا زهده في المدح لكانت الإفاضة في الإشهار بشخصيته الممتازة والأجهار بفضائله الجمة لزاماً علينا)(6).
2 ـ ما قاله السيد داخل السيد حسن في معجم الخطباء (تحدثت عن خطابته الركبان واشتهر ذكره في البلدان ووصلت شهرته القاصي والداني تتدفق على لسانه الفصاحة والبيان كأنما يخرج من فمه اللؤلؤ والمرجان)(7).
3 ـ الشيخ جعفر النقدي وصفه قائلاً: (الفاضل الخطيب والكامل الأديب نادرة العصر مفخرة ذوي الفخر عمدة الأدباء وخطيب العلماء وشيخ الشعراء تاج مفرق أهل الفصاحة والبيان الشيخ كاظم الشيخ سلمان)(8).
4 ـ الشيخ عبد الحسين الأميني صاحب كتاب الغدير (لله دره من خطيب مفوّه وناصح نابه وواعظ مدرك ومتكلم قدير وبحاثة فذّ وشاعر مجيد)(9).
5 ـ الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء: (جزاك الله عن أخ لك في الله يواليك ويحبك لوجه الله تعالى ويؤسفني بل ويؤلمني أشد الألم أن تحول العروف والصروف القاسية بيني وبينك فلا يتمتع بصري برؤياك و لا سمعي بحديثك)(10).
الشيخ كاظم آل نوح في مجلس عزاء في الصحن الكاظمي سنة 1959
مواقفه الخالدة
1 ـ كان مناهضاً للاحتلال البريطاني للعراق فقد حَرّر نصاً في ربيع الثاني عام 1378هـ بيّن فيه سياسة المستعمر الذي يحتل البلد فيحوله إلى كيان هش يدب في جسده المرض فلا يقوى على الإنتاج ويبقى تابعاً له مستهلكاً لما يجود به عليه ومن هذا النص:
(كنت اتكلّم على المنابر من أول الحرب العراقية مبيناً الأضرار التي ستصيبنا إذا دخلوا بلادنا وكنت مطلعاً إطلاعاً واسعاً على ما فعلوه في الهند وكنت أبيّن ذلك على المنبر، فهم يعرفون أني من أشد الناس عليهم إنكاراً على سياستهم العاتية التي لا تبق لسكان البلاد الأصليين باقية مما أنعم الله به على عباده) ثم يعزو سبب اطماع المستعمر إلى حالة التفكك والتناحر التي تسود العالم الإسلامي فيقول
(…فما بال المسلمين؟ أيبقون على هذا الحال الذي يسر به الأجنبي؟ وهو الذي أوجد هذا النزاع والتقاطع والعداوة والبغضاء فاستفاد وخسرنا وشبع وجعنا وعز وذللنا، فهو يضحك علينا ونحن في بؤس وشقاء) ويستمر في العرض ثم يبيّن بعد ذلك ما كان يصل من أخباره عن طريق الجواسيس إلى الانكليز فيقول:
(ولقد لقيني يوماً رجل هندي ولكنه متولد في الكاظمية، وكان يظهر التقى والصلاح، ولقد صار موظفاً في دار الاعتماد البريطانية فسلم عليّ وقال لي: أنت مسبوق بإخلاصي لك وحبي لك وتقديري لمقامك وإن أخباراً تصل إلى دار الاعتماد عنك وإنك تهاجم حكومة بريطانيا على منابر الكاظمية وبغداد وإني والله خائف عليك وهذه نصيحة قدمتها لحضرتك، فشكرته مجاملاً له وهو أعلم بما يرد إلى دار الاعتماد مني وهو صادق في حبه لي ثم صادفني وأظن بعد شهرين وقال إن أخبارك حتى الآن تصل دار الاعتماد وإني أخشى عليك)(11).
2ـ في شهر رمضان سنة 1349هـ/1931م زار العراق وفد الجامعة المصرية برئاسة احمد أمين (مؤلف كتاب فجر الإسلام) ورغب هذا الوفد أن يزور مأتما من مأتم العزاء التي تجري عادة في العراق، فحضروا مجلس الشيخ كاظم في حسينية الشيخ بشار في الكرخ ببغداد ليلة وفاة أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد توافدت على المأتم الجموع الغفيرة التي ملئت بهم الأزقة والسطوح فلما ارتقى الشيخ كاظم المنبر بدأ مرحباً بالوفد ثم تطرق أثناء بحثه إلى كتاب (فجر الإسلام) وكان قد نشر حديثاً
فناقش الفصل الذي خصصه المؤلف إلى الشيعة مناقشة علمية، توخى الدقة والموضوعية بتأكيده على ضرورة الرجوع إلى المصادر التاريخية الأولية، وعلى التحري على المعلومات في مظانها الموثوقة باستقصاء واستيعاب، ثم نقلها للقارئ بأمانة وصدق، بعيداً عن الهوى والتعصب وفي هذه الحادثة نقل السيد محسن الأمين (…فتعرض ـ الشيخ كاظم ـ لكلام أحمد أمين في كتابه المذكور وفنده بأقوى حجة وأوضح برهان ووفى المقام حقه وهم يسمعون، فأعجبوا ببيانه وأذعنوا لبرهانه)(12).
3 ـ كان من الصفوة الذين مثلوا العراق في احتفال المؤتمر العالمي المنعقد في باكستان سنة 1376هـ بمناسبة ذكرى مرور أربعة عشر قرناً على مولد الإمام علي (عليه السلام) وقد ختم الوفد إلى جانبه كل من الأعلام السيد علي نقي الحيدري والسيد حسن الحيدري والخطيب الكبير الشيخ محمد علي اليعقوبي والعلامة الكبير الشيخ محمد رضا المظفر والسيد إبراهيم الطباطبائي.
4 ـ في شهر محرم سنة 1340هـ/1920م وعلى عادته أقام الملك فيصل الأول مجلس عزاء في الصحن الكاظمي وكان الشيخ كاظم خطيب ذلك المجلس فحث الناس على طلب العلم والتبرع لبناء مدرسة فجمعت تبرعات بلغت (61000 روبية) لتأسيس مدرسة أهلية في الكاظمية فتأسست مدرسة المفيد القائمة حتى يومنا هذا(13).
5 ـ حدث ذات مرة أن حضر الوزير ضياء جعفر في حكومة نوري السعيد مجلساً للشيخ كاظم في الساعات الأخيرة من الليل وكانت الإذاعة تبث برامجاً غنائية بينما كان المجتمع الإسلامي يقيم مجالس العزاء لمناسبة استشهاد الإمام علي فاستغل الشيخ الفرصة بوجود الوزير فقال: بينما العالم الإسلامي حزين بشهادة أمير المؤمنين نرى الإذاعة العراقية تبث الأغاني مما يعبر عن الفرح والسرور فقام الوزير واتصل بالإذاعة، فغيروا البرامج إلى قراءة القرآن بهذه المناسبة(14).
مؤلفاته
اللافت للنظر أن الشيخ ومع مجالسه الكثيرة وانشغاله الدائم في إعداد الجيل الجديد نلاحظ نتاجه الفكري المتميز حيث قدم للمكتبة العربية الإسلامية عدداً من المؤلفات منها(15):
1ـ ملاحظات حول تاريخ الأمة العربية لدرويش المقدادي (1351هـ/1933م).
2ـ محمد والقرآن (تمت ترجمته إلى اللغة الفارسية) (1355هـ/1936م).
3ـ المواعظ الدينية الصحية (1355هـ/1936م).
4ـ القصيدة العلوية (1361هـ/1942م).
5ـ رد الشمس على أمير المؤمنين (1374هـ/1955م).
6ـ طرق الحديث (الأئمة من قريش) (1374هـ/1955م).
إضافة إلى ديواني شعر كبيرين:
أما غير المطبوع فهي:
1 ـ النصوص القرآنية والأحاديث النبوية على إمامة أمير المؤمنين علي (عليه السلام).
2 ـ أحوال الحسين (عليه السلام).
3 ـ إيمان أبي طالب.
4 ـ حياتي.
5 ـ الحسم لفصل ابن حزم.
6 ـ الحضارة والعرب.
7 ـ المدنية والإسلام.
8 ـ ملاحظات على تاريخ العراق بين احتلالين لعباس العزاوي… وغير ذلك.
مع الشيخ علي الكليدار سادن الروضة الكاظمية الأسبق في ثلاثينيات القرن العشرين
شعره
كان شاعراً مجيداً، خصص الكثير من شعره في خدمة أهل البيت ومناهضة الاحتلال الأجنبي واستنهاض الهمم للوقوف بوجه الغزاة ومن شعره في رثاء سيد الشهداء قوله(16):
بكينا لمّا حل في كربلا ودمع العيون دماءً جرى
وقد كسفت شمسنا والنجوم تساقطن حزناً على ما جرى
على ما جرى في عراص الطفوف بعترة أحمد خير الورى
غداة ابن سعد أتى قائداً لجيش كثيف بها عسكراً
يناجز سبط نبي الهدى ويطمع في الري إذ أمرا
ودارت رحى الحرب في موقفٍ به قابل الادهم الاشقرا
ففرّت كتائبها نكصاً وفي وجهها السبط قد غبّرا
وقد اثخنوا جسمه بالجراح ثوى يا بئس لقى بالعرا
وجالت على جسمه خيلهم ورضت له الصدر حتى القرا
ومن قصيدة يستنهض الأمة فيقول(17):
يا لقومي كم ذا التواني وهذا الغرب أبدى كوامن الإضغان
فهلمّوا للاتفاق وشيّدوا يا لقومي دعائم الإيمان
إن أوطانكم أحاط بها الخصـ ـم فحاموا عن حوزة الأوطان
يا بني الشرق كم نقاسي بلايا من بني الغرب عصبة الشيطان
أدرك الغرب ما يروم من الشر ق فهبوا إلى مَ هذا التواني
وله أيضاً(18):
ما للقوي على الضعيف مسيطر؟ حتى مَ يبقى الشعب هنا خاضعاً
الأجنبي يعلّ ماءً صافياً وابن البلاد الرنق يمسي كارعاً
الأجنبي يبيت ملأى بطنه وابن البلاد يبيت يطوي جائعاً
الأجنبي مملّكٌ ببلادنا وابن البلاد إليه يمسي ضارعا
حتى مَ نرضخ للمذلة والإبا؟ يأبى علينا أن نبيت خواضعا