إذا كانت لغة الخطاب العربي تقوم في منطلقاتها على أساس التصورات الإنسانية لمدلولات المفردات في الذهن، فيمكن القول إن المنشأ الابتدائي للغة كان ذا نزعة تبسيطية وفقاً لإدراك العقل البشري الأول ببساطة للمدلولات الخارجية
فظهرت المفردات بدلالاتها الأولية (المعاني الحسية لها)(1)، ذلك أن الحياة البشرية لم تبلغ من الرقي والتوسع الفكري ما يدعو إلى تعقيد ذهنية الإنسان البدائي، وبفعل تقادم الزمن وحصول التطورات وتعقد الحياة الاجتماعية وتشابكها ظهرت الحاجة ماسة إلى أن يدخل في اللغة ما يمنحها صفة الإمكانية على الاستيعاب لضم جميع المتداخلات الحياتية، ولتوافر عامل التفاهم بعد وجود التعقيد والصعوبة في فهم كثير من الأشياء والأمور، ومن هنا راحت العقلية الانسانية تلهث وراء الوضع في اللغة، وعقد علاقات جديدة بين المفردات من أجل شمولية الأفكار والمستجدات العصرية لكل زمان ولهذا تعددت وجوه الدلالة وتنوعت إلى الحد الذي أشكل معه فهم كثير من الدلالات المتعلقة بمفردة واحدة، ولابد من القول بأن هذه التعددية الدلالية مع وحدة المفردة تعد إسهاماً رئيساً لتغطية كثير من الإشكاليات التخاطبيبة، وتحل عدة صعوبات لمواجهة التطور العصري وتحدياته، ولكن إذا تركت هذه الدلالات مكتنزة في المفردة دون تفصيل لكل وجه منها بقيت الصعوبة في مواجهة التطور قائمة دون تذليل، وأُحيلت المفردة من حلٍ لمشكلة إلى مشكلة بذاتها،
إلا أن هذه المشكلة تنتفي حال دخول المفردة في سياق، إذ أن السياق هو الحكم في توجيه دلالة المفردة وتحديدها. وذلك بحيثية تعاضد جميع مفردات السياق للكشف عن المعنى المراد للمفردة ومعرفته تحديداً.
لقد احتلت دراسة السياق مجالاً واسعاً من الفكر اللغوي الغربي لأهميته الكبرى وقدرته الهائلة في توجيه علم الدلالة، حيث نظَّر علماء الغرب من اللغويين للسياق في نظرية سميت بـ(النهج السياقي أو العملي) وكان رائد هذة النظرية وزعيمها العالم الانكليزي (فيرث)، فقد كان يرى ومن تبعه من المهتمين بشأن الدلالة أن دلالة المفردة لا تنكشف إلا بعد وضعها أو تسييقها في تراكيب لغوية(2). فكأن حيثية الاستعمال الخطابي للفظة هو الذي يمنحها المعنى.
وإذا كان (فيرث) قد خرج بهذه النظرية بعد تأمل ونظر، فإن الجرجاني قد سبقه بزهاء ثمانية قرون إلى هذه النظرة قائلاً: (لا نظم في الكلم ولا ترتيب حتى يعلق بعضها ببعض، ويبني بعضها على بعض وتجعل هذه بسبب من تلك)(3)،
فكأن تعلّق المفردات واعتماد السببية بينها ـ أي: لا ترد اللفظة إلا بسبب اللفظة التي قبلها ـ هما ما يكتمل المعنى بهما كلياً، وفي الوقت نفسه تُفهم دلالة كل مفردة توظيفاً دلالياً بفعل المفردة المجاورة لها، ذلك (أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي الفاظ مجردة ولا من حيث هي كلم مفرد، وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها او ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ)(4) فنجد أن الجرجاني لم ينفِ تماماً وجود معنى للفظ وهو في حال الأفراد، بيد أن هذه الافرادية لا تؤهله للدخول في حيز التفاضل مع سائر الفاظ اللغة الاخرى، وإنما الذي يدفع به الى دائرة التفاضل هو السياق اللفظي الذي يرد فيه لان مبدأ المجاورة بين الألفاظ هو الذي ينتج السمة التفاضلية لها اذ يمنح اللفظ قدرة تعبيرية تتناغم والدلالة العامة المنتجة بفعل التجاور.
وإذا استأنفنا الحديث عن (فيرث) وتابعيه نرى ان هؤلاء السياقيين على ما في نظرتهم من اثر بالغ في توجيه الدراسات الدلالية من حيث السياق نحو التثبت في الكشف عن المعنى الا ان ثمة ماخذا عليها، وهو ان هذه النظرية تُلغي المعنى المعجمي الحقيقي للّفظة(5) فهي تتعرف على معنى اللفظة بفعل السياق فحسب، وليس ثمة معنى للفظة خارجه. والا ظهر أن في هذا تطرفاً واضحاً وتشدداً في الاتجاه نحو الرؤيا السياقية، لأنهم يغفلون المعنى الأساس للفظة خارج السياق ولا يقرّون بمعنى لها بمعزل عن السياق، من هنا وجب إجراء تعديل على حيثية إيمانهم بمعنى اللفظ ليكون (معنى الكلمة هو مجمل السياقات التي يمكن أن تنتمي اليها)(6) مضافاً إلى ذلك دلالة الأصل أو المركز، وسنعرض في الآتي أصناف السياقات اللغوية التي تتوجه الدلالة بفعلها وسنقتصر في هذا العدد على صنفين فحسب، وسترد الأصناف الباقية في تضاعيف الأعداد القادمة تباعاً.
السياق اللفظي ودلالته:
تشهد اللغة العربية بالتداول الطبيعي لمسارات مفرداتها تعددية للدلالات في مفردة واحدة، وقد أشرنا إلى هذا فيما سبق القول فيه من أن الدلالة تبدأ تجسيدية حسِّية ثم يحكم عليها التطور بالانتقال إلى الدلالة التجريدية العقلية، فيحدث من هذا إيجاد وجوه مختلفة للدلالة مع وحدة الدال أو (اللفظ)، ولا توجد حيثية لمعرفة المعنى وتحديده إلا بالسياق اللفظي، فهو القرينة الفنية التي يتم بها ترشيح جميع الاحتمالات المتواردة على اللفظة والتثبيت على دلالة معينة، إذ (من الصعب جداً تحديد دلالة الكلمة، ذلك أن الدلالة لا تقتصر على مدلول الكلمة في ذاتها، إنما تحتوي على المعاني كلها التي يمكن أن تتخذها هذه الكلمة ضمن السياقات اللغوية)(7)
التي توضع فيها، (فالكلمات والدلالات ترتبط على نحو وثيق بالسياق وعلاقاته فهو الذي يعطي الاضاءة للغرض والقصد)(8) منها، ولقد أشار أبو هلال العسكري إلى أهمية السياق في التحديد الدلالي فيما أشار إليه من جملة مُحدِّدات حيث يقول: (وأما ما يُعرف به الفرق بين هذه المعاني وأشباهها كثيرة منها اختلاف ما يستعمل عليه اللفظان اللذان يُراد الفرق بين معنييهما)(9) وكذلك اختلاف طريقة استعمال اللفظة الواحدة في سياقات مختلفة حتى تتولد لها في جو كل سياق دلالةٌ تُغاير الدلالة التي تحققت لها في سياق آخر، وهذا يتأتى من القرائن اللفظية الكاشفة التي ترافق اللفظة في السياقات وعلى سبيل التمثيل ننظر إلى قوله تعالى: (والسارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيديهما جزاءً)(10)
فـ(اليد) في الاية الكريمة تدل على العضو المعروف للإنسان، وذلك بقرينة (القطع) وهي العقوبة الدنيوية على من سلب الناس شيئاً بغير وجه حق، فمعنى اليد هنا هو المعنى المعجمي الحقيقي أو ما يُدعى بـ(دلالة التبادر)، وكذا الحال في قوله تعالى: (فاغسلوا وجوهَكُم وأيديَكُم إلى المرافِقِ)(11) اما إذا أمعنا النظر في قوله تعالى: (يدُ اللهِ فوقَ أيديهم)(12) أدركنا بقرينة لفظ الجلال (الله) أن لفظة (اليد) لا يراد بها المعنى التبادري الاول لها، إنما المقصود من لفظة اليد في هذا الموضع هو (القدرة) أو السيطرة أو الهيمنة، وهذا لم يكن ليُدرك من اللفظة بمعزل عن السياق اللفظي لها.
وقد يحدث أن توجد لفظتان يظن أنهما مترادفتان إذ يدلان على المعنى نفسه، على حين أن هاتين اللفظتين يمكن التمييز بين دلالتيهما بدقة بفعل السياق اللفظي والقرائن التي ترد معها، فتفرد لها معنى معينا دون غيره، ويُحدَّد للفظة دون نظيرتها حيث (يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته، ويختار له اللفظ الذي هو أخص به وأكشف عنه وأتمُّ له وأحرى بأن يكسبه نُبلاً ويُظهر فيه مزية)(13) وإذا شئنا التمثيل فلننظر برعاية للفارق الدلالي بين لفظتي (ختم) و(طبع)، حيث تسالم الطوسي(14) والطبرسي(15) وشبر(16) وغيرهم(17) على أن الختم بمعنى الطبع، لكننا لا نميل إلى هذا إذا أخذنا السياق بالحسبان، ذلك بأنه (من اعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم)(18) وللتحقق من ذلك نتأمل الآيتين الآتيتين:
قوله تعالى: (خَتَمَ الله على قلوبِهِم وعلى سمعِهِم وعلى أَبْصارِهِم غشاوةٌ ولهم عذابٌ عظيمٌ)(19) وقوله: (أولئك الذين طَبَعَ اللهُ على قلوبهِم وسمعِهِم وأبصارِهم وأولئك هم الغافلونَ)(20) قيل إن معنى ختم (شهد عليها بأنها لا تقبل الحق، يقول القائل: أراك تختم على كل ما يقول فلان اي تشهد به وتصدقه… وقيل: المعنى في ذلك أنه ذمهم بأنها كالمختوم عليها لا يدخلها الايمان ولا يخرج عنها الكفر)(21) فهي كالختم بالشمع الذي يؤدي دلالة الحضر والمنع (فيجعله لايفهم شيئاً ولا يخرج منه شيء)(22)
فكأن الأمر قد انتهى بالنسبة لهؤلاء بدلالة التسوية في سياق الآية السابقة عليها وهي قوله تعالى: ( إنَّ الذين كَفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تُنذِرْهُم لا يؤمنون)(23) ثم ترد الآيات بعدها مُتحدِّثة عن المنافقين وحيثيات تعاملهم مع المؤمنين، وهذا يدفعنا للقول أيضاً بأن معنى (ختم) قد يدل على التغافل والاعراض منه سبحانه عن المنافقين(24).
على حين أن إمعان النظر في سورة النحل يكشف لنا عن أن (طبع) أكثر شدَّة في الدلالة من (ختم)، وذلك لجملة أمور أولها: (أن الطبع أثر يثبت في المطبوع ويلزمه فهو يفيد من معنى الثبات واللزوم ما لا يفيد الختم)(25) فنصل إلى أن الطبع أثر لا يزول بخلاف الختم، وما يعضد هذا أنه عدَّى الطبع إلى الابصار فضلاً عن القلب والسمع ولم يعدِّ الختم إلى الابصار بل قطع صلة حدث الختم بـ(الواو) الاستئنافية قبل الأبصار فقال: وعلى أبصارهم غشاوة، لأن الختم لا يلزم، ثم إن الضرورة المعنوية هنا لا تقتضي التعدية للأبصار على حين (أن الطبع مأخوذ من الطبيعة المزامنة للانسان التي لا تنفك عنه فهو مجبول عليها)(26)،
وبما أن مدار الآية في الطبع مرتكز على فكرة (الغفلة) بدلالة نهاية الآية (وأولئك هم الغافلون) كانت التعدية للجميع أدعى لاستكمال الغفلة وجعلها كأنها من طبيعتهم الدائمة، ويعضد هذا بناء الاسناد في جملة الغفلة على الاسمية الدالة على الثبات، بينما نجد أن مرتكز الآية في البقرة يدور على وجوب العذاب لا الغفلة وهذا متأتٍ من أن الكفار ممتنعون عن تقبل الحق لانهم مختومون دونه، فصار لزاماً ثبوت العذاب عليهم بدلالة نهاية الآية (ولهم عذاب عظيم).
أما ثاني الأمور فمردَّه إلى السياق السابق واللاحق لآية الطبع في سورة النحل، إذ الناظر فيهما بتأنٍ يُدرك الفارق بينهما، فسياق الآيات السابقة عليهما تُفصِّل القول في الكافرين والملحدين الذين يشرحون صدورهم بالكفر علنا وقد آثروا الحياة الدنيا، ويذكر سبحانه صراحةً غضبه عليهم فكانت دلالة السياق مشحونة ومُحمَّلة بالعذاب والغضب الإلهي، ثم يكاد سياق الآيات اللاحقة لها تتمحور على فكرة الكفر والعذاب أيضاً، والتكذيب للرسل والاعراض عنهم، فكان هذا أنسب دلالياً لورود لفظة (طبع) في هذا الموضع دون لفظة (ختم).
وبهذا نصل إلى أن للسياق اللفظي مقتضى وحاكمية على الدلالة فهو يوجّه اللفظة بحسب حاجته منها وعلى وفق ما تحمله اللفظة من دلالة معينة تفارق بها نظيرتها ـ التي قد يظن أنها مرادفتها ـ بفعله فالنص القرآني مُعجزٌ في جميع وجوهه وبضمنها إعجازه السياقي في توجيه الدلالة.
السياق النحوي أو الوظيفي ودلالته:
إن أصول النحو العربي في السياقات الخطابية تُبنى أصالةً على مقتضيات منهجية ومنظومات قواعدية غاية في الرفعة والاتقان، حيث تتيح للمتكلم أن يُشكِّل السياق نحوياً على وفق مقاصده ومراده، فتتوزع البُنى التركيبية على مسار الخطاب اللغوي من منظور دلالي محكوم بقاعدة تضبطه لايسعه أن يتعداها أو يخرج عليها، ولا يُجلى أو يتضح إذا خالفها إذ (ليس الغرض بنظم الكلم إن توالت ألفاظها في النطق بل إن تناسقت دلالاتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل)(27) بالأصل النحوي لكشف المعنى، وبهذا لا يكون كلامك نظما ذا معنى (إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله)(28)
التي وضعها النحاة وعلماء المعاني(29)، لكن لا نريد من ذلك التمسك بالقاعدة على وفق المفهوم المنطقي كما أملاه النحاة فـ(ليس القصد معرفة قواعد النحو وحدها، ولكن ما تحدثه هذه القواعد وما سيتبعه من معنى وما يتولد عن النظم من مدلول)(30)، فهناك تقديم وتأخير، وذكر وحذف، ووصل وفصل، وقصر في المعنى وعدمه، ولكلِّ ذلك دلالات معينة لا يمكن معرفتها ما لم يستتبع السياق هذه المنهجيات لإضاءة الدلالة، لأن السياق (ليس هو شيئاً غير توخي معاني هذا العلم وأحكامه فيما بين الكلم)(31) حيث (ليس عندنا في وجوه الخطأ اللغوي أكبر ولا أعظم من أن يظن امرؤ أن اللغة بالمفردات لا بالاوضاع والتراكيب)(32).
ومن هنا نقول: إن السياق لا يوجِّه الدلالة ويُقاربها بكيفية الرصف المفرداتي وعملية التنسيق بهيآت لفظية مرتبة فحسب، لتظهر من خلالها الدلالة التي قد تبدو غامضة في البدء عند البعض وإنما يجلي لنا ـ السياق ـ أمراً أكثر أهمية وأبلغ في معرفة الدلالة، ولكن لا بحيثية الترتيب اللفظي، وإنما بحيثية قاعدة الترتيب الدلالي تأسيساً على معطيات الوظائف النحوية للتركيب السياقي، إذ أن للتركيب النحوي دلالات تُعرَف من تشكُّلات السياق الوظيفية، وهذا ما دعا إليه عبد القاهر الجرجاني صراحةً، فكأن هناك دلالة توجَّه بمقتضى السياق اللفظي وثمة دلالة أخرى يقتضي نحو السياق مَهَمَّة توجيهها.
ومثال على ذلك قوله تعالى: (وللهِ على الناسِ حجُ البيتِ من استطاعَ إليه سبيلاً)(33)، نجد في الآية الكريمة تقديم لفظ الجلالة (لله) على (حج البيت) وهذا التقديم لم يرد إلا لتحقيق دلالة معينة وهي دلالة التخصيص فاثبت بها أن فريضة الحج هي له سبحانه وحده ومن حقه دون سواه، وما يعضد هذا وجود اللام اللاصقة بلفظ الجلالة وهي (استحقاقية) في معناها أو ملكية كما يسميها النحاة، ثم كان الحج على عموم الناس دون استثناء بدلالة (ال) الجنسية المرتبطة بـ(الناس) التي تشمل جميع أفراد الجنس المقصود على سبيل الاستغراق فتتم بذلك وجوبية الحج،
ثم عزز هذا القصد بحرف المعنى (على) الذي أثبت دلالة الهيمنة والفرض منه سبحانه على عباده كما تقول: (لي عليك كذا فيجب عليك الايفاء) لكن لو توقفت الآية عند هذا الحد لأصبح الحج إجباراً قائماً على كل إنسان سواء كان مستطيعاً له أم غير مستطيع، إلا أنه سبحانه ألطف بعباده فشملهم برعايته بقوله: (من استطاع اليه سبيلاً) إذ أبدل من العموم بالبعض(34)،
لبُعد المشقة وصعوبة المؤونة ومما يدل على هذا استعماله سبحانه للفظة (الاستطاعة) بدل (القدرة) والمتتبع للسياقات القرآنية لهذه اللفظة يجد أنها لا ترد في النص المقدس الا للدلالة على إنجاز العمل بمشقة وعُسر، أما لفظة (القدرة) فبالمنظور السياقي القرآني لها نجدها تدل على إنجاز العمل بلا مشقة، لذا ناسب سبحانه صورة بذل الجهد والعناء بورود لفظة استطاع بدل أختها، وقد منح النص بالابدال (الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال)(35) ولولاه لوجب على من لم يؤدِّ هذه الفريضةَ الحسابُ مهما كان مسوغ التعذُّر، إلا أن الوظيفة النحوية التي أدَّاها البدل أسقطت عن غير المستطيع فريضة الحج بعدم الاستطاعة، وتجب عليه بوجودها، فيكون (المعنى: ولله على من استطاع من الناس حج البيت)(36)
وما كان لهذه الدلالة أن تظهر وتفهم بهذا التوضيح والتفصيل لولا السياق النحوي وتشكيلاته المقصودة لأداء الغرض المطلوب لأن (الألفاظ إذا كانت أوعية للمعاني فإنها لا محالة تتبع المعاني في مواقعها، فإذا ما وجب لمعنى أن يكون أولاً في النفس، وجب اللفظ الدال عليه أن يكون أولاً في النطق)(37). ظهر مما تقدم أن الدلالة في التخاطب اللغوي على ضربين:
أ ـ دلالة معجمية حقيقية يقع الفهم عليها بالتبادر الأول من دون الحاجة إلى قرينة خارجية، وهي الأصل الذي تواصل به الإنسان البدائي ومن بعده.
ب ـ دلالة سياقية وهي التي لا يمكن إدراكها من الكلام خاطراً أولياً، وإنما تحتاج إلى قرينة ما للوصول إلى دلالتها المبتغاة وضوحاً وكشفاً، وهي ما يمكن أن تدعى أيضاً بـ(دلالة القرينة) وقد وجدت لاحقة على الدلالة الحقيقية تلبية لسد حاجة الإنسان إدراكاً للتطور الجاري.
نشرت في العدد 9
(1) للاستزادة ينظر الفارابي: الحروف: 72، 73.
(2) ينظر مختار: علم الدلالة: 68، 69.
(3) الجرجاني: دلائل الاعجاز: 38.
(4) م.ن: 32.
(5) يقول بالمر: (من الصعب جداً أن نقرر ما إذا كان هناك معنى مركزي) ينظر مختار: علم الدلالة: 121.
(6) جون كوين: بناء لغة الشعر: 133، وينظر زكريا: الالسنية علم اللغة الحديث: 211.
(7) زكريا: الالسنية علم اللغة الحديث: 211.
(8) الداية: علم الدلالة العربي: 195.
(9) العسكري: الفروق في اللغة: 16.
(10) سورة المائدة: 38.
(11) سورة المائدة: 6.
(12) سورة الفتح: 10.
(13) الجرجاني دلائل الاعجاز: 30، 31.
(14) ينظر الطوسي: التبيان: 1/63.
(15) ينظر الطبرسي: مجمع البيان: 1/43.
(16) ينظر شبر: الجوهر الثمين: 1/69.
(17) ينظر الفيض الكاشاني: الصافي: 1/80، والكاشاني: المعين: 1/22، والكرمي: المنير: 1/23، ومغنية: الكاشف: 4/557، والحائري: مقتنيات الدرر: 1/66.
(18) ابن القيم الجوزية: بدائع الفوائد: 4/10.
(19) سورة البقرة: 7.
(20) سورة النحل: 108.
(21) الطوسي: التبيان: 1/63. وينظر الطبرسي: مجمع البيان: 1/43، وشبر: الجوهر الثمين: 1/69، والكاشاني: المعين: 1/22.
(22) الفيروزآبادي: القاموس المحيط: 4/103.
(23) سورة البقرة: 6.
(24) ينظر ابن منظور: لسان العرب: 15/ 54، 55. والفيروزآبادي: القاموس المحيط: 4/104.
(25) أبو هلال العسكري: الفروق في اللغة: 64.
(26) ابن منظور: لسان العرب: 10/102.
(27)الجرجاني: دلائل الاعجاز: 35.
(28) م.ن: 55.
(29) يرى د. المخزومي أن علماء المعاني من البلاغيين هم النحاة الحقيقيون بناء على قضية المعنى. ينظر المخزومي: النحو العربي نقداً وتوجيهاً: 29.
(30) لاشين: التراكيب النحوية من وجهة نظر بلاغية: 85،ومصطفى: احياء النحو: 47.
(31) الجرجاني: دلائل الاعجاز: 58.
(32) الرافعي: تحت راية القران: 55. وينظر: عبد المطلب: البلاغة والاسلوبية: 29.
(33) سورة ال عمران: 97.
(34) ينظر الزمخشري: الكشاف: 1/229، والرازي: التفسير الكبير: 8/162، وشبر: الجوهر الثمين: 1/350.
(35) الزمخشري: الكشاف: 1/299
(36) الرازي: التفسير الكبير: 8/ 162.
(37) الجرجاني: دلائل الاعجاز: 37، وينظر: 38.