Take a fresh look at your lifestyle.

التربية والتعليم ومعالمهما في العراق الجديد

0 993

بهاء حمزة عباس
مدير المركز الثقافي/ الزبير

 

                          من اللازم لكل دارس للعلوم الاجتماعية والتربوية ملاحظة الارتباط بين الدراسات الإنسانية، بوصفها علوماً سلوكية ذات صلة وثيقة بمختلف الميادين الحياتية في المجتمع، لا من منظور كونها دراسات نظرية صرفة تعتمد على الفرض والاستنتاج والاستقراء والتجربة وإنما باعتبارها علوماً تقرأ السلوك وتتبع الجذور القريبة منها والبعيدة والتي تستمد منها الظاهرة التربوية والاجتماعية خصائصها وأبعادها العامة والخاصة.
فالتربية بمعناها العام إنما هي نقل النتاج والثمار الحضارية للأمم والأجيال اللاحقة مع إنمائها وتطويرها بشتى الوسائل والطرق في حلقات ثقافية متصلة لإطار ثقافي عام وسياق متجدد، وأما التربية بمفهومها الإصلاحي فهي الجهد المقصود المقنن الذي يسعى فيه المربون (أفراد المجتمع) من خلال الوسائل المختلفة إلى إيجاد سلوك إيجابي بناء جديد لدى الأفراد أو تقويم سلوك قائم يقتضي الإصلاح والتعديل.
ومن أجلى معالم التربية الإسلامية والعربية نجد سمة الثبات فهي تبرز خصائص التواصل والديمومة والاستقرار، فنجد أن التربية اليونانية والصينية ونحوهما من الأصول الحضارية القديمة قد ذابت وتلاشت مع مرور الأيام وتلاحق الدهور، فلم يعد وجود لتصورات أفلاطون التربوية المثالية أو غيرها من المدارس والمذاهب القديمة، بينما نرى سمات الثبات في نمطية وبنية العقل العربي الإسلامي عموماً، فالتربية لديه مازالت في إطارها العام تؤدي وظيفتها نفسها عبر العصور والأزمان، فمنذ عصر الإسلام وما قبله يستجيب الفرد لحركة التاريخ المتجدد ويتفاعل مع جميع المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الداخلية بنفس معطيات التفكير وآلياته.
وفي العراق نشهد أن التربية قد فقدت أهم خصائصها ومقوماتها خلال العقود الأخيرة، وتم تسييس التربية والتعليم ليخدم بقاء وهيمنة الحزب الواحد ويمثل تطلعاته، ويضمن المستقبل المشرق للبعث ونظامه، حتى لو كان ذلك على حساب الأطر الموضوعية والحقائق الثابتة. ومنها نجد سمة إجبار وإغراء التربويين بالانتماء لحزب البعث، وإقصاء وتهميش كل رافض للبعث ونظامه في تلك الأيام البائدة.
وبعد زوال نظام صدام وتنفس العراقيين نسائم الحرية شهدنا توجهات مقننة لتنفيذ وتحقيق المشروع الغربي، فأمريكا منذ بداية ما أسمته بالحرب على الإرهاب اتخذت استراتيجيات معلنة بخطاباتها السياسية إلى الدول الإسلامية والعربية بدعوتها إلى تغيير مناهجها بما يخدم هذا الهدف، أي مطالبة الساسة الأمريكان من دول الخليج خاصة وعلى رأسها العربية السعودية أن تسعى في تبديل مناهجها الدينية والتي يرى قادة أمريكا أنها تسهم في نشر الإرهاب وإعطاء خلفية دينية رجعية تساعد على نمو الفكر الأصولي المتعصب الهادف إلى محاربة الآخرين والدعوة إلى العداء وعدم الانفتاح، هذا وتلك البلدان ليست تحت سيطرة أمريكا المعلنة (وإن كانت سياسات قادتها تابعة للإدارة الغربية منذ أجيال) فكيف ببلدنا الذي يعاني من محنة الاحتلال الرسمي والذي تبتغي أمريكا ـ كما أعلنت أكثر من مرة على لسان سياسييها ـ أنها تريد أن تجعل العراق نموذجاً رائداً فاعلاً لتطلعاتها السياسية والاقتصادية والفكرية لرسم خارطة السياسة للمنطقة، فماذا نرجو بعد ذلك…؟
وقد بدت بوادر هذا الخطر واضحة حيث حدثني أحد المشرفين التربويين من الذين حضروا أول دورة للإشراف التربوي في بغداد بعد سقوط صدام، أنه قد درس في المناهج المعدة من جهة مجهولة ما فهمه بأنها عملية (غسل دماغ) لإعطاء صورة ضد التوجهات والتيارات الإسلامية على أنها تسهم في رفد الإرهاب والعنف والعداء، ومؤكداّ أنه قد تأثر من بعض المحاضرين (المغتربين) الذي ينظرون للدين بأنه مصدر الرجعية والتخلف والتقهقر في أمتنا وتاريخنا. وكان ختام أول دورة للتربويين حفلة موسيقية راقصة أقيمت في أحد قصور صدام، حيث ضم بعض الحضاريين من الرجال والنساء (كبار السن طبعاً) بعضهم إلى بعض بشكل لا تقبله الأعراف والتقاليد والعادات العراقية تحت ضحك واستخفاف ومزاح فاسد ضم (نخبة المشرفين التربويين في عراق الغد المشرق). فما نأمله من هذا بدايات إلا كما قال الشاعر:
إذا كان رب البيت بالدف مولعاً
فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
وقد تنبهت المرجعيات الدينية الرشيدة إلى عمق هذه المحنة التي يمر بها بلدنا فكتبوا رسائل توجيهية للتربويين من أهمها رسالة المرجع الديني الكبير سماحة آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم (دام ظله) للتربويين العراقيين، وقد حاول فيها السيد الحكيم رسم خارطة لعملية الإصلاح المنشود، على مستوى إصلاح المناهج الدراسية وتحسين وتطوير العمل التربوي برمته. وكذلك وجه سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ محمد إسحاق الفياض (دام ظله) رسالة إلى التربويين حدد فيها أهم المخاطر التي يمر بها العمل التربوي في العراق، وما يجب على التربويين العمل به من أجل إنجاح العمل التربوي وتطويره حتى يرقى إلى مستوى التحديات المعاصرة.
إن من الواجب الاهتمام بالتربية والتعليم، فالتعليم (والإلزامي منه خاصة) يعد محوراً أساسياً في تطور وتنمية البلدان، خاصة إذا نظر إلى كونه حقاً للجماهير قد يغفل عن تشخيص أولويتها أولياء الأمور، فيزجوا بأبنائهم في متاهات الأعمال وصراعات الحياة قبل أن يبلغوا الحلم.
فالتعليم قضية فاعلة من قضايا العصر كانت ومازالت طموحاً مشروعاً من أجل بناء وصناعة الإنسان المؤثر والتي تلعب دوراً مهماً في تشكيل قدرات ذلك الإنسان وتسهم في تأهيل طاقاته، بما يؤدي بالتالي إلى ازدهار حضارة البلد باتجاهاتها البنائية والوظيفية.
وعراقنا من البلدان التي عانت كثيراً من الفقر والفاقة والفساد الإداري لجهاز الدولة مما أسفر عن تهميش ظاهرة التعليم واتسامها بسمات مشبوهة مما أنتج وأرهص لامتلاء شوارعنا وأسواقنا من الصبية العاملين، وبتشجيع من أولياء أمورهم الذين لم يروا جدوى من التعليم لضعف في أفق تفكيرهم أو لضغوط الحاجة والفاقة مما سهل عليهم إهمال مستقبل أبنائهم مكتفين بتوظيفهم في مهن بسيطة أو أعمال حرة أو التسول في الشوارع.
إن الدور الذي يجب أن تقوم به وتفعله جميع الجهات الدينية والوطنية هو توجيه وإرشاد الآباء إلى أهمية التعليم وإيضاح ثماره العملية حتى تتبلور هذه الإطروحات في عقول أولياء الأمور فيسارعوا إلى تسجيل أبنائهم في المدارس والاهتمام والرعاية لشؤونهم العلمية.
أما المسؤولون والتربويون فعليهم وحدهم يقع الكاهل الأعظم من هذه الاطروحة فبتظافر جهودهم من أجل تشويق الطلاب إلى التعلم وحثهم الشديد لهم بالانضباط في الدوام ومحاولة الترفيه عنهم حتى لا يكتسب الدرس والمدرسة ثقلاً على الطلاب ويكون مقيتاً لديهم، فيسارعوا إلى إهمالها والغياب عنها متى سنحت لهم الفرصة. بل لابد أن ينتبه أولئك التربيون إلى أن مرحلة البناء أكثر صعوبة وتعقيداً من العمليات الأخرى التي تليها، ولا ينسوا أنهم مربون قبل أن يكونوا معلمين وأن التعليم ليس مجرد إيصال العلوم والمعارف إلى الطلاب وليس كبحاً للرغبات والميول، إنما هو أعقد وأشمل من ذلك فهو إرشاد وتوجيه للطلبة لبذل أقصى الجهد في عملية التعلم وهذا لا يتم عن طريق القسر والجبر وإنما عن طريق خلق مواقف تؤدي بصورة تلقائية وطبيعية إلى الترغيب بالفعاليات المفيدة، فالتدريس الصحيح هو الذي يفتح الأفق الجديد للبحث والترقي والإبداع من خلال الاهتمام بالمواد والموضوعات الجديرة بالدراسة وخلق ظروف ومناخ ملؤه الحب والعطف وأن يكون معتمداً على الإيحاء كأساس في ممارسة التعليم بدل الاعتماد على الإملاء والإكراه.
فعلى المعلمين الفضلاء أن لا ينسوا أن الأطفال أمانة الله والوطن في أعناقهم فهم مستقبل البلد وعليهم يقع الاعتماد وبهم تتحقق الأماني والأحلام فبالتعليم الجيد وحده نسرع في تحقيق ثمرات التحول كما ونحسن من صفاتها كيفاً من أجل رفعة بلدنا وازدهاره .
نشرت في العدد 9

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.