Take a fresh look at your lifestyle.

الاستشراق .. وجهٌ آخر

0 846
            قرأت بشغف مقال الدكتور عادل عباس النصراوي المنشور في العدد (41) من ينابيع الزاهرة. وللأمانة فإن المقال كان رصينا زاخرا بالمصادر التاريخية والإحالات ـ على عادة الدكتور النصرواي ـ وحمل شرحا تاريخيا واجتماعيا وافيا لنشأة الاستشراق والظروف التي نما وتطور فيها.
             ولكن وبالرغم من أني اتفق مع اغلب ما جاء في مقال الدكتور من آراء إلا أنني ـ وليسمح لي ـ اختلف معه في بعض التعميمات التي أطلقها دون استثناء.
             فبالرغم من انه قال (ص92 من المقال) ان هناك من المستشرقين (من أنصف الفكر الإسلامي العربي وسار في سبيل غير ما سارت عليه الكنيسة او السلطان في أوربا) بالرغم من هذا الرأي الدقيق الذي طرحه إلا انه عاد كما بدأ وعمم حكما بالسلب على الاستشراق برمته وجرده ـ قديمه وحديثه ـ من أي إنصاف للمسلمين وطرح ـ بحسب ما فهمت من المقال ـ فكرة توحي ان الاستشراق برمته لم يكن له دور ايجابي في نشر وتبويب الإنتاج الفكر الإسلامي العربي.
             بداية لا أنكر ان الكثير من المستشرقين ـ لا بل اغلبهم ـ بدأوا عملهم ضمن بعثات الكنيسة الكاثوليكية ولاحقاً بدعم من الدول الاستعمارية والكثير منهم كانوا يهودا كتبوا بحوثهم تحت تأثير ديانتهم وتاريخهم المتوتر وتضمنت أعمالهم حول الفكر العربي والإسلامي الكثير من الكذب والافتراء والفهم المغلوط وغير المعلل وعلى أسس غير علمية في كثير من الأحيان مثل غولدتسيهر وآراءه المعروفة التي يستند أغلبها إلى الحدس ـ كما يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي(1) ـ بل ان بعض هؤلاء المستشرقين اليهود كانوا صهاينة مثل كرواس الذي درس في جامعة القاهرة وانتهى الأمر به قتيلاً في فلسطين المحتلة على يد جماعته الإرهابية الأرغون، وأيضا بالمر الذي عمل مع المخابرات البريطانية وانتهى الأمر به قتيلا في جزيرة سيناء حتى قال آربري فيه انه نال ما يستحق لأن العلم والسياسة لا يجتمعان.

            إلا انه ـ من جانب آخر ـ فإن هناك مستشرقين عظام كانوا منصفين ومعجبين أشد الإعجاب بالحضارة الإسلامية والتراث الإسلامي وأذكر هنا على سبيل المثال المستشرق الألماني العظيم ريسكه الذي حاربته الدوائر الكنسية وأقصته الجامعات بسبب آراءه المُبجلة للإسلام.
           فهذا الرجل كان يرى ان ظهور النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وانتصار دينه هما من أحداث التاريخ التي لا يستطيع العقل الإنساني ادراك مداها ورأى أنها تدبير أعلى من قوة إلهية قديرة(2) وتبنى آراء جعلت اكاديميا محايدا كالدكتور عبد الرحمن بدوي ينصاع لرواسبه التاريخية ويجزم بأنه يعتنق التشيع لاعتماده على مصادره المتأخرة في آراءه رغم أنه ذكر سابقا ـ أي بدوي ـ ان اول كتب التاريخ التي قرأها كانت الاختصاص لابن قتيبة وتاريخ أبي الفداء.
            والسبب ان ريسكه كان يرى ان الإمام علي (عليه السلام) هو الأحق بالخلافة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة وأنه أحسن أمير عرفه العالم الإسلامي وانه كان عادلا شجاعا، وتعرض إلى كراهية السيدة عائشة له (عليه السلام) ووصفها بالطموح للسلطة والمجد ورأى في صراع معاوية مع الإمام (عليه السلام) انتصار المكر على القوة، وللشر على الحق، واستطرد في وضع مقارنات بين أحداث التاريخ الإسلامي وأهم الأحداث في التاريخ الأوربي ليبين انه جرى على مسرح الأحداث في الشرق الإسلامي ما يساوي في مجده وسموه ما جرى من أحداث في أوربا وعاش اغلب أيام حياته فقيرا معدما محاربا بسبب آراءه الصادقة ومذاهبه الحميدة.
             ولابد ان نذكر أيضاً زيغفريد هونكه وكتابها (شمس الله ـ او الشرق في بعض الترجمات ـ تشرق على الغرب) ووحده عنوانها يكفي للدلالة على ما في كتابها.
              كذلك فيما يخص الرأي المعمم الذي أطلقه الدكتور حول الاستشراق الروسي فقد كان الأجدر به ان يستثني على الأقل المستشرق الروسي كراتشكوفسكي الذي أجهد نفسه في جمع وترجمة التراث الإسلامي العربي وتبوبيه فترجم كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ إلى الروسية وكتب عن الصحافة العربية والأدب العربي والمسألة العربية والتعاطف الروسي وكتب في (تاريخ التأليف في الجغرافية عند العرب) وإن لم ينج كتابه الأخير من سلق حاد لسهير القلماوي حول بعض آراءه اللغوية متناسية ان الرجل روسي ومهما بلغ طول باعه باللغة العربية لا يستطيع ان يتعامل معها كما تتعامل هي أو أستاذها طه حسين.
              أخيرا لابد ان نذكر ان الاستشراق أسهم في استخراج الكثير من كنوز الأدب العربي ونشرها ـ بغض النظر عن الدافع واختلافه من شخص إلى آخر ـ وكان لبعض المستشرقين دور كبير في كتابة معاجم اللغة العربية الحديثة والتدريس في الجامعات العربية وتحقيق نوادر التراث الإسلامي والفهرسة والتبويب للمخطوطات العربية والإسلامية المتناثرة ونذكر هنا كتاب كارل بروكلمن (تاريخ الأدب العربي) بأجزائه الخمسة والذي لم يكمل.
               وختاماً أود القول ان ما ذكرته هنا ليس دفاعا عن الاستشراق وسمومه ـ بتعبير ادورد سعيد(3)ـ ولكن الأمر وما فيه ان للاستشراق جانبان اقتصر الدكتور النصراوي على إظهار السيئ منهما فوددت ان تكتمل الصورة للأمانة العلمية ولأهمية المطبوع الذي ظهر فيه المقال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
(1) موسوعة المستشرقين، غولدتسيهر.
(2) موسوعة المستشرقين، ريسكه.
(3) ادورد سعيد، سموم الاستشراق دار الجمل 2000.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.