قال تعالى في كتابة العزيز: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (سورة المائدة: 55) والبحث في الآية الكريمة يقع في أمور:
الأول: المراد من الولي.
الثاني: المراد من الولاية.
الثالث: المراد من الذين آمنوا، أهو عنوان كلي أم شخص معين.
الولي في اللغة:
قال ابن منظور في لسان العرب (ولي) من أسماء الله تعالى: الولي الناصر، وقيل المتولي لأمور العالم والخلائق القائمة لها، ومن أسماءه عز وجل (الوالي) وهو مالك الأشياء جميعاً المتصرف فيها، قال ابن الأثير: (وكأن الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل وما لم يجتمع ذلك فيها لم ينطلق عليه اسم الوالي)(1).
وقال أيضاً: (… وفي الحديث أنه سئل عن رجل مشرك يسلم على يد رجل من المسلمين، قال: هو أولى الناس بمحياه ومماته أي أحق به من غيره…)(2).
وقال: (… ويقال فلان أولى بهذا الأمر من فلان أي أحق به…)(3).
ومن هنا يتضح أن الولي في اللغة موضوعة للأَوْلى والأحق من الغير وما ذكر لها من معان إنما هو من باب مصاديق هذا المعنى اللغوي.
الولي في القرآن:
عند متابعة الآيات الشريفة نجد أن لفظة الولي استعملت في القرآن الكريم بعدة معانٍ:
1ـ الدافع عن مولاه الأمور السيئة، كما هو دلالة الآيات: (107، 120) من سورة البقرة) و(51، 70 من سورة الأنعام) و(74، 116 من سورة التوبة) و(37 من سورة الرعد) و(22 من سورة العنكبوت) و(8، 31 من سورة الشورى).
2ـ الصديق، كما هو دلالة الآية (46 من سورة يوسف).
3ـ المالك والمتصرف، كما هو دلالة الآية (26 من سورة الكهف) و(4 من سورة السجدة) و(9، 28 من سورة الشورى) 4ـ الهادي، كما هو دلالة الآية (44 من سورة الشورى، والآية 257 من سورة البقرة).
5ـ الأحق والأولى، كما هو صريح الآية (68 من آل سورة آل عمران) و(135 من سورة النساء) و(72، 75 من سورة الأنفال) و(6 من سورة الأحزاب) و(21 من سورة محمد).
ففي القرآن الكريم إذن استعملت لفظة الولي في معانٍ متعددة والمراد الوقوف على معنى.
الولي في الآية الكريمة:
1ـ ولاية الله تعالى:
إن ولاية الله تبارك وتعالى تصدق عليه جميع المعاني المذكورة وحيث أطلقت لفظة الولاية هنا ولم تقترن في الآية الشريفة بما يدل على إرادة معنى خاص منها فيرجع فيها إلى المعنى اللغوي الذي تكون جميع المعاني الأخرى المذكورة عبارة عن مصاديق له فيكون المراد من (إنما وليكم الله) هو أن الله تبارك وتعالى هو الأولى بكم.
ثم السؤال عن حدود ولاية الله تعالى على العباد، والجواب أن الولاية تارة تكون محدودة مقيدة وأخرى تكون مطلقة، والتحديد في الولاية إنما يتبع شخص الولي فإن كان الولي محدوداً مقيداً كانت ولايته مقيدة محدودة، وكذا إن كانت الولاية ممنوحة له من الغير تحدد بالحدود التي يرسمها ذلك الغير، أما الله تبارك وتعالى فهو في مقام ذاته القدسية فوق الحدود والقيود فولايته على المخلوقات أيضاً غير محدودة بحد ولا مقيدة لمقام تصرفه فيها، في حين أن الآية في مقام الإخبار لا التشريع فهي حاكية عن مقام الولاية، ومن خصائص الولي وشؤونه نستكشف إطلاق الولاية الإلهية وانتفاء تقييدها وتحديدها.
2ـ ولاية الرسول(صلى الله عليه وآله):
الولاية الثانية الداخلة ضمن إطار الحصر الوارد في الآية الشريفة هي ولاية الرسول(صلى الله عليه وآله) والتي هي امتداد للولاية الإلهية وهي أيضاً ولاية مطلقة غير محدودة بحد ولا مقيدة بقيد بل تمتد لتشمل جزئيات حياة الفرد المسلم بحيث يُسلب الفرد الحق في اتخاذ أي موقف شخصي يتعلق بشؤونه الخاصة فيما إذا أعلن الرسول(صلى الله عليه وآله) ولايته وقد جاءت بعض الآيات الشريفة لتعبر عن هذه الولاية المطلقة حيث قال تبارك وتعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) وقال جل شانه: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم).
وهذا الإخبار القرآني إنما هو كاشف من ثبوت خصوصية في ذات النبي(صلى الله عليه وآله) تجعله مؤهلاً في مقام التشريع وإصدار القوانين إلى المنع من الحرية الشخصية وإلغاء حق الفرد في اختيار قراراته الخاصة، وهذه المرتبة العظيمة والخاصية الفريدة في ذات الرسول(صلى الله عليه وآله) إنما تحققت فيه لسمو ذاته المقدسة واختصاصه بمراتب من الكمال الموجودة فيه والمفقودة في غيره من الخلق، والكمالات ثابتة له في أول نشأته الوجودية حيث ورد أن أول ما خلق الله تعالى نور النبي(صلى الله عليه وآله) ثم خلق منه كل خير.
3ـ ولاية الذين آمنوا:
الولاية الأخرى التي تعرضت لها الآية الشريفة هي ولاية (الذين آمنوا) وهو مورد اختلاف المفسرين حيث ذهب الشيعة إلى أن المراد من (الذين آمنوا) خصوص أمير المؤمنين(عليه السلام) بقرينة الوصف المتصل وهو (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون).
وذهب مفسرو العامة إلى عدة آراء فمنهم من ذهب إلى أن المراد من الذين آمنوا:
1ـ خصوص أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو قول أغلب مفسريهم.
2ـ المراد مطلق المؤمنين وأمير المؤمنين(عليه السلام) أحدهم وهو قول ابن كثير الدمشقي في تفسيره في ج6 ص81، والأندلسي في المحرر الوجيز والقرطبي ج3 ص143.
3ـ المراد مطلق المسلمين استناداً إلى رواية عن ابن عباس.
4ـ المراد خصوص أبي بكر بن أبي قحافة.
5ـ المراد عبادة بن الصامت(رضي الله عنه).
مناقشة الأقوال:
الرأي الأول:
أما من قال بنزولها في خصوص أمير المؤمنين(عليه السلام) فتسنده الروايات الكثيرة المتظافرة بل المتواترة في نزول هذه الآية عند تصدق أمير المؤمنين(عليه السلام) بخاتمه وهو راكع، وروايات هذا الموضوع من طرق العامة وفي كتبهم فوق التواتر وقد ذكر قضية تصدق أمير المؤمنين(عليه السلام) بخاتمه حال الركوع جماعة كثيرة من محدثي العامة ذكر جماعة منهم العلامة الأميني(قدس سره) في موسوعته العظيمة الغدير (ج3 ص141ـ147).
الرأي الثاني:
إرادة مطلق المؤمنين استناداً إلى أحد أمور ثلاثة:
1ـ عموم الذين آمنوا وكونه جاء بلفظ الجمع.
2ـ ما روي في طرق العامة عن الإمام الباقر(عليه السلام).
3ـ ما روي في طرق العامة عن ابن عباس.
فأما العموم فإنه يمكن أن تكون الصفة المتصلة به وهي (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) مخصصة له ومن احتمال التخصص لا يكون العموم حجة، لأن العموم يكون حجة من إحراز عدم القرينة المتصلة أو المنفصلة. وأما لو أدعي أن العموم حجة مطلقاً حتى ورود المخصص فهو مما لا يمكن الإلتزام به للوازمه العرفية والشرعية الفاسدة، حيث أنه على خلاف عرف التخاطب لجريان السيرة برفع اليد عن العموم في حال ورود المخصوص، كما أنه يلزم من الالتزام بالعموم أو الإطلاق حتى مع ورود القرينة ولو منفصلة بعض اللوازم الشرعية الباطلة كجواز الزواج من المحارم الباطل شرعاً حيث قالت الآية (وانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) وقالت آية أخرى (حرمت عليكم أمهاتكم…) فالآية الثانية مقيدة لإطلاق الآية الأولى.
وفي الآية مورد البحث فإن صفة التصدق حال الركوع وثبوت اختصاصها بأمير المؤمنين(عليه السلام) حال ركوعه موجب التخصيص ذلك العموم، اللهم إلا أن يدعى أن صفة التصدق حال الركوع جاءت على نحو ذكر المصداق الأول للذين آمنوا ومعه تكون الآية شاملة لغير أمير المؤمنين(عليه السلام) فتكون دائرة الذين آمنوا أوسع من خصوص أمير المؤمنين(عليه السلام) ولكن أول مصاديق الذين آمنوا هو أمير المؤمنين(عليه السلام)، كما هو دلالة الرواية التي يرويها العامة عن الإمام الباقر(عليه السلام).
والرواية عن الإمام الباقر(عليه السلام) فيها مناقشة من عدة جهات:
1ـ ضعف سندها.
2ـ معارضتها بالروايات المتواترة عن أهل البيت(عليهم السلام).
3ـ مع الإغماض عن الجهتين المتقدمتين أن الثابت عن مذهب الإمام الباقر(عليه السلام) أنه لا يرى ولاية عامة مطلقة لغير المعصوم(عليه السلام) على بقية الناس ومعه يكون المراد من الذين آمنوا في الرواية في حال ثبوتها الواقعي هو خصوص الأئمة المعصومين والذين أولهم وعلى رأسهم أمير المؤمنين(عليه السلام).
وأما ما روي عن ابن عباس فهو معارض برواية أخرى في اختصاص الآية بأمير المؤمنين(عليه السلام) وبرواية ثالثة في شمولها لعموم المسلمين، ومع التعارض يؤخذ بما طابق التواتر وهو الاختصاص بأمير المؤمنين(عليه السلام) وإذا عدنا إلى رواية الإمام الباقر(عليه السلام) وغضضنا الطرف عن ضعفها السندي ومخالفتها للمتواتر عن أهل البيت(عليهم السلام) فيمكن توجيهها أيضاً بأن المراد من الذين آمنوا حسب الرواية هم المؤمنون بعضهم أولياء بعض، إن هؤلاء المؤمنين هم الذين لهم كمالات ومقامات تشابه وتقارب كمالات ومقامات النبي(صلى الله عليه وآله) وليس أولئك إلا الأئمة
المعصومين(عليهم السلام) كما ثبت من ثبوت مقامهم النور في النشأة الأولى وهو أمر اشتركوا فيه مع النبي(صلى الله عليه وآله) وكانوا بحسب هذا المقام أئمة معصومين وسادة مكرمين علق على وجودهم حفظ الحياة على الأرض كما هو دلالة المروي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) في كون أهل بيته أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بيته جاء أهل الأرض ما يوعدون. والخلاصة أن في حال عدم اختصاص الذين آمنوا بأمير المؤمنين(عليه السلام) فهي مختصة قطعاً بالكُمَّل من أفراد النوع الإنساني وهم خصوص المعصومين(عليهم السلام) ولا تعم غيرهم من المؤمنين.
الرأي الثالث:
وأما إرادة جميع المسلمين استناداً إلى رواية ابن عباس فهو أمر مقطوع البطلان لعدة جهات:
1ـ معارضتها للروايات المتواترة في الاختصاص بأمير المؤمنين(عليه السلام).
2ـ معارضتها لرواية ابن عباس نفسه في النزول في المؤمنين وفي خصوص أمير المؤمنين(عليه السلام).
3ـ يحتمل وضعها من قبل وعاظ السلاطين والجهاز الإعلامي، المرتبط ببني أمية لتكون للطلقاء ولاية على الناس.
الرأي الرابع:
وروى عكرمة عن ابن عباس نزول هذه الآية في أبي بكر. وعكرمة معروف ببغضه لأمير المؤمنين(عليه السلام) وعدائه له والوضع على ابن عباس، إضافة إلى معارضة هذه الرواية مع الروايات المتواترة في نزولها في أمير المؤمنين(عليه السلام).
ويبرهن على وضع هذه الرواية أنها وضعت ضمن الخطة الإعلامية التي انتهجها معاوية وبنو أمية من بعده للحطّ من قدر أمير المؤمنين(عليه السلام) ونسبة فضائله إلى غيره، وتوصيفه بعيوب غيره.
ومن هنا يسقط هذا الرأي عن الاعتبار، ويبقى القول إنها نزلت في أمير المؤمنين(عليه السلام) هو القول المعتمد لتواتر الروايات فيه، وسقوط المعارض عن الاعتبار.
الرأي الخامس:
وأما نزولها في خصوص عبادة بن الصامت(رضي الله عنه) فهو باطل لثلاث جهات:
1ـ التعارض المتواتر من الروايات في النزول في خصوص أمير المؤمنين(عليه السلام).
2ـ ضعف سند الروايتين الدالتين على النزول في عبادة.
3ـ إن كلا الروايتين وقع في سنده رجل مبغض لأمير المؤمنين(عليه السلام) ومن موظفي الجهاز الإعلامي للدولة العباسية في الأيام التي حاول العباسيون فيها إشاعة عقيدة النص على العباس بن عبد المطلب ومحاربة أئمة أهل البيت(عليهم السلام) على جميع الأصعدة الفكرية والاقتصادية والسياسية وهي الفترة الممتدة بين حكم أبي جعفر المنصور حتى نهاية حكم الرشيد، وهذان الرجلان هما:
1ـ يونس بن بكير المتوفي سنة (199هـ) وقد ذكر في تهذيب التهذيب ج3 ص456 وص8183 طعن علماء الجرح والتعديل من أبناء العامة فيه واتهامهم إياه بمشايعة السلطان ووصل الأحاديث بابن إسحاق مع جهالته.
2ـ عبد الله بن إدريس وقد وثقه رجال العامة ووصفوه بأنه كان عثمانياً، وكان الرشيد قد طلب منه تولي القضاء، تهذيب الكمال ج4 ص232 وص3295.
ومن كونه عثمانياً في العصر العباسي يتضح بما لا ريب فيه بغضه لأمير المؤمنين(عليه السلام) ومحاولة إخفاء فضائله وكونه من ذيول التيار الأموي وأعوان طغاة بني العباس.
خلاصة البحث:
من خلال دراسة آي الذكر الحكيم دراسة علمية موضوعية ومن خلال التبحر في أقوال المفسرين وأدلة أقوالهم ونقدها علمياً موضوعياً نجد أن الإمامة التي نص عليها الكتاب العزيز في قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) الدال على اشتراط العصمة في الإمام ومن قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) الأخبار عن عصمة أهل البيت(عليهم السلام) وأنهم الأئمة من ذرية إبراهيم(عليه السلام) فإن آية الولاية دلت بما لا مزيد عليه من أن أول من يجب على الأمة طاعته والرجوع إليه هو أمير المؤمنين(عليه السلام)، وإن الذين آمنوا أما أن تنحصر به للوصف المتصل أو تعمم المعصومين(عليهم السلام) ليكون هو المصداق الأول للذين آمنواً بملاك وحدة الوجود النوري الذي سبقوا به جميع الموجودات وبه استحقوا أعلى الكمالات فهو الملاك في عصمتهم وولايتهم وكونهم الإنسان الكامل الذي هو المظهر الأتم لتجليات أسماء الجمال والجلال الإلهية.
نشرت في العدد 9
(1) ابن منظور، لسان العرب، 8/ 822.
(2) المصدر السابق 8/ 823.
(3) المصدر السابق.