Take a fresh look at your lifestyle.

الأحاديث الفنية عند العباس بن الإمام علي بن أبي طالب (عليهم السلام)

0 1٬380

             في كل مرة كنت أقرأ فيها تاريخ أهل البيت (عليهم السلام)، وسيرة رجالاته، كانت تستوقفني شخصية العباس (عليه السلام) التي نهلت من ينابيع الإخلاص والإيمان، وتزينت بتاج الشجاعة والشهامة والوفاء والإخلاص، ما عجزت الأقلام عن وصفها، وتحيرت العقول في إدراك كنهها،

           فكانت سيرته ومواقفه في طف كربلاء، وحياته بأكملها تشدني نحو إعادة القراءة مرة بعد أخرى إلى ما لا نهاية له لسيرة قمر بني هاشم(عليه السلام)، ومحاولة سبر أغواره، وكيف بدأت حياته؟ والمصير الذي آل إليه، وهو مؤمن بقيمه التي آمن بها، وعلى رأسها إيمانه بإمامة أخيه الإمام الحسين(عليه السلام) وأحقيته وأفضليته.

           فلم يتراجع العباس(عليه السلام) عن الإيمان بقيمه، ولم يهن، بل أعطى وقدم كل ما يستطيع من تضحيات، ويكفيه فخراً أنه كان كبش كتيبة الإمام الحسين(عليه السلام) ومجمع عدده، وهو في كل ذلك رسم لنا صورة مشرقة تجسّد جميع القيم الإنسانية والإسلامية.

          وأمام هذه القيم، وأمام هذا الكم من المؤلفات التي كتبت عنه(عليه السلام) أجد نفسي صغيراً جداً لأكتب عن جانب من جوانب حياته المضيئة، لكن حبي لهذه الشخصية العظيمة، وإيماني الكبير بأفعاله ومواقفه، شجعني على تعقب طريق من الطرق التي سلكها في استشرافه نحو الكمال الإنساني، ذلك الطريق هو: أدبه بقسيميه (الشعر والنثر) والذي كشف عن صورة حقيقية لمواقفه المشرفة في وقعة الطف، ومسيرة حياته الوضاءة،

         فحسبي أولاً بهذا الجهد أن أعتذر لك سيدي قمر بني هاشم، إن قصّرت، ولم أستطع أن أحيط بكل الأدب، أو فاتني شيء منه، فمثلي لا يغوص في بحر لججك، ولا يصل إلى مرافئك، لكن حبي سيدي وإعجابي بشخصك ومواقفك النبيلة هي التي دفعتني للكتابة عنك، فرحم الله قلماً يكتب عنك، وعن إمامك وأخيك الذي قتلت بين يديه دفاعاً عن القيم الإلهية، ونصرة للحق والعدل.

 

  الحديث الفني:

           أما الحديث الفني فقد كانت لدينا مجموعة لا بأس بها، وهي:

    قصة العباس(عليه السلام) مع المارد بن صديف التغلبي:

           فلما سمع العباس (عليه السلام) كلامه (المارد) قال له : (ما أراك إلاّ أتيت بجميل، ولا نطقت إلاّ بتفضيل، غير أني أرى جعلك في مناخ تذروه الرياح، أو في الصخر الأطمس، لا تقبله الأنفس، وكلامك كالسراب يلوح، وإذا قصد صار أرضاً بواراً والذي أصلته إن استسلم إليك، فذاك بعيد الوصول صعب الحصول، وأنا يا عدو الله وعدو رسوله، فمعّود للقاء الأبطال، والصبر على البلاء في النزال، ومكافحة الفرسان وبالله المستعان، فمن كملت هذه الأوصاف فيه فلا يخاف ممن برز إليه،

          ويلك، أليس لي اتصال برسول الله ؟ وأنا غصن متصل بشجرته، وتحفة من نور جوهره، ومن كان من هذه الشجرة فلا يدخل تحت الذمام، ويخاف من ضرب الحسام، فأنا ابن علي لا أعجز عن مبارزة الأقران، وما أشركت بالله لمحة بصر، ولا خالفت رسول الله فيما أمر، وأنا منه كالورقة من الشجرة، وعلى الأصول تثبت الفروع، فاصرف عنك ما أملته، فما أنا ممن يأسى على الحياة، ولا يجزع من الوفاة، فخذ في الجد واصرف عنك الهزل، فكم من صغير خير من شيخ كبير عند الله تعالى.

           فشرع العباس(عليه السلام) الرمح للمارد فصاح به: (يا عدو الله إنني أرجو من الله تعالى أن أقتلك برمحك).

          وقوله (عليه السلام) للمارد بعد أن طلب منه الرفق: (ويلك، أبمثلي يلقى إليه الخدع والمحال؟ ما أصنع بأسير وقد قرب المسير)(1).

   2ـ دعا الإمام علي(عليه السلام) العباس(عليه السلام) في عهد الصبا وأجلسه في حجره، وقال له : (قل: واحد، فقال: واحد، فقال قل: اثنان قال: استحي أن أقول باللسان الذي قلت واحد اثنان)(2).

   3ـ قال العباس (عليه السلام) للإمام الحسين(عليه السلام) وبه رمق: (بحق جدك رسول الله(صلى الله عليه وآله) دعني في مكاني هذا، فإني مستح من ابنتك سكينة، وقد وعدتها بالماء ولم آتها به، والثاني: أنا كبش كتيبتك، ومجمع عددك، فإن رآني أصحابك وأنا مقتول فلربما يقلّ عزمهم، ويذلّ صبرهم)(3).

   4ـ عرض الأمان على أولاد أم البنين ورفضهم الشديد لذلك:

          قال العباس (عليه السلام) للشمر : (لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له)(4).

         وفي رواية أخرى: فناداه العباس (عليه السلام): (تبت يداك وبئس ما جئتنا به من أمانك يا عدو الله، أتأمرنا ان نترك أخانا وسيدنا الحسين (عليه السلام)، وندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء)(5).

   5ـ قال العباس (عليه السلام) لعمر بن سعد وأصحابه : (يا قوم أأنتم كفرة أم مسلمون؟ هل يجوز في مذهبكم، أو في دينكم أن تمنعوا الحسين (عليه السلام) وعياله شرب الماء والكلاب والخنازير يشربون منه، والحسين (عليه السلام) مع أطفاله وأهل بيته(عليهم السلام) يموتون عطشاً أما تذكرون عطش يوم القيامة)(6).

   6ـ الشمر يقبل على خيم الإمام الحسين(عليه السلام):

          قال العباس (عليه السلام) له : (يا ابن الضبابي، أبالموت تخوفني؟ وأنا الموت المميت، أترك من خُلقت لنصرته، وأدخل في طاعة اللعناء، لكن يا شمر اقبل نصيحتي: اترك هؤلاء القوم اللئام، وانصر ابن فاطمة الزهراء(عليها السلام) بنت سيد الأنام(صلى الله عليه وآله) تنال شرف الدنيا والآخرة)(7).

   7ـ أخذ الإمام الحسين (عليه السلام) رأس العباس(عليه السلام) ووضعه في حجره، وجعل يمسح الدم عن عينه فرآه وهو يبكي، فقال الإمام الحسين(عليه السلام): (ما يبكيك يا أبا الفضل؟ قال: يا أخي يانور عيني، وكيف أبكي ومثلك الآن جئتني، وأخذت رأسي عن التراب فبعد ساعة من يرفع رأسك عن التراب؟ ويمسح التراب عن وجهك)(8).

   8ـ قال العباس (عليه السلام) للإمام الحسين (عليه السلام): (يا أخي هل لي من رخصة؟) ثم قال (عليه السلام): (قد ضاق صدري، وسئمت من الحياة، وأريد أن أطلب ثأري من هؤلاء المنافقين).

   9ـ زهير بن القين يثير حمية العباس (عليه السلام) بذكر حديث أبيه علي أبي طالب (عليه السلام) قال العباس (عليه السلام) لزهير وهو غاضب: (أتشجعني يا زهير في مثل هذا اليوم؟والله لأرينك شيئاً ما رأيته)(9).

   10ـ قال العباس(عليه السلام) للإمام الحسين(عليه السلام): (معاذ الله، بل نحيا بحياتك، ونموت معك)(10).

 

   الجوانب الفنية للحديث الفني

 

  الحديث الفني: لغة واصطلاحاً:

 

          لم تشتمل المعاجم اللغوية (كتاب العين، لسان العرب، والقاموس المحيط، والصحاح) على المعنى اللغوي لهذا النوع الأدبي، بصيغته المركبة (الحديث الفني) لحداثة تسمية هذا النوع(11).

          والحديث كل ما يتحدث به الإنسان أو يقوله(12) وقد تحولت المفردة (الحديث) إلى مصطلح ولذلك قيل إن (مصطلح الحديث دائر بين البلاغيين والنقاد)(13) وقد أفرد له ابن وهب الكاتب في أحد كتبه مبتدئاً بتعريفه: (وأما الحديث فهو ما يجري بين الناس في مخاطباتهم ومجالسهم، وأما وجوهه: فمنها الجد والهزل، والسخيف والجزل، والحسن والقبيح والملحون والفصيح، والخطأ أو الصواب) 

            ومعلوم أن الحديث الذي لا يتوفر على عناصر فنية معينة، غالباً ما يعتمد في بيان حقيقة أو مسألة أو مفهوم ما، أي إن اللغة التي يتحدثها المتحدث في حديثه هي لغة تقريرية إخبارية، بعيدة عن الخيال والتصوير، كما هو حال اللغة العلمية الجافة التي هي لغة العلوم والمعارف ولغة الأحاديث الفقهية، ولاسيما التي تتناول معاملات المسلم وعباداته كما هو في معظم أحاديث الناس وغير ذلك(14).

            بيد أن الحديث ـ الذي نحن بصدده ـ لا يعتمد المباشرة أو التقريرية في صياغته، لأنه عموماً يتطلب نوعاً من التأمل، فهو يحمل قدراً من الضبابية الشفافة، أو ما يسمى بالغموض الفني في الأدب (الذي يؤدي ما يعرف بتعدد القراءات للنص الواحد فوجوده وجود مؤثر وغني وفاعل)(15) فضلاً عن أن إشراك المتلقي في كشف دلالة الأحاديث التي تحمل تلك الصفة، ويحقق له جسرًا من التوصيل ومزيداً من الإمتاعين الدلالي والجمالي(16)

           وفي ضوء ما تقدم يمكننا أن نقرر بوضوح أن الحديث الفني هو: (الحديث المختصر الذي يقدم في مناسبات مختلفة، ويكتفي فيه أحيانا بعدد قليل من المستمعين، ويوظف فيه سمات فنية، وأدوات جمالية لتعميق دلالة المراد توصيله إلى المتلقي)(17) وهو : توصيات عامة قصيرة، وترد ضمن نوع أدبي معين، وتوشح عادة، بعنصر الصورة أو بعنصر الإيقاع أو بكليهما معاً(18).

           وقد اهتم العباس(عليه السلام) بهذا النوع الذي تكفل ببيان عدد كبير من الظواهر العبادية والإنسانية والسياسية من خلال العبارات القصيرة الدالة والقادرة على النفاذ إلى ذهن المتلقي الحديث الفني واللغة والأسلوب.

 

  الاستفهام:

               ونلحظ وروده في الأحاديث الفنية كما في قوله(عليه السلام): (أليس لي اتصال برسول الله) فالاستفهام الوارد هنا لا يحتاج إلى جواب، لأنه يقرر فكرة ويحمل المخاطب على الاعتراف بها، وبمعنى آخر: ان جواب السؤال ثابت في المنظومة المعرفية للطرفين، فجواب السؤال غير منكر لكلا الطرفين، ومن ثم فلا استجلاب للفهم فيه وليس فيه محاولة لملء الفراغ المعرفي الذي يسعى الاستفهام إليه في حقيقته.

             وقد يخرج الاستفهام حاملاً أغراضاً مجازية كثيرة، كالتوبيخ في قوله (عليه السلام): (أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له) ونظيره قوله(عليه السلام): (أتأمرنا أن نترك أخانا) أو يخرج إلى معنى التحقير والحط من شأن المخاطب، كما في قوله(عليه السلام) (يا قوم أأنتم كفرة أم مسلمون) أو يخرج لمعنى التعجب كما في قوله(عليه السلام): (وكيف لا أبكي)

            وكذلك قوله (عليه السلام): (أبالموت تخوفني) فالاستفهامات الواردة في هذه الخطابات أفادت معنى التعجب الذي يعني (تعظيم الأمر في قلوب السامعين، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله) أو يأتي الاستفهام حاملاً معنى التحسير والألم لفقدان الأحبة، كقوله(عليه السلام) وهو يخاطب الإمام الحسين(عليه السلام): (من يرفع رأسك عن التراب) وقوله(عليه السلام): (ومن يمسح التراب عن وجهك).

 

  النــداء:

          من الأساليب التي استعملها العباس(عليه السلام) في أحاديثه الفنية، وأغلبها ـ أسلوب النداء ـ قد خرج إلى معان حقيقية، إذ كان المقصد منه لفت نظر المنادى وتنبيهه على الأمر الذي يلي النداء من خبر أو أمر أو نهي أو استفهام، كقوله (عليه السلام):

       (أتشجعني يا زهير على مثل هذا اليوم) وقوله (عليه السلام): (وأنا يا عدو الله وعدو رسوله فمعّود للقاء الأبطال) وقوله(عليه السلام): (ولكن يا شمر اقبل أنت نصيحتي) أو يفيد معنى التحسر والألم في قوله(عليه السلام) :(يا أخي يا نور عيني وكيف لا أبكي).

 

  الأمــر:

          وقد ورد في نماذج كثيرة، أغلبها خرج فيها إلى معان مجازية إلى معنى النصح والإرشاد، وذلك في قوله(عليه السلام) وهو يخاطب الشمر: (اقبل نصيحتي، اترك هؤلاء القوم اللئام، وانصر ابن فاطمة) فالأوامر (اقبل، اترك، انصر) وقد وردت بصيغة الأمر وهي تحمل هذه الدلالة المجازية ـ النصح والإرشاد ـ.

 

  النـــفي:

           وفيه يتوسل بأدوات متعددة لدفع ما يتردد في ذهن المخاطب، ومنها (لا) التي تفيد نفي الحاضر نفياً عاماً في قوله(عليه السلام) (وكيف لا أبكي ومثلك الآن جئتني) أو تفيد نفي الحاضر والمستقبل في قوله(عليه السلام): (فلا يخاف ممن يبرز إليه) وقوله(عليه السلام) (ولا يخاف من ضرب الحسام) وقوله(عليه السلام): (لا أعجز عن مبارزة الإقران) أو يفيد النفي بها الاستمرارية في الزمن، أي نفي الماضي والحاضر والمستقبل، وذلك في قوله(عليه السلام): (ولا خالفت رسول الله فيما أمر) فهو(عليه السلام)لم يخالف أوامر الرسول(صلى الله عليه وآله) في جميع الأزمنة.

           أو يكون النفي بها للجنس، كما في قوله(عليه السلام): (وابن رسول الله لا أمان له ) ومن أدوات النفي (ما) التي وردت في قوله(عليه السلام): (وما أشركت بالله لمحة بصر) وقوله(عليه السلام): (فما أنا ممن يأسى على الحياة).

            وهناك أساليب كثيرة لا يسع المقام لذكرها وردت في كلام أبي الفضل العباس(عليه السلام) منها (النهي)، (الشرط)، (التوكيد)، (السجع) (الجناس)، (الطباق)، (التكرار). لعلنا نعرض لها بالتفصيل في وقت آخر.

 

  الصورة الفنية والحديث الفني:

          استثمر العباس(عليه السلام) الصورة الفنية في أحاديثه الفنية، وبوصفها أداة حيوية مهمة في بناء الصورة، كالصورة التشبيهية أوالصور الاستعارية أو صور الكناية أو الصور الحسية، فنلحظ الصور البصرية بعناصرها أفعال الرؤية والحركة واللون والأشكال والحجوم، فهذه الصورة استندت على مدرك بصري قوامه فعل الرؤية .

          أما الصورة السمعية، فنراه(عليه السلام)يستعملها بجانب الصورة البصرية، فهو يتصور الأصوات وفعلها في النفس بما توحيه من دلالات، ولاسيما تلك الصور السمعية في مواقف القتال.

          وصفوة القول فيما سبق، ان الصور البيانية والصور الحسية استطاعت ان تسبغ على صور العباس(عليه السلام) طعماً دلالياً وفنياً يفضي إلى شاعرية خصبة ارتكزت على معطيات فكرية ودينية وروحية وإيمانية عميقة.

  وفي الختام نقول:

          سعى العباس(عليه السلام) إلى استثمار قدرة الأساليب الإيحائية والإبداعية كالتقديم والتأخير والنداء والأمر والنهي والشرط والنفي والتوكيد ، فكانت تعبيرًا عن واقعة النفس فضلا عن إعطاء شحنات مضاعفة من المد اللغوي كتوصيل معانيه إلى المتلقي والتأثير فيه.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.