Take a fresh look at your lifestyle.

النجف الأشرف مدرسة التسامح

0 842
            نشأت مدينة النجف الأشرف في أعقاب هجرة الشيخ الطوسي إليها، ولم يكن المكان الذي نشأت فيه عليه أصلاً غير منطقة صحراوية قاحلة، أعتاد ملوك المناذرة في عصر ما قبل الإسلام على المجيء إليه طلباً للصيد والراحة. لكن هذه المنطقة المرتفعة النائية، والمنفتحة على الصحراء، سيكون تاريخها مرتبطاً بحادثة دفن جثمان الإمام علي(عليه السلام) بوصية منه بعد استشهاده في سنة 41هـ(1).
لقد ارتبط تاريخ الكوفة التي أسست في عام 17هـ بمرحلة انتقال الإمام علي(عليه السلام) إليها باعتبارها عاصمة الدولة الإسلامية لتصبح بعدها مع البصرة أهم حواضر الثقافة العربية الإسلامية،
           لكن الكوفة، التي ازدهرت كما رأينا، علمياً وأدبياً وفكرياً،طوال أكثر من أربعة قرون، سرعان ما اضمحل دورها، لتحل النجف، التي احتضنت جسد الإمام(عليه السلام) بديلا عنها، كمركز من مراكز الدراسة الدينية، جنباً إلى جنب بغداد، التي كانت مركز الدراسة الأول في العالم الإسلامي، في ذلك الوقت.
لقد دفع تعصب السلطة السلجوقية في بغداد الشيخ الطوسي للتفكير في البديل المناسب الذي يوفر له العزلة والأمان، خصوصاً بعد أن حرق الحاكمون مكتبته على مرأى من العامة، فكان أن قرر الهجرة إلى النجف الأشرف، مغادراً من بغداد عام 448هـ.
وكما لاحظ القزويني، فإن صعود السلاجقة سدة الحكم في بغداد، شكل بداية لصعود الاتجاه السلفي، حيث حقق نجاحاً كبيراً أثر على حسر المنحى العقلي بشكل عام، الأمر الذي يجد تفسيره في المنحى المتعصب الذي انتهجه السلاجقة ليس ضد الشيعة فحسب وإنما اتجاه المعتزلة والحنابلة كذلك(2).
لقد كان متوقعاً من شيخ الطائفة الطوسي وهو يلجأ إلى النجف، ذلك المكان المعزول، والبيئة المغلقة، خصوصاً وهو يغادر بغداد مهاجراً، أن يكتب بلغة متعصبة وغير متسامحة، لكن الطوسي فعل شيئاً آخر.
ومع إن بعض الباحثين يذهب إلى القول أن الشيخ الطوسي لم يكتب الكثير في النجف الأشرف (كتاباً واحداً فقط بحسب هذا الرأي وهو الأمالي)(3). فإن من المرجح أنه درس بقية كتبه التي ألفها في بغداد خلال السنوات الأثني عشر التي عاشها في النجف الأشرف.
إن كتاب الشيخ الطوسي (الخلاف)، على سبيل المثال، يظهر وبشكل واضح النزعة الفكرية المتسامحة التي تمتع بها المؤلف من خلال استعراضه لآراء المذاهب الأربعة المشهورة ومقارنتها بنظيراتها في الفقه الإمامي الجعفري. بل إن الشيخ الطوسي يورد الآراء الفقهية للمذاهب الصغيرة وغير المعروفة، كمذهب زفر والأوزاعي والبصري والظاهري والسدي، بما يجعل كتابه سجلا نادراً للفقه المقارن(4).
لذلك فإن تحديد ولادة مدرسة الفقه الإسلامي المقارن مع نشوء المدرسة النجف الفقهية، لا يبدو بعيداً عن الصواب، وبالشكل الذي يجعل من الشيخ الطوسي-حسب تعبير أحد الباحثين- رائد الفقه المقارن على صعيد المفكرين الإسلاميين عامة لا الشيعة خاصة(5).
               نعم، بدأت ملامح هذه المدرسة بالتشكل في بغداد خصوصاً ما كتبه الشيخ المفيد وتلميذه السيد المرتضى، لكن قاعدتها ستتسع في ما بعد سواء في النجف نفسها أو في المراكز الشيعية الأخرى، خصوصاً في الحلة. إن نهج البحث المقارن الذي أبتدئه الشيخ المفيد والسيد المرتضى، وعمقه كثيراً شيخ الطائفة الطوسي، سيصبح من مقررات المدرسة الشيعية المعاصرة سواء في منتصف القرن العشرين أو ما تلاه(6).
ومع أن الفترة التي تمتد من القرن الخامس الهجري وحتى القرن الثاني عشر، هي فترة عزلة في المقاييس التاريخية، فإن ذلك لم يشكل عائقاً أمام الحراك والنشاط العلمي في الفكر الشيعي عامة وفي جامعة النجف الأشرف تحديداً.
             لقد كانت النجف الأشرف خلال هذه الفترة الطويلة قلعة الأدب العربي، جنباً إلى جنب الحلة الفيحاء، التي أصبحت ولفترة طويلة مركز الشيعة الأول، نتيجة لعوامل متعددة، فازدهر في المدينتين سوق الشعر والنثر العربي الكلاسيكية حتى شبه بعض الكتاب النجف بسوق عكاظ كبيرة. ومن دون شك فإن انتشار الأدب ومدارس التعليم، كان من الأسباب التي حفظت الطابع العلمي للمدينة.
لقد تبين من خلال الدراسات العديدة التي أجريت للفترة الممتدة بين القرنين الثامن والتاسع عشر الميلاديين، إن حركة العلم في المدينة، لم تتوقف برغم الفقر والوضع الاجتماعي المتخلف الذي كان يسود المنطقة عموماً، وكان من اثر هذه الحركة الأدبية والعلمية التي عرفتها المدينة، ان برز المئات من الكتاب والشعراء، وهو عدد ضخم لا يمكن مقارنته بأي بيئة أخرى مشابهه من ناحية المساحة والسكان(7).
إن انتشار الأدب وطلب العلم، يعكس من دون شك، روحاً إنسانية وروحية عالية، فكما توضح لدينا، فإن النزعة الإنسانية المتسامحة والعقلانية، ترتبط بشكل وثيق، بانتشار الفكر والعلم، صحيح إن النجف حافظت على طابعها الديني بثوابتها المعروفة، لكن ذلك لم يصاحبه ظهور أي نزعة متطرفة دينياً أو عنصرياً ومن خلال بحثي في المصنفات والمؤلفات التي تحكي عن تاريخ النجف الأشرف، لم أجد ما يشير إلى اضطهاد بسبب رأي فكري أو ديني مختلف، كما حدث في البيئات المماثلة كمدن أوربا على عهد قوة الكاثوليكية، أو في الأندلس أو في بعض الأماكن الأخرى في العالمين المسيحي والإسلامي.
كذلك فإن دراسة تاريخ المدينة الممتد بين القرنين 19، 20 الميلاديين لا يشير إلى أي لون من ألوان التعصب الديني أو العنصري، خصوصاً مع وجود الأعداد الكبيرة من الأقليات القومية الأخرى، ومن خلال المتابعة للفترة المذكورة فقد تبين لي حدوث نوعين من التوترات، وهي توترات قبلية محلية وتوترات سياسية، وكلاهما لا علاقة له بالتعصب بمعناه العام، ولم يؤثر كثيراً على جو المدينة المتسامح.
لقد شكلت القبائل العربية العماد الأكبر لسكان النجف، لكن الطابع العلمي للمدينة أغرى أقواماً كثيرين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي للقدوم إليها بل وجعلها دار الحياة والممات، وهكذا فقد اختلط العلماء العرب بالإيرانيين والأفغان والهنود بالإضافة إلى أولئك القادمين من الشعوب الآسيوية الأخرى، لينتج هذا التمازج السكاني فكراً شديد التنوع والحيوية. لقد انصهرت في بيئة النجف ثقافات إنسانية متعددة. وكان حصيلة هذا الانصهار روحاً علميةً خالصةً، عصيةً على المغريات والمؤثرات(8).
لقد أسهمت جامعة النجف مساهمة كبيرة في ترسيخ الأسس العقلية داخل الفكر الشيعي، لاسيما من خلال تأصيل مدرسة الاجتهاد الشيعية المميزة. وربما كان الفضل الأكبر يعود لمدرسة النجف الأشرف، في حسم المعركة الكبيرة التي جرت داخل الفكر الشيعي بين التيار الأصولي العقلي من جهة والتيار الإخباري من جهة أخرى، فهذه المعركة الأخيرة بين التيارين العقلي والنقلي داخل المدرسة الشيعية قد تم وضع نهاية لها على يد الشيخ الكبير الوحيد البهبهاني(قد)
           ومن ثم ستصبح النجف الأشرف وبواسطة تلامذته الكبار السيد محمد مهدي بحر العلوم (قد) والشيخ جعفر كاشف الغطاء(قد) معقل الفكر الأصولي وقاعدته القوية، إن الفكر الأصولي بدعوته إلى حرية الاجتهاد، قد أعاد صياغة استخدام العقل وبشكل أكثر من ذي قبل. لذلك سيرتبط تاريخ المدرسة الأصولية إلى حد كبير بتاريخ مدينة النجف الأشرف، التي وضعت الأسس الفلسفية والعلمية لهذه المدرسة المتجددة.
أضف إلى ذلك أن النجف عملت طوال أكثر من ثلاث قرون على صياغة مدرستها المتميزة في اللغة والأدب، خصوصاً وإنها وريثة مدرسة الكوفة الإسلامية، بشكل طبعها بملامح خاصة وغير قابلة للتقليد. إن الصفة الإنسانية تمثل واحدة من أهم المميزات التي طبعت المدرسة النجفية، سواء في سلوك رجالاتها أم في نتاجات مفكريها، الأمر الذي مكنها من الانفتاح والتلاقح مع مختلف الأفكار والمدارس العالمية لذلك لا غرابة أن تتلقى النجف أحدث الأفكار العلمية والسياسية والفكرية، لتناقشها وتتفاعل معها سلباً وإيجاباً.
ففي الوقت الذي كان فيه العالم الإسلامي يتجادل حول جواز قراءة الكتب العلمية الصادرة في البلاد الأوربية والتي تحتوي على أطروحات مخالفة للعقائد الإسلامية، كانت الحوزات العلمية النجفية، تناقش هذه الأفكار بكل حرية وسعة صدر.
لقد استقبلت النجف أحدث الإصدارات العلمية والفكرية والسياسية مع مطلع عصر النهضة، وكانت هذه الكتب الجديدة بأفكارها المختلفة علمياًُ ودينياً وعقائدياً وسياسياً، تلقى مناقشة علمية مستفيضة، لا مجال للتعصب فيها من قبل علماء ورجال الفكر،
           وبحسب قول احد الكتاب المعاصرين، فإن علماء النجف الأشرف استقبلوا الكتب الفكرية الشديدة النقد للدين ككتب داروين وشبلي شميل أثناء الحكم العثماني وبروح علمية خالصة.
لقد أفتى علماء النجف في ذلك الوقت بجواز إدخالها، حيث تولى الرد على نظرية داروين الشيخ أغا رضا الأصبهاني فيما رد الشيخ محمد جواد البلاغي على كتب شبلي شميل(9).
ومن دون شك فإن هؤلاء العلماء لم يؤسسوا منهجاً جديداً في الفكر الشيعي، بقدر ما حافظوا على منهج قديم ومتوارث منذ عهد أئمة الشيعة الأوائل(عليهم السلام) الذين أسسوا للتسامح والعقلانية بشكل منهجي، وبما يدعو إلى الاستنتاج إن نزعتي التسامح والإنسانية هما من الصفات المتأصلة في الفكر الشيعي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يراجع: محبوبة، الشيخ جعفر ماضي النجف وحاضرها ، الطريحي،الشيخ محمد كاظم النجف الأشرف مدينة العلم والعمران.
(2) القزويني، جودت، المرجعية الدينية العليا عند الشيعة الإمامية، ص88-89.
(3) المصدر السابق، ص77.
(4) القزويني، جودت، تاريخ المؤسسة الدينية الشيعية، ص40.
(5) الحكيم، السيد محمد جعفر، تاريخ وتطور الفقه والأصول في حوزة النجف العلمية،ص74.
(6) لاحظ على سبيل المثال، الحكيم، السيد محمد تقي، الأصول العامة للفقه المقارن، مغنية، محمد جواد، الفقه على المذاهب الخمسة.
(7) لاحظ على سبيل المثال، الخاقاني، علي، شعراء الغري، الموسوي، عبد الصاحب، تطور مدرسة الشعر النجفي.
(8) تراجع بعض الدراسات الحديثة عن النجف الأشرف منها الدراسة(باللغة الانكليزية)
Litvak,meir,shii scholars of nineteenth century in Iraq.
(9) دخيّل، علي محمد، نجفيات، ص158.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.