كانت هجرة الشيخ الطوسي إلى النجف الأشرف عام (448هـ) إيذاناً ببدء مرحلة تاريخية جديدة لهذه المدينة المقدسة وبداية لتكوين معرفي اجتماعي جديد بذر هذا الشيخ الجليل بذرته الأولى عندما وضع لبنات التأسيس لمدرسة النجف العلمية الدينية
وحسب بعض الروايات التاريخية فإن السكن في هذه المدينة التي تشرفت بمرقد إمام المتقين علي بن أبي طالب(عليه السلام) لم يكن كثيفاً بل تواجد عدد قليل من الساكنين فيها من شيعة أهل البيت(عليهم السلام) ومن الذين يقدمون الخدمات في طريق الحجاج المارين بالمدينة إلى الديار المقدسة في مكة والمدينة ومن الذين يخدمون الضريح المقدس.
لكن النقلة الديمغراقية المعرفية التي حصلت عندما حط الشيخ الطوسي فيها مرتحلاً من مدينة بغداد فكان عهداً جديداً تمثل ببدء العمل والنشأ في حوزتها العلمية ومدرستها الدينية.
وحسب مؤرخ النجف الأول الشيخ جعفر محبوبة فإن الذين اندفعوا إلى النجف من مختلف الأرجاء للسكن ومجاورة مرقد أمير المؤمنين(عليه السلام) كان همهم الأول التعلم والدراسة في مدرستها وإذا تفحصنا السكان الأوائل أي السكان الأصليين الذين استقروا فيها لوجدنا إنهم من أعراق شتى ومناطق مختلف في كل بقاع العالم الإسلامي جمعهم قاسم مشترك واحد هو تشيعهم ورغبتهم بالدراسة ولم يبق هؤلاء على صنف واحد من العمل التعليمي بل إن بعضهم وأحفادهم شعروا بحاجة المدينة الماسة إلى الخدمات الأخرى من حرف وأعمال ومهن حياتية ومعاشية
وهكذا تشكل فيها النواة الأولى للعوائل والأسر النجفية الذائبة في بوتقة المدينة المشرفة وعندما نقول ذائبين فإننا نقصد تكون مجتمع جديد امتلك خصائص وسمات كونها المكان والزمان والأبعاد الروحية لهذه المدينة المقدسة.
يمكن للباحث أن يلاحظ بسهولة طبيعة هذه السمات والصفات النجفية المتشكلة عبر تاريخ من الاندماج الاجتماعي لأشخاص وأسر وعوائل تنحدر من خلفيات اجتماعية مختلفة لها عاداتها وتقاليدها وحتى قيمها الخاصة لكن هذا التفاعل والانصهار أوجد تركيباً جديداً يمكن أن نطلق عليه المجتمع النجفي ولعل من أبرز الأسس والقواعد المعتمدة في تكون هذا التركيب الجديد يتمثل بالعامل المشترك لكل المكونات ونعني به العامل الروحي والتشييع لآل البيت(عليهم السلام)،
والحقيقة إن المكون الاجتماعي الجديد أزاح عنه ما اختلف عليه الجميع وأبقى ما أراده واتفق عليه الجميع إذ تخلص البعض من عمادات وتقاليد لا تتناسب مع الطبيعة الروحية للمدينة ولا مع الدافع الأساس للجماعة السكانية النازلة فيها فتم التخلص منه طواعية من قبل المكونات المتنوعة وبالمقابل تم الإبقاء على ما يتناسب مع الجانب الروحي للمدينة وعامل التجمع الأساس لها،
ولكن العامل الأكثر جدياً وقبولاً الذي اندمجت على أساسه كل المكونات القادمة من مناطق مختلفة كان استخدام اللغة العربية وحفظ تراث شيعة أهل البيت(عليهم السلام) وفي هذا المجال يمكن أن نلاحظ دلائل على ما نذهب إليه في اللهجة النجفية المميزة بلكنتها ومخارج كلماتها المطابقة للغة العربية الفصحى.
في هذه الظروف التاريخية التكوينية لمجتمع جديد انبثق من بين مكونات متنوعة تمت إعادة صياغة لعادات وتقاليد نجفية مميزة وليس هذا فحسب بل تشكل رأي عام نجفي ينظر للقضايا من رؤية مختلفة ارتبطت هذه الرؤية ارتباطاً وثيقاً برأي المرجعيات الدينية ومواقفها من مختلف القضايا المثيرة للجدال والنقاش بل إن التوريث التراثي للآباء الأوائل إلى الأبناء قد ساهم في جعل الشخصية النجفية تتسم بالصلابة والاعتداد بالنفس والثقة وحب العمل والإبداع وشيوع روحية التفاني والتعاون في أعمال الصالح العام.
والحقيقة إن الباحث يقف أمام تكون تركيبي يميل إلى العمل الاجتماعي المنظم يحترم القواعد العامة القانونية والعرفية، فالأعراف النابعة من هذا التركيب الاجتماعي وطبيعة مكوناته هي أعراف مدنية لمجتمع مدني حضري ينظر بتقدير بالغ إلى الأعمال العظيمة وأفعال الخير ويبالغ في تقدير الرجال المبدعين والمتميزين في أعمالهم الخيرية أو نتاجاتهم الفكرية ومن هنا ولأن هذا المجتمع قام على أسس معرفية وروحية أصيلة يمكن أن نطلق عليه (مجتمع المدرسة)
فإننا نلحظ الاهتمام الكبير من الأسر والبيوتات النجفية بالكتاب وتأسيس المكتبات وفي هذا الجانب فإن ما موجود من مكتبات عامة في النجف الأشرف يفوق ما توافر في مدن عربية وعراقية من مكتبات وهذا يقدم دليلاً على مستوى تقدم الحياة المعرفية الحضرية في هذه المدينة وعشق الكتاب والارتباط بالعلوم والمعارف وكثيراً ما يقاس تطور ونمو المجتمعات بأعداد المكتبات والإصدارات الإبداعية
والنجف كانت سباقة في مجال إنتاج المعرفة وإدخال المطابع، وليس هذا فحسب بل إن البيوتات النجفية ونتيجة للأعراف والأنماط الحياتية التي تكونت أصبحت لا تخلو من المكتبات المنزلية الخاصة بأفراد العائلة الذين ينشئون وهم يطلعون على وجود الكتاب في منازلهم فتنمو شخصياتهم على حب القراءة والمطالعة لكل المعارف حتى أصبح الشخص النجفي عارفاً ومتعلماً في أغلب الأحيان يعود الكتاب جزءاً مكملاً لشخصيته وحياته اليومية ولدينا عشرات القصص عن اللهفة العارمة التي حركت شخصيات نجفية إلى البحث عن الكتب في كل مكان وبأي ثمن.
وهكذا فقد تكون مع المجتمع النجفي تقليد حيازة الكتب وتأسيس المكتبات العامة والخاصة والقراءة والمطالعة وهذا التقليد يمكن وصفه بإحدى السمات الخاصة بالبيئة النجفية المدنية، وعندما نشير إلى التقاليد المتكونة لهذا المجتمع فإن ذلك يعني إعادة ترتيبها لتأكيدها باعتبارها امتيازاً نجفياً خالصاً
بل يمكن أن نضيف إلى ذلك الدور النجفي الهام لما تمتعت به هذه المدينة من إمكانات وميزات في إعادة صياغة الرأي العام الإسلامي تجسد ذلك بما تقدمه من إنتاج فكري وثقافي وتدفق معلوماتي وإعلام موجه فأمست النجف الأشرف لهذا وغيره من الاعتبارات قبلة للمبدعين وطلاب المعرفة للاستقرار والسكن والإنتاج فهي بيئة حاضنة للكفاءات والمبدعين كما أشرنا سابقاً فهم يتمتعون بالاحترام والتقدير العاليين
أي إن المجتمع النجفي بتكوينه المعرفي الابتدائي رسخ هذه القيم وأعاد إنتاجها بفترات تاريخية متعاقبة حتى دامت التقاليد عبر سلسلة من المظاهر والأسس (الندوات، المؤتمرات، المجالس الأدبية، المنتديات والمجمعيات) ليطلع الشكل المتوهج لمدينة علمية تعيش الحضارة والحياة العصرية والحقيقة فقد أشرنا في مقالات سابقة إلى الانسجام مع العصر ومتطلباته سواء من قبل المرجعيات الدينية في النجف والحوزات العلمية التي تمثل الأساس التكويني للمجتمع النجفي أو لهذا المجتمع نفسه الذي يعيش حراكاً وتناغماً عصرياً تماشياً مع رموزه الدينية المعتبرة
كان المجتمع النجفي قد أقام له سماته الخاصة ليس في المجالات المذكورة آنفاً بل حتى في الأساليب والأنماط الحياتية فالمطبخ النجفي الذي عرف بخواصه وابتكاراته كجزء من تراثه العميق قدم أكلات جديدة امتزج فيها التنوع الممثل لسكان المدينة وتركيبتها الاجتماعية وعرف الطعام النجفي في كل مكان إضافة إلى ما تنتجه بعض المعامل الخاصة بالمواد والسلع الغذائية وعلى الرغم من الإغراءات التي تقدمها المصانع العالمية ولاسيما في مجال الحلويات فإن النجفية منها ما زالت تمثل الصدارة في العراق ومطلوبة من كل الاتجاهات.
وعندما نشير إلى هذه المظاهر المادية فإن التكون القيمي والأخلاقي المرتبط أصلاً بالفكر المنتج داخل البنية المرجعية الدينية قد كان هو الآخر ميزة أخرى تشكلت منها ثقافة المدينة اليومية ونعني هنا قيم التسامح والاعتدال وحب العمل والإنتاج والحقيقة فإن الفرد النجفي يعتمد على نفسه في توفير قوت أسرته ويندفع اندفاعاً شديداً نحو العمل حتى أتقنه وأبدع فيه فسادت في هذا المجتمع فلسفة حب العمل بمختلف أصنافه سواءً كان تجارة أو صناعة أو عملاً مكتبياً،
ودائماً ما يشار إلى النجفي في الأماكن المختلفة التي يسكن فيها مهاجراً أو يتردد عليها مرتبطاً بها عملاً يشار له بالجدية والمثابرة والمطاولة في التجمل ولنا في ذلك شواهد على قدرات نجفية صناعية وتجارية وتفوق فيها أثرت فيها فلسفة العمل السائد كما ذكرنا كانت التركيبة السكانية المتنوعة التي كونت المجتمع النجفي وفي ظل ظروف بيئية صعبة حيث فقدان الأنهار والزراعة قد منحت للعالم الصورة النهائية لهذه المدينة المقدسة من تنوع ثقافي وفكري وحياة روحية
وزاد من هذا الشكل الناصع التشابك الأسري العائلي والتداخل بين البيوتات النجفية مصاهرة وعلاقات اجتماعية فكانت اللحمة الاجتماعية مثيرة للانتباه لتكون إن صح التعبير عائلة واحدة تتفرع إلى أسماء وعناوين.
نستطيع القول إن المجتمع النجفي يمتلك خصائص التماسك والتضامن مثلما يمتلك ميزات التحضر والمدنية وخلال التاريخ القريب وجدنا ذلك واضحاً فيما حصل عام 1915م عندما أدارت هذه المدينة نفسها بنفسها وبنجاح باهر بالإضافة إلى قدرة الاستجابة للتحديات العصرية والميزات القيادية
فنحن أمام مجتمع متعدد الإمكانات والمواهب والنتاجات متسامح معتدل صعب الخضوع لقوة تحاول ترويضه والسيطرة عليه محترماً لرجاله ورموزه متحرك لا يحب الجمود والثبات له إرث تاريخي طويل صهر عناصره المتنوعة في بوتقة واحدة ليكون هذا التنوع فاعلاً في تقديمه مؤهلاً ومبهراً أمام الأنظار،
وموضعاً للدراسات والبحوث في كل أنحاء العالم ورأيه الذي تمثله المرجعية الدينية العليا ونخبه المتعلمة المثقفة محترم ومقدر ويحظى بالاهتمام، هذا هو المجتمع النجفي المتولد عن تكامل في ثقافات ومنحدرات جمعها رابط الولاء لأهل البيت(عليهم السلام) والنهل من مدرستهم الأصيلة.