لم يصح العرب المسلمون إلا على أصوات مواقع نابليون في حملته العسكرية على مصر، وهم قبلها نياماً، فأيقظهم هدير سفنه في مياه البحر المتوسط على ميناء الإسكندرية وغيرها من مدن مصر الساحلية.
جاء نابليون بونابرت مصر حاملاً ثلة من علماء فرنسا ومفكريها وقساوستها ومبشريها لاستشراق هذا العالم الجديد عالم الشرق العربي، مختاراً منها مدخلاً إلى العالم العربي الكبير الذي بهر الغرب بسحره ولياليه في ألف ليلة وليلة، وبعظمة تاريخه وحضارته التي غزت الشرق والغرب بنورها حتى وصلت إلى تخوم الصين شرقاً وبلاد الأندلس (اسبانيا والبرتغال) غرباً.
جاؤوا إليها ليعرفوا السر وراء هذا الفكر الوقاد الذي ما أن لامس شيئاً شغف به وأحياه، حتى أصبح خطراً حقيقياً على العالم المسيحي ـ كما ينظر الغربيون إلى ذلك ـ إذ يرون أنه قد هاجمهم في عقر دارهم، (ففي الأندلس، الثغر الأوربي للمتوسط، كانت البداية الحقيقية لظاهرة الاستشراق، وتكوين فلسفته بدافع أيديولوجي عدائي من خلال حالة ثقافية متقدة ذات وجهين متعارضين، يمثلان في العمق، تجاذبين حضاريين نموذجين في منطقة إستراتيجية مميزة بين الشرق وشمال أفريقيا من جهة، ومن قلب أوربا من جهة أخرى، فتح المسلمون الأندلسيون خزائن معارفهم وعلومهم لكل طالب ثقافة وعلم مهما كان معتقده الديني وانتماؤه العرقي، فغصت الجامعات الإسلامية في طليطلة وقرطبة بطلاب العلم الأوربيين)(1).
لذلك لم يجيء نابليون بونابرت إلى مصر حاملاً كل هذه التقنيات العلمية حباً في مصر وسعياً إلى تثقيفها، بل كانت رؤيته نشر الثقافة والفكر الغربيين بين صفوف الشعب العربي وتمييع هويته العربية والإسلامية من خلال قبول الطلبة العرب في جامعاتهم قصد تثقيفهم بالثقافة الغربية وليكونوا دعاة لهم، ونجحوا في ذلك حتى كان هؤلاء الطلبة العرب المتفرنجين أشد قسوة على أهليهم من الغربيين أنفسهم(2).
فضلاً عن ذلك كان قد عاضد هذا المسعى في اتساع الهوة بين الشرق والغرب ما كان تلعبه الكنيسة من دور كبير في ذلك، حتى التقت مصالحها مع مصالح حكام أوربا في شن هجمات على الشرق العربي لأجل تقويض سلطة الدين الإسلامي وتهديم أركانه(3)، غير أن هذا لم يمثل كل الفكر الاستشراقي، إذ كان من المستشرقين من أنصف الفكر الإسلامي العربي وسار في سبيل غير ما سارت عليه الكنيسة أو السلطان في أوربا(4).
مفهوم الاستشراق
تعددت مفاهيم الاستشراق لدى علماء المشرقيات وكتابها من العرب وغيرهم ممن اهتم بها تبعاً للأهداف التي رسموها لهم.
فالاستشراق في اللغة مشتق من كلمة (الشرق)، وهو (خلاف الغرب والشروق كالطلوع، وشرق يشرق شروقاً، ويقال لكل شيء طلع من قبل المشرق)(5)، والسين في كلمة (الاستشراق) زائدة، تفيد طلب دراسة ما في الشرق، وهي من نحو استكتب، قال الزمخشري: (واستكتبه شيئاً فكتبه لي)(6)، أي طلبت منه كتابة شيء فكتبه لي، فكذلك استشرق في الاستشراق.
والاستشراق في الاصطلاح (لفظة مولدة من (استشرق) المأخوذة من مادة (شرق)، استعملها المحدثون ترجمة لكلمة (orientalism) التي تدل على معنى (مستشرقون)، أما المحققون فيستعملونها بدلاً منها (علماء المشرقيات)، بيد أن (مستشرقون) أكثر شيوعاً خاصة في الآونة الأخيرة.
أما المستشرق فهو عالم غربي اهتم بالدراسات الشرقية، عقائدية كانت أو تاريخية أو أدبية أو حضارية، فالاستشراق إذاً دراسة الغربيين عن الشرق من هذه النواحي)(7).
وعليه فإن المستشرقين، هم جماعة من المؤرخين والكتاب الأجانب الذين خصصوا جزءاً من دراساتهم في تتبع المواضيع التراثية والتاريخية والدينية والاجتماعية والأدبية واللغوية للشرق الإسلامي.
هذا هو المفهوم الواسع للاستشراق، غير أن هناك مفهوماً خاصاً له، يعنى بالدراسات المتعلقة بالشرق الأوسط من حيث لغته وأدبه وتاريخه وعقائده وتشريعاته وحضارته بوجه عام، إذ يطلق على الذين يقومون بتلك الدراسات بـ(المستعربين)(8).
مصطلح الاستشراق يرجع إلى العصر الوسيط، أي الوقت الذي كان فيه البحر المتوسط ـ كما قيل ـ يقع في وسط العالم، وكان الجهات الأصلية تتحدد نسبة إليه، فلما انتقل مركز ثقل الأحداث السياسية بعد ذلك من البحر المتوسط إلى الشمال، بقي مصطلح الشرق رغم ذلك دالاً على الدول الواقعة شرق البحر المتوسط.
ويبدو أن مصطلح الشرق لم يقتصر على هذه الرقعة جغرافياً فحسب، بل تجاوزها إلى غرب الجزيرة العربية وشمال أفريقيا، وذلك بعد الفتوحات الإسلامية، فعدت كل من مصر والمغرب وشمال أفريقيا وما تعرب من مكان هذه الدول من الشرق، فشملها هذا الاسم باعتبار دينها الإسلام ولغتها العربية(9).