تحرك الإمام علي الهادي(عليه السلام) في حياة الناس بحيث يراقب ويتصدى لكل الانحرافات التي تعرض لها الواقع الإسلامي، لأن مسؤولية الأنبياء والأولياء والعلماء في كل زمان ومكان هي أن يدرسوا كل الخطوط التي تتحرك في الثقافة الإسلامية أو في الواقع الإسلامي، ليصلحوا الخطأ، وليقوّموا الانحراف بالأساليب التي وضعها الله تعالى في كتابه، بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن.
وقد واجه(عليه السلام) كثيراً من المشاكل الفكرية التي كانت قد فرضت نفسها على الذهنية الإسلامية لتنحرف بها عن الصواب، فقد حدثت في زمنه مشكلة الذين يقولون بالجبر، وأنَّ الله تعالى أجبر عباده على أعمالهم، فليس للعباد اختيار في ما يطيعون أو يعصون، فالطاعة من الله والمعصية منه.
وكان هناك اتجاه التفويض الذي يقول: إن الله تعالى فوّض الأمر إلى خلقه، فهو خلقهم وانعزل عنهم، أو فوض الأمر إلى بعض خلقه، بمعنى أن الله تعالى خلق الناس وجعل الأمر للأنبياء مثلاً، فلا يتدخل في شؤون الناس، ولكن تبقى قدرة الله وهيمنته وتدبيره للناس، بما لا يبعدهم عن رعايته وتدبيره وسلطته.
كان أصحاب هذين الاتجاهين بحسب الظاهر خارج المدينة، فأرسل الإمام الهادي(عليه السلام) رسالةً شارحاً لهم حقائق الأمور، ومبيِّناً لهم بالدليل من العقل والنقل بطلان الجبر والتفويض، ودعاهم إلى الاستقامة في خط الله سبحانه وتعالى، كما واجه الغلاة الذين حاولوا أن يحركوا خرافاتهم في العامة، ولا سيما أن كثيراً من الذهنيات التي تعيش في المجتمع هي ذهنيات طيبة تقبل كل شيء، وهذا يحدث في كل زمان ومكان.
عاش الإمام علي الهادي(عليه السلام) عمرًا قصيرًا قياساً إلى العمر الطبيعي، فقد كان عمره يوم وفاته إحدى وأربعين سنةً، وكان مولده(عليه السلام) سنة 212هـ. وقد عاش حياته هذه في نشاط دائم متحرك في الثقافة الإسلامية، فقد كان يعلّم الناس، ويعلم العلماء منهم، حتى ذُكِر أن الذين رووا عنه علومه بلغوا ما يقارب مئة وخمسة وثمانين راوياً، والراوي عادةً يمثل موقعاً ثقافياً متقدماً في ذلك الوقت(1).
إن هذه السطور ليست شرحًا لرسالة الإمام الهادي(عليه السلام)، بل هي إشارات ومقاربات فكرية طالما احتجنا فيها إلى التذكير باستعمال العقل في تدبير أمور دنيانا وآخرتنا. دنيانا التي هي مدار العمل المقترن بالسلوك الإسلامي الناصع المؤثر من خلال اتخاذ العقل السليم طريقا إلى هذا العمل. وآخرتنا بوصفها الدار الحقيقية للإنسان، لأن الحياة فيها سرمدية. وشتان ما بين حياة لا تشكل غير عمر زائل لا محالة، وبين حياة أبدية. ومن طبيعة الإنسان أنه يبحث عن السعادة ولا يفكر بالشقاء.
تبدأ رسالة الإمام الهادي(عليه السلام) بقوله: (من علي بن محمد، سلام عليكم وعلى من اتبع الهدى ورحمة الله وبركاته، فإنه ورد عليَّ كتابكم وفهمت ما ذكرتم من اختلافكم في دينكم وخوضكم في القدر ومقالة من يقول منكم بالجبر ومن يقول بالتفويض وتفرقكم في ذلك وتقاطعكم وما ظهر من العداوة بينكم، ثم سألتموني عنه وبيانه لكم وفهمت ذلك كله. اعلموا رحمكم الله إنا نظرنا في الآثار وكثرة ما جاءت به الأخبار فوجدناها عند جميع من ينتحل الإسلام ممن يعقل عن الله جل وعز لا تخلو من معنيين: إما حق فيُتبع وإما باطل فيُجتنب…)(2)
إن من يطلع على رسالة الإمام الهادي(عليه السلام)
سوف يدرك سهولة الجواب على الرغم من صعوبة السؤال، إذ إن الإمام جمع لهم في هذا الكتاب الآيات القرآنية وكلام أهل بيت العصمة (صلوات الله وسلامه عليهم)، ومزجه ببعض الأمثلة والشواهد لنفي الجبر والتفويض وإثبات الأمر بين الأمرين.
يقول(عليه السلام): (فأمَّا الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ، فهو قول من زعم أن الله جل وعز أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها، ومن قال بهذا القول، فقد ظلم الله في حكمه وكذّبه وردَّ عليه قوله: (ولا يظلمُ ربُّك أحداً).(3)
وقوله: (ذلك بما قدّمَتْ يداكَ وأنَّ الله ليس بظلاّمٍ للعبيد).(4)
وقوله: (إنَّ الله لا يظلمُ النّاسَ شيئاً ولكنَّ الناسَ أنفُسَهُم يظلمون).(5)
مع آيات كثيرة في ذكر هذا. فمن زعم أنَّه مجبرٌ على المعاصي، فقد أحال بذنبه على الله وقد ظلمه في عقوبته، ومن ظلم الله فقد كذّب كتابه، ومن كذب كتابه فقد لزم الكفر بإجماع الأمة.. وأما التفويض الذي أبطله الصادق(عليه السلام) وخطَّأ مَنْ دان به وتقلّده فهو قول القائل: إنَّ الله جلَّ ذكره فوض إلى العباد اختياراً أمره ونهيه وأهملهم، وفي هذا كلام دقيق لمن يذهب إلى تحريره ودقته، وإلى هذا ذهبت الأئمة المهتدية من عترة الرسول(صلى الله عليه وآله)، فإنَّهم قالوا: لو فوّض إليهم على جهة الإهمال، لكان لازماً له رضى ما اختاروه واستوجبوا منه الثواب، ولم يكن عليهم في ما جنوه العقاب إذا كان الإهمال واقعاً.. فمن زعم أنَّ الله تعالى فوّض أمره ونهيه إلى عباده، فقد أثبت عليه العجز وأوجب عليه قبول كل ما عملوا من خير أو شر، وأبطل أمر الله ونهيه ووعده ووعيده، لعلّة ما زعم أن الله فوضها إليه، لأن المفوض إليه يعمل بمشيئته، فإن شاء الكفر أو الإيمان كان غير مردود عليه ولا محظور، فمن دان بالتفويض على هذا المعنى، فقد أبطل جميع ما ذكرنا من وعده ووعيده وأمره ونهيه، وهو من أهل هذه الآية: (أفتؤمنونَ ببعض الكتاب وتكفُرونَ ببعضٍ فما جزاءُ مَن يفعلُ ذلك منكم إلاَّ خِزيٌ في الحياة الدنيا ويومَ القيامة يُرَدُّونَ إلى أشدِّ العذاب وما اللهُ بغافلٍ عمّا تعملون).(6) تعالى عما يدين به أهل التفويض علوّاً كبيراً.
لكن نقول: إنَّ الله جلَّ وعزَّ خلق الخلق بقدرته وملّكهم استطاعة تعبّدهم بها، فأمرهم ونهاهم بما أراد، فقبل منهم اتباع أمره ورضي بذلك لهم، ونهاهم عن معصيته، وذمَّ من عصاه، وعاقبه عليها، ولله الخِيَرَة في الأمر والنهي، يختار ما يريد ويأمر به وينهى عما يكره ويعاقب عليه بالاستطاعة التي ملّكها عباده لاتباع أمره واجتناب معاصيه، لأنه ظاهر العدل والنصفة والحكمة البالغة، بالغ الحجة بالإعذار والإنذار، واليه الصفوة يصطفي من عباده من يشاء لتبليغ رسالته واحتجاجه على عباده، اصطفى محمداً(صلى الله عليه وآله) وبعثه برسالاته إلى خلقه)).(7)
إنَّ الذي يؤكد التزام الإمام الهادي(عليه السلام)
المنهج العقلي في توجيه شؤون الأمة أننا نراه ينطلق إلى أفكار متعددة يؤكّد فيها قيمة العقل، ويضرب لذلك مثلًا هو معجزات الأنبياء، لماذا جاء موسى(عليه السلام) بمعجزة العصا وباليد البيضاء، ولماذا جاء عيسى(عليه السلام) بمعجزة إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، ولماذا جاء محمد(صلى الله عليه وآله) بمعجزة القرآن في عالم البلاغة.
يروي (الكليني) في (الكافي) عن الحسين بن محمد عن أحمد بن محمد السيّاري عن أبي يعقوب البغدادي، قال: (قال ابن السكيت ــ وكان من علماء اللغة العربية ــ لأبي الحسن علي الهادي(عليه السلام): لماذا بعث الله موسى بن عمران(عليه السلام) بالعصا ويده البيضاء وآلة السحر، وبعث عيسى بآلة الطب، وبعث محمداً(صلى الله عليه وآله) على جميع الأنبياء(عليهم السلام) بالكلام والخطب؟ فقال أبو الحسن: إن الله لما بعث موسى(عليه السلام) كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله، وما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجة عليهم، وإنَّ الله بعث عيسى(عليه السلام) في وقت ظهرت فيه الزمانات.(8)
واحتاج الناس إلى الطب، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيى لهم الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله وأثبت به الحجة عليهم، وأنَّ الله بعث محمداً(صلى الله عليه وآله) في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام، وأظنه قال الشعر فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل قولهم وأثبت به الحجة عليهم.
قال: فقال ابن السكِّيت: تالله ما رأيت مثلك قطّ، فما الحجّة على الخلق اليوم؟ قال: فقال(عليه السلام): العقل يعرف به الصادق على الله فيصدّقه، والكاذب على الله فيكذّبه، قال: فقال ابن السكيت: هذا والله هو الجواب)(9).
وهذا هو المقياس الذي لا بد لنا من أن نقيس به الأشياء، فالعقل قادنا إلى أن نؤمن برسول الله(صلى الله عليه وآله)، وإلى أن نؤمن بالقرآن وبالإسلام، والعقل يقودنا الآن إلى أن يكون تصديقنا لمن نصدقه منطلقاً من الحجة التي يتمتع بها هذا الإنسان الذي يريد أن يكون حجة علينا في ذلك، وأن لا يكون انتماؤنا لأي إنسان من خلال قرابة أو صداقة أو حالة سطحية، بل أن نستنطق عقلنا في كل من يتحرك في الساحة، لنعرف من الصادق على الله تبارك وتعالى لنصدقه، ومن الكاذب عليه لنكذّبه، وإذا استنطقنا عقولنا وتجردنا عن كل أهوائنا وكل ما ورثناه وألفناه، فسينطلق العقل ليعرفنا الحجة في كل زمان ومكان.
وهذا هو الدرس الذي يجب أن نأخذه من الإمام الهادي(عليه السلام)، لأن مجتمعاتنا ضائعة في مسألة القيادة، وأن الذهنية العشائرية تارة والعصبية تارة أخرى، هي التي تحدد موقفنا من الأشخاص سلباً أو إيجاباً، وقد ورد في كلمة أمير المؤمنين في وصيته لابن عباس: (… فَلا يَكُنْ أَفْضَلَ مَا نِلْتَ فِي نَفْسِكَ مِنْ دُنْيَاكَ بُلُوغُ لَذَّةٍ أَوْ شِفَاءُ غَيْظٍ وَلَكِنْ إِطْفَاءُ بَاطِلٍ وَإِحْيَاءُ حَقٍّ…)(10). فعليك أن لا تعيش الانفعال والعاطفة في كل علاقاتك الدينية والسياسية والاجتماعية والأمنية؛ لأنّها تذهب كأي شيء طارئ.
ولما كانت غاية الإسلام أن تأخذ به البشرية جمعاء، بوصفه منهج حياة لها، ولما كانت نصوص الشريعة، سواء تلك التي وردت في القرآن الكريم أو في السنة الشريفة، متناهية معينة، والوقائع أو الحوادث الإنسانية المختلفة غير متناهية، وبما أنه لم يرد في الشريعة نص أو حكم في كل حادثة أو لكل واقعة، ولا يُتصور ذلك أصلًا، وما دامت الحوادث تترى، والزمان يتجدد، والناس تتغير؛ وبما أن تقدم المجتمع الإنساني أو تطوره يوجد حاجات جديدة على الدوام، ويخلق وقائع جديدة تفرز مشاكل مستجدة لم ترد فيها نصوص خاصة في الكتاب أو السُنة؛ وهذه الوقائع أو الأحداث تمس حياة الناس من حيث علاقاتهم بعضهم ببعض من جميع النواحي؛ علمنا أن النظر العقلي أمر لا غنى عنه، وأمر واجب حتى يكون لكل حادثة أو واقعة أو مشكلة، حكم معين ينسجم مع أصول النص وغاياته. وكل ما حكم به العقل، حكم به الشرع. فالعقل (رسول) في الباطن، والشرع (عقل) في الظاهر. فإذا أدرك العقل أن العدل حسن والظلم قبيح، حكم الشرع بأن العدل محبوب لله، والظلم مكروه له.(11)
نتيجة التنكر للعقل
لقد نتج عن غياب العقل هذا أن أصبح الإسلام خلطًا عجيبًا من العقيدة المشوشة، والأساطير الموروثة، والتفسيرات الخاطئة، ثم استحال هذا الخلط على تراخي الزمن وانقطاع الصلة واستعجام اللسان إلى مخدر يمنع من النظر، ويصد عن الفكر، ويُذهل أهله عن حركة الوجود وسير الفُلك، فعرف كثير من أهل الإسلام اليوم بجهالة كالموت، وتوكل كالتواكل، وهم يتوهمون أن الإسلام ليس من شأنه الدنيا، وأن المسلم ليس من همه المادة، وأن ما هم فيه من ظلام الفكر وخَدَر الشعور إنما هو روح الدين ورضا الله وطريق الجنة. وإن من محن الإسلام ــ حين ضعف أهله وزال سلطانه ــ أن امتزجت فيه كل نحلة، وسرت إليه كل علة، وتراءت فيه كل حالة، فكل امرئ واجد فيه ما يلائم استعداده ويناسب فهمه، وإذا كان هذا حاصلًا بين العرب وهم أهل الدين وأصحاب اللغة واللسان فما ظننا بغيرهم ممن بلغتهم الدعوة مترجمة عن طريق الفرس أو عن طريق الترك بالتجارة أو بالفتح.(12)
وهكذا انتهى الأمر بالمسلمين في حالة غياب العقل والوعي إلى أن ينقسموا طوائف بعضها ضد بعض، وتراجع دور العقل، فشكل ذلك هروبًا من مسؤولياتهم في حل مشاكلهم بأنفسهم على هدي كتاب الله الذي لا يهدي إلا بالعقل.
إن الإيمان ليس مجرد فكرة تنطلق من العقل لينفتح لها القلب، فلا تقف أي موقف تأييد إلا إذا كان الإيمان ينسجم مع هذا الموقف، ولا تقف موقف رفض إلا إذا كان الإيمان يتطلّب منك ذلك. أن تكون مؤمن العقل والقلب والإحساس والشعور والحركة، لأنّ ذلك هو الدليل على إيمانك، وهذا ما تحدّث به الإمام الصادق(عليه السلام) في ما رُوي عنه (أنهم قالوا له: إنَّ هناك من يقول إننا نرجو الجنة ونخاف من النار، قال: كذبوا، ليسوا براجين، إن من رجا شيئاً طلبه ومن خاف من شيء هرب منه)(13).
نشرت في العدد 53
الهوامش
(1) ظ: مناقب آل أبي طالب: 4/402
(2) نص الرسالة كاملا في تحف العقول عن آل الرسول،لأبي محمد الحسن بن علي بن شعبة الحراني،تحقيق: علي أكبر الغفاري،،دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان،ط1 1426هـ ــ 2005م: 491 ــ 510
(3) الكهف: 49
(4) الحج: 10
(5) يونس: 44
(6) البقرة: 85
(7) تحف العقول عن آل الرسول، للحراني: 492 وما بعدها.
(8) الزمانات: الأمراض المزمنة.
(9) الكافي: 1/24
(10) نهج البلاغة، دار التعارف، بيروت، لبنان: 634
(11) ظ: العقل والشريعة، مباحث في الأبستمولوجيا العربية الإسلامية، د. مهدي فضل الله، دار الطليعة، بيروت،ط1، 1995: 16
(12) ظ: مكانة العقل في الفكر العربي، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها المجمع العلمي العراقي، بيروت، ط2،1998: 63
(13) بحار الأنوار:67/357