لقد سجل التاريخ بأحرف من نور تلك الكلمات الهادرة التي أطلقتها عقيلة الطالبيين زينب بنت علي(عليهما السلام)، بوجه يزيد في مجلسه، لتصك بها مسامعه، بل صمَّ صداها آذان الدهر، تتردد عبر الأجيال، لتهتز منها عروش الطواغيت في كل الأعصار والأمصار.
بتلك الكلمات وقفت تجسد موروث أسلافها بكل شموخ وعزة وعنفوان، رغم ما أرادوا لها من ذل وهوان، لتذل المتجبر وتمرغ أنف المتكبر، ولتقرع بسوط كلماتها ظهور الظالمين، ولتصرخ بوجه العتاة المردة، لتلقي خطابا مدويا، يشعرك كل حرف منه كأنه سهم يمزق الضمائر المتعفنة.
ومن بين ما قالت في خطبتها العصماء، هذه العبارات العميقة، مخاطبة يزيد : (…فَكِدْ كيْدَكْ وآسْعَ سَعْيَكْ، وناصِبْ جُهْدَكْ، فو اللهِ لا تمحُ ذِكرنا، ولا تميتُ وَحْينا، ولا تدركُ أمَدَنا، ولا ترحَضْ عنكَ عارُها، وهل رأيُك إلا فَنَدْ، وأيامُكَ إلا عَدَدْ، وجمعُكَ إلا بَدَدْ، يَومَ يُنادي المُنادي ألا لعنةُ اللهِ على الظالمين)(1)،
يلاحظ القارئ أن امرأة أسيرة قتل إخوتها وأبناؤها وأنصارهم ومُثِل بأجسادهم، وسيقت مع النساء والأطفال سبيّة من بلد إلى بلد، ثم تقف أمام الطاغية في قصره لتطلق كلمات التحدي بوجهه غير آبهة به، وبما سيؤول إليه مصيرها.
حتى قال قائل : (والله لم أر خفرة قط أنطق منها كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين(عليه السلام))(2).
يقف المرء واجما مذهولا متحيرا من هذه الكلمات التي تدل على الثقة اللامتناهية التي تحملها هذه المرأة، وتزداد الحيرة والعجب حينما يرى أن هذه الكلمات لم تكن آنية ليزيد وحده وتنبئ بمستقبله، بل استشرفت المستقبل لكل من نصب العداء لآل محمد وجند طاقاته لمحاربتهم، أنه سيؤول إلى ذات المصير الذي سيلاقي يزيد. أو بتعبير أدق نستطيع أن نقول وبكل ثقة إن زينب أعطتنا معادلة حسابية أو أعلمتنا سنة تاريخية، مفادها :
أن من أراد أن يمحو ذكر محمد وآل محمد(عليهم السلام) وإماتت نهجهم وإنهاء مستقبلهم، فنتيجته أن يرد كيده في نحره، متقهقرا بالعار والشنار، وفساد رأيه، واندثار فكره وحياته، وبقاء محمد وال محمد وفكرهم ينمو وشيعتهم يتكاثرون إلى آخر الزمان، ويبقون في الضمائر الحية خالدين، وليختمها ظهور قائمهم (عجل الله فرجه) ليأخذ بثأر جده الحسين(عليه السلام)، وليملأ الأرض قسطا وعدلا بعد أن تملأ ظلماً وجوراً.
وقد رأينا كيف تحققت نبوءة زينب بهلاك كل الذين حاربوا الحسين(عليه السلام) وشيعته منذ يزيد والحكام الأمويين مرورا بالعباسيين والعثمانيين وحتى صدام وحزبه الكافر، وظلت تلاحقهم وصمة العار وبئس عقبى الدار، في الوقت الذي ظل فكر الحسين(عليه السلام) ونهجه منارا تهتدي به الأجيال،منتشرا في كل بقاع الأرض، وبدل أن يكون زائر الحسين واحدا بعد استشهاده وهو جابر بن عبد الله الأنصاري(رضي الله عنه)، رأينا كيف صارت الملايين تزحف نحو قبر الحسين(عليه السلام) تجدد له البيعة وتؤكد انتماءها له، رغم أنوف الظالمين، متحدية كل إرهاب المتجبرين، وقد قدمت في سبيل هذا النهج بحورا من الدماء.
ولكن يبرز سؤال : من أين جاءت زينب بهذه الثقة الكبيرة، لتطلق مثل هذه النبوءة؟
هل هذا الكلام هو رد فعل لما أصابها، أم هو انفعال عاطفي ؟ أم أنها قالت دون إدراك لما تقول؟ (حاشاها).أم أن ما قالت ينم عن وعي وإدراك وإيمان بقضية حتمية ونبؤة لابد أن تتحقق ؟
وقبل الإجابة على هذه التساؤلات لابد أن نبين أمران :
الأول: خلود الرسالة الإسلامية :
إن مرور أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمن على بقاء الرسالة الإسلامية، كدين معلوم تدين به شعوب بأكملها، لهو دليل واضح على خلود هذه الرسالة، وبقاءها ما بقي الدهر، رغم ما أصابها من زلازل وكوارث، كاغتيال قادتها الربانيين، أو حجبهم عن الزعامة الدنيوية لتنفيذ هذه الرسالة في الأمة، ورغم ما تعرضت له من أعداء الدّاء حاقدين جندوا طاقات هائلة في سبيل محوها،
ولكنهم…. باؤوا بالفشل !،
فلم يستطيعوا محوها، وليس ذلك فحسب، بل لم يستطيعوا الوقوف أمام زحف انتشارها، حيث أخذت تنتشر هذه الرسالة في كل بقاع الأرض، إذ لم يبق مكان في الأرض إلّا وصلته الرسالة الإسلامية، (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) {الصف:9}.
نعم، استطاعوا أن يحرفوا مسيرتها التي رسمها الله لها، بيد أن ذلك الانحراف كان مكشوفا ومعروفا وواضحا، لدى الأمناء الذين اختارهم الله لحملها وكلفهم بحفظها بعد رحيل النبي الخاتم(صلى الله عليه وآله)، فقد قيض الله لهذه الرسالة أمناء هم عترة النبي(صلى الله عليه وآله)، ورثوا علمه وفهمه ليحافظوا عليها وعلى نهجها السوي الذي أراده الله لها، والتزموا بذلك النهج هم ومن تبعهم، وقدموا دماءهم وأبناءهم وأموالهم، في سبيل ديمومة هذه الرسالة رغم وجود أغلبية منحرفة سارت في ركب المحرفين.
وقد وعدهم الله بنصره، (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ){النور:55}، ويرجع سبب خلود وبقاء الرسالة الإسلامية، إلى أمور:
1ـأن الله اتخذ الرسالة الإسلامية آخر الرسالات التي بعثها إلى البشر، وذلك بجعل رسوله الأعظم محمد(صلى الله عليه وآله) خاتم الأنبياء والمرسلين : (ما كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) {الأحزاب:40}، فلا رسول بعده، ولا نسخ لشريعته.
2ـأن العناية الإلهية قد تكفلت بحماية الرسالة وحفظها وحفظ القران الكريم الذي هو كتابها المنزل ودستورها المحكم (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) {الحجر : 9}.
3 –هيأ الله أناس أمناء تحملوا أعباء هذه الرسالة، وقدموا التضحيات الجسام، في سبيل بقاء هذه الرسالة، والمحافظة على بيضتها، والذب عنها لينقلوها بكل أمانة من جيل إلى جيل.
وبذلك بقيت الرسالة الخاتمة وستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
الثاني: ارتباط الحسين بالرسالة أو موقعه منها:
قال النبي(صلى الله عليه وآله): (حسين مني وأنا من حسين)(3)، هذه العبارة التي أطلقها الرسول الأعظم المبعوث رحمة للعالمين، الذي لا ينطق عن الهوى (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى){النجم:4}، تدل على أن ارتباط النبي(صلى الله عليه وآله) بالحسين(عليه السلام) وارتباط الحسين(عليه السلام) بالنبي(صلى الله عليه وآله)، هو ارتباط رسالي عقائدي، إضافة إلى الارتباط النَسَبيّ الوثيق بينهما، كأب وابن، أو جد وحفيد (الحسن والحسين ابناي هما إمامان قاما أو قعدا)(4)،
حيث إن المقياس في العلاقة بين النبي(صلى الله عليه وآله) وبمن يحيط به، هو مدى تعلقهم وتمسكهم بهذه الرسالة وبما جاءت به، ومدى إخلاصهم وولاءهم لها، وخير شاهد على ذلك،علاقة النبي بعمه أبو لهب، قال تعالى : (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ){المسد:3} وعلاقته بسلمان الفارسي، حيث يقول الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، في الحديث المشهور : (سلمان منا أهل البيت)(5)،
نفهم من ذلك أن قول النبي(صلى الله عليه وآله) المتقدم في الحسين(عليه السلام) يدل على العلاقة الرسالية الوثيقة بينهما، كوثاقة العلاقة النَسَبيّة بينهما، هذا من جانب، ومن جانب آخر، يريد النبي(صلى الله عليه وآله) أن يخبر الأمة بان أهمية دور الحسين(عليه السلام) في الرسالة كأهميته منها، بيد أن لكل منهما مهمته التي كلف بها، فالنبي الأعظم(صلى الله عليه وآله) دوره تبليغ الرسالة التي انزلها الله إلى الناس، ودور الحسين(عليه السلام) هو تثبيت الرسالة والإبقاء عليها. وأجمل ما قيل في ذلك (الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء).
بعد أن بينا هذين الأمرين، نعود للإجابة على السؤال المتقدم :
من أين جاءت زينب بهذه الثقة الكبيرة، لتطلق مثل هذه النبوءة ؟
إن المتتبع لحياة السيدة زينب(عليها السلام)، التي ولدت وتربت في بيت الرسالة، الذي كان فيه زغب الملائكة منتشرا في أرجائه، لازدحامها فيه، وتستنشق عبير الوحي في أركانه، لتزق العلم والمعرفة والنبل والعفة والفصاحة والشجاعة من منابعه الصافية، من جدها محمد المصطفى(صلى الله عليه وآله) وأبيها علي المرتضى(عليه السلام) وأمها فاطمة الزهراء(عليها السلام) وأخويها الحسن والحسين(عليهما السلام) سيدي شباب أهل الجنة،
في هكذا أجواء نشأت وترعرعت وتأدبت، لتكون امرأة متزنة، راجحة العقل، ناضجة الفكر فكانت (عالمة غير معلمة، فهمة غير مفهمة)(6)، كما وصفها الإمام السجاد(عليه السلام)، هكذا امرأة لا يمكن أن تكون كلماتها انفعالية عاطفية، دون وعي أو إدراك لما تقول، ولكن كلماتها نابعة من إيمانها العميق الذي لا يشوبه أدنى شك بأن الرسالة الإسلامية الخاتمة المنزلة من ملك السماوات والأرض على سيد رسله محمد(صلى الله عليه وآله)، ستبقى خالدة مدى الدهر، مؤيدة منصورة بقوته، محفوفة محفوظة بعنايته،
وأن الحسين(عليه السلام) وفكره ونهجه جزء لا يتجزأ من هذه الرسالة، وقد وعد الله بإظهارها ونصرها (أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ){يونس: 55}، وأن كل فكر ونهج يتقاطع أو يتقدم أو يتأخر عن نهج محمد وآل محمد(عليهم السلام) سيذهب جفاء، وأنه سراب وإن حسبه الضمان ماء.
من هذا الإيمان ومن هذه العقيدة الراسخة انبثقت كلمات زينب، لتسجل للتاريخ نبوءة بخلود الحسين(عليه السلام)، ولما ستؤول إليه الأمور، لجيلها وعصرها، وللأجيال والعصور اللاحقة.
فسلام على زينب بنت علي(عليهما السلام) يوم ولدت ويوم توفيت ويوم تبعث حية. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار ـ العلامة ألمجلسي – ج 45 – ص 135. (2) الأمالي – الشيخ المفيد – ص 321 . (3) كامل الزيارات – جعفر بن محمد بن قولويه – ص 116. (4) جامع الخلاف والوفاق – علي بن محمد ألقمي – ص 368 . (5) عيون أخبار الرضا / الشيخ الصدوق ج1 ص70. (6) الاحتجاج – الشيخ الطبرسي – ج 2 – ص 31.