تسلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) زمام الحكم ودفة القيادة الفعلية للأمة الإسلامية بعد مقتل عثمان بن عفان سنة 35 هـ، ليقود بذلك أول دولة للعدل بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وقد اتسمت بيعة الناس لأمير المؤمنين(عليه السلام)
باندفاع منقطع النظير افتقدته كل البيعات الثلاث التي تمت قبله في مشهد عكس حالة الإحباط واليأس التي وصلتها الأمة من الحكومات التي تعاقبت على حكم المدائن الإسلامية بسبب فشل الأخيرة في تحقيق العدل وتطبيق الإسلام الصحيح ومنهج القرآن الكريم، كما أوضح هذا المشهد أن الأمة استعادت هامشاً من وعيها السياسي والديني الذي اكتوى بفتنة السقيفة وما تلاها من أحداث حرفت البوصلة الإسلامية بعيداً عن منظومة الممانعة التي خلفها رسول الله(صلى الله عليه وآله) في أمته (كتاب الله وأهل
البيت(عليهم السلام)).
وما لبثت البيعة أن تتم حتى استعادت الأحزاب الانقلابية خيوط المؤامرة من جديد، بسلسلة من أحداث الشغب والتمرد العسكري ضد الحكومة الشرعية لأمير المؤمنين(عليه السلام)، وطفق رموز الحركة الانقلابية وأذنابها يشقون الصفوف، ويحرضون العامة، وينشرون الفتن، ويعتدون على الأمصار وولاتها المعينين من قبل أمير المؤمنين(عليه السلام)، فما كان من علي(عليه السلام) إلا أن جحفل نحوهم الجحافل، وسير الكتائب فوعظهم وذكَّرهم الله فلما أبت قلوبهم العمياء موعظة الحق قاتلهم في حروب ضروس ثلاث (الجمل، صفين، النهروان)، استأصل فيها شأفتهم، وفقأ عين فتنتهم، وكادت هذه الحروب أن تأتي أكلها لولا جهل الأمة وسقوطها أمام فتنة المصاحف التي دبرها عمرو بن العاص (ت 43).
ولقد كان أمير المؤمنين(عليه السلام) واعياً لحجم التداعيات التي ستتركها حركات الشغب القرشية فعمد حال تسلمه أمور الخلافة إلى تأسيس فرقة عسكرية متخصصة مكونة من عناصر النخبة وأهل الكفاءة والإخلاص من أصحابه، سميت (شُرطة الخميس)، وقد ورد في بعض النصوص عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أن الله تعالى سماهم بهذا الاسم على لسان نبيه(صلى الله عليه وآله)(1).
وقد بلغ تعداد شرطة الخميس في بعض المرويات أربعين ألفاً، فقد أورد الطبري في تاريخه عن الزهري 4\121: (وكانوا أربعين ألفًا بايعوا علياً(عليه السلام) على الموت)، واستمر دور شرطة الخميس إلى عهد الإمام الحسن(عليه السلام)، فقد أورد ابن عساكر في تاريخ دمشق 13\262: عن عوانة بن الحكم قال: بايع أهل العراق الحسن بن علي فسار حتى نزل المدائن وبعث قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري على المقدمات وهم اثنا عشر آلفا وكانوا يسمون شرطة الخميس.
معنى شرطة الخميس
وقد قيل في سبب تسميتهم (شُرْطة)(2) عدة أقوال، وهي أنها:
1ـ من (الشَرَط)، بفتحتين، وهو العلامة: لأنهم جعلوا لأنفسهم علامات يعرفون بها(3).
2ـ من الشرط، بمعنى التهيؤ، سموا بذلك، لأنهم يتهيؤون لدفع الخصم، وقال الزبيدي: (وأشرط فلان نفسه لكذا من الأمر، أي أعلمها له وأعدها، ومن ذلك أشرط الشجاع نفسه: أعلمها للموت، قال أوس بن حجر:
وأشرط فيها نفسه وهو معصم
وألقى بأسباب له وتوكلا(4)
ويقول الفراهيدي: (وكل شيء هيأته لتنفقه، أو تبيعه فقد أشرطته، أي: أعددته وهيأته. وأشرط جمله للسقاء: جعله له. وأشرطت نفسي للقتال وغيره: بذلتها له)(5).
ويقول ابن منظور: (هم أول كتيبة تشهد الحرب وتتهيأ للموت)(6).
3ـ لأنهم خيرة الجند: يقول الفراهيدي: (والشرط سموا شرطاً، لأن شرطة كل شيء خياره، وهم نخبة السلطان من جنده)(7)، ويقول الطريحي: و(شرطة الخميس) أعيانه(8).
4ـ من الاشتراط أي الإلزام: لأنهم شرطوا على أنفسهم أن لا يعودوا إلا غالبين أو مستشهدين، وهذا المعنى مأثور عن الأصبغ بن نباتة في روايتين أخرجهما الكشي في رجاله والشيخ المفيد في اختصاصه، يقول الكشي: [حدثني] نصر بن الصباح البلخي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن إسماعيل بن بزيع، عن أبي الجارود، قال: قلت للأصبغ بن نباتة: ما كان منزلة هذا الرجل فيكم؟ قال: (ما أدري ما تقول إلا أن سيوفنا كانت على عواتقنا فمن أومأ إليه ضربناه بها، وكان يقول لنا: (تشرطوا فو الله ما اشتراطكم لذهب ولا لفضة وما اشتراطكم إلا للموت، إن قوماً من قبلكم من تشارطوا بينهم فما مات أحد منهم حتى كان نبي قومه أو نبي قريته أو نبي نفسه، وإنكم لبمنزلتهم غير أنكم لستم بأنبياء)(9).
أما الرواية الأخرى فقد رواها الكشي بسنده قائلاً: [حدثني] محمد بن مسعود [العياشي] قال: حدثني علي بن الحسن (ثقة)، عن مروك بن عبيد (ثقة) قال: حدثني إبراهيم بن أبي البلاد، عن رجل، عن الأصبغ، قال: قلت له كيف سميتم شرطة الخميس يا أصبغ؟ قال: (إنا ضمنا له الذبح وضمن لنا الفتح، يعنى أمير المؤمنين(عليه السلام))(10).
أما سبب كلمة (الخميس)، ففيها قولان، الأول: إنها مرادفة للجيش، يقول الطريحي: (والخميس بالفتح: الجيش، سمي به لأنه خمسة أقسام: الميمنة، والميسرة، والمقدم، والساقة، والقلب)، أما القول الثاني فإنهم سموا بذلك لأنهم (كانوا يعرضون يوم الخميس أو يجمعون يوم الخميس)(11).
واجبات شرطة الخميس
أوكلت بشرطة الخميس، زيادة على دورها الحاسم في المعارك، مجموعة من المهام والواجبات ذات الطابع الأمني الدقيق، ومن هذه المهام:
1ـ المشاركة الفاعلة في الحروب العسكرية:
ففي خطبة لأمير المؤمنين(عليه السلام) قال: (فإذا أردتم الحملة فليبدأ صاحب المقدمة، فإن تضعضع أدعمته شرطة الخميس، فإن تضعضعوا، حملت المنتخبة، ورشقت الرماة)(12).
وغالباً ما كان يوكل لها القيام بمهام التدخل السريع على اعتبار أن أفرادها من عناصر النخبة وأهل البأس في القتال، فقد روى الثقفي في غاراته عن يحيى بن صالح، عن أصحابه أن علياً(عليه السلام) ندب الناس عندما أغاروا على نواحي السواد، فانتدب لذلك شرطة الخميس؛ فبعث إليهم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ثم وجههم فساروا حتى وردوا تخوم
الشام)(13).
2ـ الإشراف على تطبيق التعليمات الأمنية والاقتصادية والشرعية التي تصدرها الدولة:
ومن ذلك مراقبة السوق والأسعار وردع أية مخالفات شرعية أو معاملات غير إنسانية، فقد أورد الشيخ الكليني بسنده عن حبابة الوالبية قالت: رأيت أمير المؤمنين(عليه السلام) في شرطة الخميس ومعه درة لها سبابتان يضرب بها بياعي الجري والمارماهي والزمار ويقول لهم: يا بياعي مسوخ بني إسرائيل وجند بني
مروان..)(14).
3ـ الإشراف على السجناء والمحتجزين لأسباب أمنية وقضائية:
أخرج الشيخ الكليني في الكافي أن أمير المؤمنين(عليه السلام) أمر شرطة الخميس بالتحفظ على المحتجزين والمسجونين لحين إكمال محكوميتهم أو إكمال مقاضاتهم(15).
4ـ حماية أمير المؤمنين(عليه السلام).
ولم تكن هذه المهمة برضى أو توجيه من أمير المؤمنين(عليه السلام)، وإنما كان منشؤها الحرص والعشق الذي طبعت بهما نفوس هذه الثلة المؤمنة، ويبدو أن كثرة التهديدات التي أحاطت بأمير المؤمنين(عليه السلام)
من قبل الخارجين عن القانون ومعارضي الشرعية دفعت أفراداً من شرطة الخميس للقيام بهذه المهمة، فقد روى عبد الله بن الحسن بن الحسن، عن أبيه، عن جده، عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه كان في مسجد الكوفة يوماً فلما جنه الليل أقبل رجل من باب الفيل عليه ثياب بيض فجاء الحرس وشرطة الخميس فقال لهم أمير المؤمنين: ما تريدون؟ فقالوا: رأينا هذا الرجل أقبل إلينا فخشينا أن يغتالك، فقال: (كلا انصرفوا رحمكم الله، أتحفظوني من أهل الأرض فمن يحفظني من أهل السماء؟)(16).
وأورد الشيخ الطوسي بإسناده عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، قال: كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) يصلي عند الأسطوانة السابعة من باب الفيل، إذ أقبل عليه رجل عليه بردان أخضران وله عقيصتان سوداوان، أبيض اللحية، فلما سلم أمير المؤمنين(عليه السلام)
من صلاته أكب عليه، فقبل رأسه، ثم أخذ بيده فأخرجه من باب كند ة. قال: فخرجنا مسرعين خلفهما ولم نأمن عليه، فاستقبلنا(عليه السلام) في جارسوج كندة(17)، قد أقبل راجعاً، فقال: ما لكم؟ فقلنا: لم نأمن عليك هذا الفارس. فقال: (هذا أخي الخضر، ألم تروا حيث أكب علي. قلنا: بلى. فقال: إنه قد قال لي: إنك في مدرة لا يريدها جبار بسوء إلا قصمه الله، واحذر الناس، فخرجت معه لأشيعه)(18).
وقد ورد في بعض النصوص قول الأصبغ بن نباتة (خرج أمير المؤمنين(عليه السلام)
ذات ليلة يمشي وأنا خلفه، وقنبر بين يديه)، وهذا النسق أن يكون الأصبغ للخلف وقنبر للأمام يوحي أن ثمة إجراءً احترازياً كان متخذاً من قبل الأصحاب لحماية أمير المؤمنين(عليه السلام) من الغيلة سيما وأن أعداء أمير المؤمنين(عليه السلام) كلهم معروفون باستعمال الاغتيال وعمليات الغدر لتصفية الخصوم السياسيين بدءاً بمحاولة اغتيالهم لرسول الله(صلى الله عليه وآله) ليلة العقبة بعد منصرفه من تبوك.
العناصر البارزة في شرطة الخميس
تميز أفراد شرطة الخميس بشدة ولائهم والتصاقهم بأمير المؤمنين(عليه السلام)، وقد عرفوا بإخلاصهم ووثاقتهم من بين الأصحاب، حتى إن بعض الفقهاء جعل الانتماء لشرطة الخميس من أمارات الوثاقة في رواة الحديث من الصحابة والتابعين من أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام)، بل إن بعضهم جعله مدحاً فوق التوثيق(19). وفيما يلي قائمة بأبرز الشخصيات المنضوية تحت شرطة الخميس:
1ـ الأصبغ بن نباتة الكوفي المجاشعي: وكان الأصبغ بن نباتة أحد المبرزين في شرطة الخميس
منذ بداية تأسيسها، فقد ذكر الشيخ المفيد في الاختصاص في ترجمة الأصبغ بن نباتة أنه: (كان
من شرطة الخميس وكان فاضلاً)، وأورد ابن سعد وغيره في ترجمة الأصبغ أنه (كان صاحبَ شَرَط علي)(20)، وذكر ابن خياط في تاريخه:(وعلى شُرطة الخميس الأصبغ بن نباتة المجاشعي)(21).
ويبدو أن الأصبغ كان عضواً فاعلاً في شرطة الخميس حتى إنه تسلم قيادتها في وقعة صفين فقد ذكر ابن مزاحم في تاريخه: (وحضَّ علي أصحابه، فقام إليه الأصبغ بن نباتة التميمي فقال: يا أمير المؤمنين إنك جعلتني على شرطة الخميس، وقدمتني في الثقة دون الناس…)(22).
2ـ سعد بن حارث الخزاعي: مولى أمير المؤمنين(عليه السلام) من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومن شرطة الخميس مع أمير المؤمنين(عليه السلام)،
وكان واليًا من قبله على آذربيجان ثم انضم إلى الحسن ثم إلى الحسين(عليه السلام)، وخرج معه إلى مكة ثم إلى كربلاء واستشهد بين يديه يوم عاشوراء(23).
3ـ عمرو بن الحمق الخزاعي: استدل السيد الخوئي بذلك على وثاقته(24).
4ـ ميثم بن يحيى التمار: ذكره البرقي في رجاله.
5ـ ثعلبة بن عمرو، أبو عمرة الأنصاري: من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) – مؤمن تابع عليًا يوم الشدة والفتنة – جليل – من شرطة الخميس – من أصفياء أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام)(25).
6ـ قيس بن سعد بن عبادة الساعدي، ممن خدم النبي(صلى الله عليه وآله) عشر سنين، سار مع أمير المؤمنين(عليه السلام) وكان على شرطة الخميس، وشهد صفين، توفي سنة 85هـ(26) .
7ـ عباد بن نسيب أبو الوضيء القيسي: كما في تاريخ البخاري الكبير 6\31.
8ـ جارية بن قدامة التميمي السعدي:. كان من صحابة النبي (صلى الله عليه وآله)، ومن أنصار علي(عليه السلام) الأبرار الشجعان. وكان من جملة الهائمين بحبه، الذين عرفوا باسم (شرطة الخميس)(27).
9ـ جابر بن عبد الله الأنصاري: عده البرقي في أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن الأصفياء من أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام)، ومن شرطة الخميس.
10ـ يحيى الحضرمي وابنه عبد الله: روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، أنه قال لعبد الله بن يحيى الحضرمي يوم الجمل: أبشر يا بن يحيى فإنك وأباك من شرطة الخميس حقًا، لقد أخبرني رسول الله(صلى الله عليه وآله) باسمك واسم أبيك في شرطة الخميس، والله سماكم شرطة الخميس على لسان نبيه(عليه السلام). وذكر أن شرطة الخميس كانوا ستة آلاف رجل أو خمسة آلاف(28).
11ـ وذكرت المصادر أسماء أخرى لبعض الصحابة والتابعين من شرطة الخميس، منهم: حبيب بن مظاهر الأسدي، سهل وعثمان ابني حنيف الأنصاري ، محمد بن أبي بكر، عفاق بن بشر الفزاري، الحصين بن المنذر، بشر [بشير] بن عمرو الهمداني، سليم بن قيس الهلالي، الحكم بن سعد الحنفي، الحصين بن المنذر يكنى أبا ساسان الرقاشي، عبد الله بن أسيد الكندي، عبيدة السلماني المرادي(29) .
نشرت في العدد 52
(1) رجال الكشي 1\24.
(2) يقول الطريحي في مجمع البحرين 3\465: و (الشُرَط) على لفظ الجمع، أعوان السلطان والولاة وأول كتيبة تشهد الحرب وتتهيأ للموت،…. الواحدة شُرطة كغُرًف وغُرفة.
(3) لسان العرب 7\329.
(4) تاج العروس 10\306.
(5) العين للفراهيدي 6\235.
(6) لسان العرب 7\329.
(7) المصدر السابق.
(8) مجمع البحرين 1\207.
(9) اختيار معرفة الرجال 1\19 ، وروى صدره الشيخ المفيد في الاختصاص ص65 قال: حدثنا جعفر بن الحسين، عن محمد بن جعفر المؤدب، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن أبي الحسين صالح بن أبي حماد، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن محمد بن سنان، عن أبي الجارود.
(10) اختيار معرفة الرجال 1\321.
(11) خزانة الأدب للبغدادي 7\120.
(12) مستدرك الوسائل 11\82.
(13) غارات الثقفي 2\489.
(14) الكافي 1\346.
(15) الكافي 7\371.
(16) مناقب ابن شهر آشوب 2\85.
(17) في حاشية نسخة الأمالي: الجارسوج، معناه المربع.
(18) أمالي الطوسي 51.
(19) المفيد من معجم رجال الحديث هامش 192.
(20) طبقات ابن سعد 6\225، المنتخب من ذيل الطبري 149.
(21) تاريخ خليفة بن خياط ص151.
(22) كتاب صفين لابن مزاحم ص 422.
(23) مستدركات علم رجال الحديث 4\27.
(24) معجم رجال الحديث 14\100.
(25) المفيد من معجم رجال الحديث هامش 128.
(26) راجع: طبقات ابن سعد 6\52.
(27) موسوعة الإمام علي عليه السلام 12\72.
(28) رجال الكشي 1\24.
(29) الاختصاص 3، أعيان الشيعة 3\575، مختصر بصائر الدرجات 204.