منذ عدة آلاف من السنين، وعبر العصور البشرية المتوالية حتى يومنا هذا، ظلت قضية حقوق الإنسان تحظى بالأولوية ضمن آمال البشرية وهواجسها وبرامجها وأهدافها العزيزة والصعبة المنال.
ومن أبرز هذه الحقوق حق الحرية، إذ شكلت الحرية الهدف الجلي للمصلحين والأنبياء(عليهم السلام) والساعين لغد أفضل منذ أقدم العصور إلى وقتنا الحاضر، وضمن هذه المسيرة الطويلة أُضيف للحرية وامتزج فيها كثير من المفاهيم والمضامين الفكرية حتى أضحى من الصعب أن نضع تعريفاً جامعاً مانعاً بعموم ما احتوى عليه المضمون التاريخي والفكري للفظة (الحرية).
ومن هذه المسيرة الطويلة في عالم الإمكان لمفهوم الحرية، نقف متأملين لها عند محطة هي من أهم محطاتها عبر التاريخ، إذ بها تشكلت صورةٌ بألوانٍ زاهية ومتحركة بعبق تجلى فيه مفهوم الحرية؛ وهي محطة تهفو إليها نفوسنا لترتشف منها بمنهل عذب بعد أن عصرتها سنون عجاف، إنه زمان علي بن أبي طالب (عليه السلام)،
ففيه يُعد حق الحرية الدعامة الأساسية في منظومة حقوق الإنسان عند الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، فالإمام يؤمن أن الحرية تنبع أولاً من داخل الإنسان: من عقله وروحه فيوجه(عليه السلام) أمراً أو نصيحة أو درساً أخلاقياً للإنسان في أي مكان أو زمان قائلاً: (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرًّا)(1)، وهنا يُحمِّل الإمامُ الإنسانَ مسؤولية نيل الحرية والمحافظة عليها(2).
وكذلك نشر الوعي ضمن الأمة. فحرية الإنسان لا توجد بقانون أو دستور ينظمان الحرية نظرياً، وإنما هي هبة إلهية لا يمتلك سلطان في الأرض أن ينتزعها من الإنسان إلا خاطئاً يجب مواجهته ومقاومته، فكان الإمام يحفز على الجهاد قائلاً: (سيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا في الأرض جبارين ملوكاً ويتخذهم المؤمنون أرباباً، ويتخذون عباد الله خولاً(3))(4).
فمن الأفراد الأحرار، في ظل الشرع الإسلامي، سُيخلق المجتمع الحر الذي ستكون أبعاد الحرية فيه وفق رؤية الإمام، سياسية واقتصادية، وشخصية، وفكرية، ودينية، فضلاً عما يتعلق بموضوع الحرية من رؤية للإمام إلى مسألة العبودية، والإطار المحدد للحرية.
ولعل من أولى أساسيات الحرية عند الإمام هي إعطاؤه الحرية الشخصية للإنسان، أي أن يكون الإنسان حر التصرف في أموره الشخصية من دون قيد إلا قيد منع إيذاء الجماعة، كما أن منح الحرية الشخصية المنضبطة للإنسان لابد أن تبدأ من إشاعة هذا المفهوم داخل الأسرة كأسلوب لتربية الأبناء، وهذه إشارة مهمة ولاسيما في تلك الحقبة من التاريخ. إذ يقول الإمام(عليه السلام): (لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم فإنهم مولودون لزمان غير زمانكم)(5)،
ويعلق جورج جرداق على هذا المبدأ العلوي قائلاً: (إن الإمام ينادي بمبدأ (الولادة الحرة)، فإن الأبناء إن تخلصوا من القسر والإكراه والاستعباد من جانب السلطة والقوانين، فإنهم لا يتخلصون عادة من أخلاق آبائهم وعاداتهم وميولهم وسائر ما يفرض عليهم، بحكم نزوع الآباء إلى أن ينشأ أولادهم على ما نشأوا عليه… وإن الحرية لا تتقيد حتى بشروط يضعها الآباء قسراً أو فرضاً لأن الحرية في أقصى معانيها وأهدافها دافع إلى التطور وباعث على التقدم)(6).
كذلك فإن الإمام(عليه السلام) قد شمل الأسرة أيضاً بمظلة الحرية سواء من ناحية اختيار الزوجة(7) أم السكن(8)، أم أي تفاصيل حياتية أخرى. ولقد نهى الإمام علي(عليه السلام) عن التجسس على الناس وطلب نياتهم وسقطات ألفاظهم وهفواتهم المستترة،
وهذا ما نلحظه بجلاء في عهده الشريف إلى أحد أركان حكومته ـ مالك الأشتر(9) ـ قائلاً له: (ليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك، أطلبهم لمعائب الناس، فإن في الناس عيوبًا، الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن ما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت، يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك)(10).
يلحظ الباحث أن في هذا النص عدة أبعاد، لعل من أهمها توسيع دائرة الحرية الشخصية للمواطن، بل يمكن القول إن الإمام أعطى حرية الخطأ مع الالتزام بعدم علانية ذلك الخطأ، فضلاً عن أنه يرفض نموذج الدولة الشمولية التي تجعل من نفسها جهاز تجسس ومراقبة ضد أبناء الأمة، بل يُريد من الدولة أن تكون أداة إصلاح ووسيلة لحل الأزمات، ويجب أن تعامل المواطنين كبشر تلازمهم حتمية الخطأ، ويجب أن يُمنح الإنسان فرصة الإصلاح الذاتي لذلك الخطأ ما دام لم يتجاوز القانون العام.
ونلحظ أن عهد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لواليه على مصر يضم مجموعة بنود قانونية تهدف إلى تنظيم شؤون الإدارة المحلية، فـي إطار من هدي التشريع الإسلامي ومقاصده العليا، وقيمه المثلى، التي تتوخى توفـير السعادة للإنسان المسلم فرداً ومجتمعاً(11).
وقد أفرغ به الإمام (عليه السلام) منخول تجاربه الواعية، وخالص نظراته المستوعبة النافذة لكل ما يدور في مجتمع الإنسان، فجاء فـيه على جميع أبعاد شؤون الإدارة بأصالة وعمق وتركيز.
وقد كان هذا العهد الشريف أول ما كتب إسلامياً فـي هذا الموضوع ـ فهو يُعد أقدم وثيقة إدارية تراثية تصل إلينا ـ ونرى حديث الإمام الدائم عن تطبيق العدل مع أفراد الرعية حيث جاء فـي عهده إلى مالك الأشتر: (وليكن أحب الأمور إليك أوسطها فـي الحق، وأعمّها فـي العدل، وأجمعها لرضا الرعية). وجاء فـي جانبٍ آخر من هذا العهد ما يلي:
(أَنْصِفِ الله وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ وَ مَنْ ظَلَمَ عِبَادَ الله كَانَ الله خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ الله أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَكَانَ لله حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أو يَتُوبَ وَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إلى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ الله وَ تَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ فَإِنَّ الله سَمِيعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ وَهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ. ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وَبِطَانَةً فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَتَطَاولٌ وَقِلَّةُ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ فَاحْسِمْ مَادَّةَ أولَئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ(12) وَلَا تُقْطِعَنَّ لِأَحَدٍ مِنْ حَاشِيَتِكَ وَحَامَّتِكَ قَطِيعَةً(13) وَلَا يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَةٍ تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ النَّاسِ فِي شِرْبٍ أو عَمَلٍ مُشْتَرَكٍ يَحْمِلُونَ مَئُونَتَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَكَ(14) وَعَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ وَكُنْ فِي ذَلِكَ مُحْتَسِباً وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وَخَاصَّتِكَ حَيْثُ وَقَعَ وَابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا يَثْقُلُ عَلَيْكَ مِنْهُ فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذَلِكَ مَحْمُودَةٌ)(15).
لا يجوز للحكومة أن تسمح للانتهازيين، من الخواص والأقرباء، وكل من يشغل منصباً، استغلال قربهم من مركز السلطة فـي الاستفادة من بيت المال وغيره من الإمكانات، وتضييع حقوق الشعب؛ لأن ذلك يسيء إلى سمعة المسؤولين، ولا يأتي بالنفع إلاّ لأولئك الانتهازيين، من أفراد الحاشية والخواص المقربين…
وخلاصة القول: إنه لا ينبغي للحاكم أن يكون جسراً لتحقيق المظالم، وهذا ما أمر به الإمام علي(عليه السلام) وطبقه فـي العمل قبل القول، كأسلوب أقسم على اتباعه قائلاً:
(وأيْمُ الله لَأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ وَلَأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ حَتَّى أورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً) (16).
فالحرية هي: انعتاق الإنسان وتحرره من أسر الرق والطغيان، وتمتعه بحقوقه المشروعة. وهي من أقدس الحقوق وأجلها خطراً، وأبلغها أثراً فـي حياة الناس. وقد دلّ الإمام (عليه السلام) على أصالة الحرية وعلى تساوي الناس فـي الحكم والقسم كتساويهم فـي الانتساب إلى آدم فقال: (أيها الناس! إن آدم لم يلد عبداً ولا أمة، وإن الناس كلهم أحرار، و لكن الله خول بعضكم بعضًا)(17).
لذلك أقر الإسلام هذا الحق وحرص على حمايته وسيادته فـي المجتمع الإسلامي.
وليست الحرية كما يفهمها الأغرار، هي التحلل من جميع النظم والضوابط الكفـيلة بتنظيم المجتمع، وإصلاحه وصيانة حقوقه وحرماته، فتلك هي حرية الغاب والوحوش الباعثة على فساده وتَسيّبه. وإنما الحرية الحقة هي:
التمتع بالحقوق المشروعة التي لا تناقض حقوق الآخرين ولا تجحف بهم. وهذه طرفٌ من الحريات:
1 ـ الحرية الدينية:
فمن حق المسلم أن يكون حراً طليقاً فـي عقيدته وممارسة عباداته، وأحكام شريعته. فلا يجوز قسره على نبذها أو مخالفة دستورها، ويعتبر ذلك عدواناً صارخاً على أقدس الحريات، وأجلها خطراً فـي دنيا الإسلام والمسلمين، وعلى المسلم أن يكون صلباً فـي عقيدته، صامداً إزاء حملات التضليل التي يشنها أعداء الإسلام، لإغواء المسلمين وإضعاف طاقاتهم ومعنوياتهم(18).
2 ـ الحرية المدنية:
ومن حق المسلم الرشيد أن يكون حراً فـي تصرفاته، وممارسة شؤونه المدنية، فـيستوطن ما أحب من البلدان، ويختار ما شاء من الحرف والمكاسب ويتخصص فـيما يهوى من العلوم، وينشئ ما أراد من العقود، كالبيع والشراء والإجارة والرهن ونحوها. وهو حر فـي مزاولة ذلك على ضوء الشريعة الإسلامية(19).