Take a fresh look at your lifestyle.

من سيرة الإمام الرضا (ع) العودة.. إلى بغداد

0 1٬153

علي سعد النجفي

 

بغداد جنة الدنيا:
بغداد عاصمة الشرق والغرب وتشد إليها الرحال من جميع أقصاء المعمورة، بغداد مركز خلافة بني العباس، أو بالأحرى عاصمة الإمبراطورية الإسلامية، بغداد محج الشعراء والأدباء من أجل أن يتزودوا من نبعها الصافي بغداد مركز العلم والأدب ومدرسة الإسلام… بغداد… بغداد…
كان الجميع ينظرون إليها بفخر واعتزاز وبالأخص خلفاء بني العباس. كانت كذلك إلى أن قرر هارون الرشيد أن يورث أبناءه الثلاثة فقسم البلاد الإسلامية بينهم وهو بذلك أدخلهم في حلبة الصراع وكان يعلم جيداً بأن دولة بني العباس لا يستقيم أمرها من بعده إلا بوجود ولده الأكبر عبد الله المأمون ولكنه رضخ لرغبة بني العباس وإلحاح زوجته زبيدة أم الأمين فجعل الخلافة من بعده لابنها الأمين ومن بعده لعبد الله المأمون وأقطعه القسم الشرقي من البلاد الإسلامية وما أن هلك هارون حتى بدأ النزال في تلك الحلبة بين الأخوة الأعداء وانتهت المباراة بفوز المأمون على خصمه الأمين بالضربة القاضية وحمل رأس الأمين من بغداد إلى خراسان شرقاً وطيف به في البلاد وبذلك انتقل التاج العباسي ولأول مرة من بغداد إلى خراسان وأصبحت مدينة (مرو) والتي كانت مركز إقليم خراسان في ذلك الوقت عاصمة الدولة العباسية على رغم أنف العباسيين وزبيدة سنة (198هـ) وبذلك اختطفت مدينة (مرو) التاج العباسي من بغداد وأصبحت عاصمة الدولة العباسية لمدة سبع سنين والذي أريد أن أبحثه في هذا المقال هو لماذا قرر الخليفة العباسي عبد الله المأمون شد الرحال والعودة إلى بغداد في ربيع الأول من سنة (202هـ). هل هو الشوق والحنين إلى أرض الآباء والأجداد أم أراد أن يتدارك ثورة العباسيين في بغداد أم هناك أمور أخرى أريد لها أن تطمس، بالإضافة إلى ذلك نحاول تسليط الضوء على خلفيات هذا الأمر الخطير. وقبل أن ندخل إلى أعماق هذه القضية لابد لنا من إلقاء نظرة تاريخية سريعة على مدينة (مرو) التي أصبحت ضرة بغداد الثانية بعد أن اختطفت التاج العباسي منها لمدة من الزمن.
مدينة مرو:
تقع مدينة (مرو) في إقليم خراسان الذي كان يضم أربع مقاطعات كبيرة وهي: (نيشابور، بلخ، مرو الشاهجان، ما وراء النهر). وتقع اليوم في الجنوب الشرقي من دولة تركمنستان بعد انفصالها عن الإتحاد السوفيتي وتسمى أيضاً (ماري) وهي تسمية حديثة أطلقها الشيوعيون عليها من أجل طمس الأسماء التي كان لها تاريخ عريق في زمن الإسلام.
مدينة (مرو) مدينة قديمة البناء يقال أنها من بناء الاسكندر ذو القرنين وروي عن بريدة بن الحصيب أحد أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله) أنه قال: قال لي رسول الله(صلى الله عليه وآله): يا بريدة إنه سيبعث من بعدي بعوث فإذا بعثت فكن في بعث المشرق ثم كن في بعث خراسان ثم كن في بعث أرض يقال لها (مرو) إذا أتيتها فانزل مدينتها فإنه بناها ذو القرنين وصلى فيه عزير، أنهارها تجري بالبركة، على كل نقب فيها ملك شاهر سيفه يدفع عن أهلها السوء إلى يوم القيامة.
فقدمها بريدة غازياً وأقام بها إلى أن مات هناك وقبره بها إلى الآن معروف عليه راية رأيتها ـ المقصود بالمتحدث هو ياقوت الحموي(1) ـ .
انطلقت جيوش المسلمين لفتح بلاد المشرق بعد وفاة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) وفي سنة (31هـ) أخضعت مدينة (مرو) لحكم الإسلام بقيادة الأحنف بن قيس ويقال أن حاتم النعمان الباهلي هو الذي فتحها وكان تحت قيادة عبد الله بن عامر بن كريز الذي اتخذها مقراً للحكم فكانت دار الإمارة أبان الفتوح الإسلامية لخراسان(2). وفي (مرو) أربعة مراقد من قبور الصحابة منهم (بريدة بن الحصيب) و(الحكم بن عمرو الغفاري) و(سليمان بن بريدة)(3).
أخذت مدينة (مرو) تتسع شيئاً فشيئاً حتى تغلب أبو مسلم الخراساني عليها في سنة (130هـ) ودخلها فاتحاً ونزل دار الإمارة ودعا هناك الناس إلى البيعة. وكان نص البيعة: (أبايعكم على كتاب الله وسنة رسوله محمد(صلى الله عليه وآله) وميثاقه والطلاق والعتاق والمشي إلى بيت الله الحرام وعلى أن لا تسألوا رزقاً ولا طمعاً حتى يبتدئكم به ولاتكم) فبايعه الناس على ذلك فجعل مدينة (مرو) مقراً له(4).
وفي سنة (183هـ) بويع لعبد الله المأمون بن هارون الرشيد بولاية العهد بعد أخيه الأمين فولاه الرشيد إمارة خراسان، ولما خرج رافع بن الليث على الرشيد سار إليه بنفسه وعهد إلى ابنه المأمون أن ينزل في (مرو) ويباشر بنفسه قمع ثورة رافع بن الليث فتولى المأمون الأمر إلى أن توفي الرشيد بـ(طوس) سنة (193هـ). وبويع لابنه محمد الأمين بالخلافة ببغداد، فأصبحت (مرو) عاصمة القسم الشرقي من الدولة بوجود المأمون فيها وقد أخذت البيعة فيها للأمين ولكن لم يمر بعض الوقت حتى دب الخلاف بين الأخوين الأمين (الخليفة) والمأمون (ولي العهد) ونشبت بينهم الحرب حتى تمكن المأمون من السيطرة على الخلافة بعد قتل أخيه الأمين فأصبحت (مرو) عاصمة الدولة العباسية.
وفي سنة (200هـ) أرسل المأمون العباسي مبعوثه (رجاء بن أبي الضحاك) و(فرناس الخادم) لإحضار الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) إلى (مرو) وأمره بالمسير عن طريق البصرة فالأهواز ففارس فنيشابور حتى سرخس ثم (مرو).
وفي 10 (جمادى الثاني) (201هـ) تشرفت مدينة (مرو) بنزول الإمام الرضا(عليه السلام) مع عمه محمد بن الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) قائد ثورة مكة والمدينة والثوار العلويين الذين نهضوا معه ضد المأمون العباسي، وفي شهر (رمضان المبارك) جعل المأمون العباسي الإمام الرضا(عليه السلام) ولياً لعهده فأصبحت (مرو) بذلك عاصمة الإمامة وعاصمة الخلافة الإسلامية(5).
من أعلام (مرو) المشهورين (الإمام أحمد بن حنبل، بشر الحافي، عبد الكريم السمعاني صاحب كتاب (الأنساب)، إسحاق بن راهوية، القاضي يحي بن الأكثم… وغيرهم).
خلفيات الحدث:
قبل الحديث عن كيفية العودة وما هي أسبابها لابد لنا من إلقاء نظرة عن أهم الأحداث التي تلت بيعة الإمام الرضا(عليه السلام) في شهر (رمضان) المبارك من سنة (201هـ) والتي سبقت شهر (صفر) من سنة (202هـ) فنقول:
في أول يوم من شهر (شوال) وافق الإمام الرضا(عليه السلام) بعد إلحاح المأمون الشديد على الخروج لصلاة العيد بعد أن شرط الإمام(عليه السلام) عليه أن يخرج كما كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يخرج لصلاة العيد وجميع أهل (مرو) يتفاعلون بحماس مع الإمام الرضا(عليه السلام) والمأمون يأمر بإرجاع الإمام الرضا(عليه السلام) قبل أن يصل إلى المحراب خشية أن تنقلب الموازين عليه.
الإمام الرضا(عليه السلام) يصلي بالناس صلاة الاستسقاء بعد أن أصاب مدينة (مرو) الجفاف والسماء تستجيب لدعوة الإمام(عليه السلام) وتنزل ببركاتها على أهل (مرو).
أصحاب الإمام الرضا(عليه السلام) يتوافدون على مدينة (مرو) من أجل تهنئة الإمام الرضا(عليه السلام) بولاية العهد.
المأمون العباسي يجمع كبار العلماء ورؤساء المذاهب والأديان وأصحاب المقالات من أجل مناظرة الإمام الرضا(عليه السلام) وإفحامه والإمام الرضا(عليه السلام) يخرج منتصراً وألقم الجميع الحجج البالغة.
الإمام الرضا(عليه السلام) يتبرع بجميع أمواله إلى فقراء أهل (مرو) في يوم عرفة.
المأمون العباسي يموت غيظاً وحسداً من الإمام الرضا(عليه السلام) فقد حاز على شعبية واسعة جداً في مدينة (مرو) خلال فترة قصيرة فكان الناس يتوافدون على بابه أكثر من وقوفهم على باب المأمون. وهو يعترف بنفسه بوجود هذه الخصلة فيه حيث يقول: (إن فينا ـ معشر الملوك ـ محكاً وحسداً واستئثار)(6).
هذه الخصلة ـ الحسد ـ دفعت بالمأمون إلى التهور في اتخاذ بعض القرارات منها القرار الذي أمر بطرد جميع الناس الواقفين على باب الإمام الرضا(عليه السلام) والذين بلغوا ثلاثمائة وستون رجلاً من أصحابه وشيعته. جاء في الخبر عن أبي الصلت الهروي قال: رفع إلى المأمون أن أبا الحسن علي بن موسى الرضا(عليه السلام) يعقد مجالس الكلام، والناس يفتتنون بعلمه فأمر محمد بن عمر الطوسي حاجب المأمون، فطرد الناس عن مجلسه وأحضره، فلما نظر إليه المأمون زجره واستخف به، فخرج الإمام الرضا(عليه السلام) من عنده مغضباً وهو يدمدم بشفتيه ويقول: وحق المصطفى والمرتضى وسيدة النساء لاستنزلن من حول الله تعإلى بدعائي عليه، ما يكون سبباً لطرد كلاب أهل هذه الكورة إياه، واستخفافهم به وبخاصته وعامته.
ثم أنه انصرف إلى مركزه، واستحضر الميضأة وتوضأ، وصلى ركعتين وقنت في الثانية، فقال: (اللهم يا ذا القدرة الجامعة، والرحمة الواسعة… إلى أخر الدعاء حيث قال: يا علي يا رفيع صل على من شرفت الصلاة بالصلاة عليه، وانتقم لي ممن ظلمني واستخف بي، وطرد الشيعة عن بابي، وأذقه مرارة الذل والهوان كما أذاقنيها، واجعله طريد الأرجاس، وشريد الأنجاس).
قال أبو الصلت الهروي: فما استتم مولاي(عليه السلام) دعاءه، حتى وقعت الرجفة في المدينة، وارتج البلد، وارتفعت الزعقة والصيحة، واستفحلت النعرة، وثارت الغبرة، وهاجت القاعة، فلم أزايل مكاني إلى أن سلم مولاي(عليه السلام). فقال لي(عليه السلام): يا أبا الصلت، اصعد السطح، فإنك سترى امرأة بغية عثة رثة، مهيجة الأشرار، متسخة الأطمار، يسميها أهل هذه الكورة (سمانه) لغباوتها وتهتكها. قد أسندت مكان الرمح إلى نحرها قصباً، وقد شدت وقاية لها حمراء إلى طرفه مكان اللواء، فهي تقود جيوش القاعة، وتسوق عساكر الطغام إلى قصر المأمون. ومنازل قواده، فصعدت السطح فلم أر إلا نفوساً تنتزع بالعصي، وهامات ترضخ بالأحجار، وقد رأيت المأمون متدرعاً، قد برز من قصر الشاهجان، متوجهاً للهرب، فما شعرت إلا بـ (شاجرد) الحجام، قد رمى من بعض أعالي السطوح بلبنة ثقيلة فضرب بها رأس المأمون، فأسقطت بيضته بعد أن شقت جلدة هامته.
فقال لقاذف اللبنة بعض من عرف المأمون: ويلك هذا أمير المؤمنين.
فسمعت سمانة تقول: أسكت لا أم لك، ليس هذا يوم التمييز والمحاباة، ولا يوم انزال الناس على طبقاتهم.
فلو كان هذا أمير المؤمنين لما سلط ذكور الفجار على فروج الأبكار، وطرد المأمون وجنوده أسوأ طرد بعد إذلال واستخفاف شديد، ونهبوا أمواله(7).
بعد هذه الثورة التي قام بها الغوغائيين وأوغاد الناس أدرك المأمون جيداً بأن هذا الأمر جاء نتيجة استخفافه بالإمام الرضا(عليه السلام) وأدرك أنه أخطأ في حقه وبعد أن أخمدت هذه الثورة قبض على كبار رجالها ومحرضيها وأمر المأمون بصلب أربعين رجلاً منهم وحبس الباقين، وأمر أن يطول جدرانهم، وأرضى دهقان مدينة (مرو) بشيء من المال. كانت هذه الحادثة هي الانطلاقة الأولى أو الأرضية المناسبة لفكرة الخروج من خراسان بالنسبة إلى المأمون ولكن يبقى هناك سؤال مهم وهو من هو صاحب فكرة الخروج من خراسان.
فكرة العودة:
تشير المصادر والأخبار أن صاحب فكرة الخروج من خراسان والعودة إلى… هو الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) فبعد هذه الواقعة حاول المأمون أن يجد الفرصة المناسبة أو منفذاً للدخول على الإمام الرضا(عليه السلام) من أجل الاعتذار عما بدر منه فلما وصل إليه كتاب فتح بعض قرى كابل أخذه وتوجه مسرعاً نحو دار الإمام(عليه السلام). جاء في الخبر عن ياسر الخادم قال: فبينا نحن عند الإمام الرضا(عليه السلام) يوماً إذ سمعنا وقع القفل الذي كان على باب المأمون إلى دار أبي الحسن(عليه السلام) فطلب الإمام(عليه السلام) من الخدم أن يتفرقوا فجاء المأمون ومعه كتاب طويل فأراد الإمام الرضا(عليه السلام) أن يقوم فأقسم عليه المأمون بحق رسول الله(صلى الله عليه وآله) ألا يقوم، ثم جاء حتى انكب على أبي الحسن(عليه السلام) وقبَّل وجهه وقعد بين يديه على وسادة، فقرأ ذلك الكتاب عليه فإذا هو فتح لبعض قرى كابل فيه إنا فتحنا قرية كذا وكذا فلما فرغ قال له الرضا(عليه السلام): وسرك فتح قرية من قرى الشرك.
فقال له المأمون: أو ليس في ذلك سرور؟
فقال(عليه السلام): يا أمير المؤمنين اتق الله في أمة محمد(صلى الله عليه وآله) وما ولاك الله من هذا الأمر وخصك به فإنك قد ضيعت أمور المسلمين وفوضت ذلك إلى غيرك يحكم فيهم بغير حكم الله وقعدت في هذه البلاد وتركت بيت الهجرة ومهبط الوحي وأن المهاجرين والأنصار يظلمون دونك ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ويأتي على المظلوم وهو يتعب فيه نفسه ويعجز عن نفقته ولا يجد من يشكو إليه حاله ولا يصل إليك فاتق الله يا أمير المؤمنين في أمور المسلمين وارجع إلى بيت النبوة ومعدن المهاجرين والأنصار أما علمت يا أمير المؤمنين إن والي المسلمين مثل العمود في وسط الفسطاط، من أراده أخذه؟
قال المأمون: يا سيدي فما ترى؟
(قال الرضا(عليه السلام): أرى أن تخرج من هذه البلاد وتتحول إلى موضع آبائك وأجدادك وتنظر في أمور المسلمين ولا تكلهم إلى غيرك فإن الله تعالى سائلك عما ولاك). فقام المأمون فقال: نعم ما قلت يا سيدي! هذا هو الرأي(8).
فخرج المأمون وأمر أن يقدَّم النوائب (المقصود بالنوائب هم الذين يتقدمون الركب مسيرة يوم وليلة ويهيئون المكان لحين وصول الركب إليهم).
نلاحظ من خلال النص السابق أن الإمام الرضا(عليه السلام) هو من وضع الأساس الأول لهذه الفكرة وكان رأي الإمام(عليه السلام) مبني على أساس العودة إلى المدينة المنورة وجعلها عاصمة المسلمين لأن الإمام(عليه السلام) يدرك جيداً بأن المأمون لا يستطيع العودة في هذا الوقت إلى بغداد وخصوصاً بعد قتل أخيه الأمين وتنصيب الإمام الرضا(عليه السلام) ولياً للعهد والأمر الثاني هو أن المدينة المنورة تقع في قلب العالم الإسلامي على العكس من مدينة (مرو) التي تقع في أقصى الشرق فكأن الإمام الرضا(عليه السلام) يفكر في مصلحة المسلمين كافة فالكثير منهم كانوا يشكون من جور وظلم ولاة بني العباس وقد اقتنع المأمون بهذه الفكرة في بداية الأمر وبالأخص بعد الثورة التي قام بها الغوغائيين والتي أوجدت الأرضية المناسبة لهذه الفكرة لولا تدخل الفضل بن سهل وزير المأمون الأعظم.
المعارضون لفكرة الرجوع:
أمر الخروج من خراسان لم يرق للفضل بن سهل فقد كان من أشد المعارضين لهذه الفكرة سواء كان للمدينة أو لأي مكان آخر بسبب كونه من أهل خراسان فهو قوي عزيز بين عشيرته وقومه وما أن سمع بهذا الخبر وتقديم النوائب ذهل وأصابه غم شديد وتوجه من فوره إلى المأمون من أجل أن يثنيه عن عزمه في الخروج من خراسان وكان المأمون لا يرد له طلباً ولما حضر الإمام الرضا(عليه السلام) إلى خراسان أخذ المأمون يقوى بالإمام الرضا(عليه السلام) في مخالفته فقد جاء في الخبر (… فجاء ذو الرياستين إلى المأمون فقال له: يا أمير المؤمنين ما هذا الرأي الذي أمرت به؟
قال: أمرني سيدي أبو الحسن(عليه السلام) بذلك وهو الصواب.
فقال الفضل: يا أمير المؤمنين ما هذا الصواب؟ قتلت بالأمس أخاك وأزلت الخلافة عنه وبنو أبيك معادون لك وجميع أهل العراق وأهل بيتك والعرب، ثم أحدثت هذا الحدث الثاني إنك وليت ولاية العهد لأبي الحسن وأخرجتها من بني أبيك والعامة والفقهاء والعلماء وآل العباس لا يرضون بذلك وقلوبهم متنافرة عنك، فالرأي أن تقيم بخراسان حتى تسكن قلوب الناس على هذا ويتناسوا ما كان من أمر محمد أخيك.
ثم خرج الفضل بن سهل من عند المأمون وأمر بالنوائب أن ترد فردت.
نلاحظ من خلال ما سبق بأن الفضل بن سهل حاول إثناء المأمون عن أصل الفكرة وصب جميع فكره نحو بغداد والمخاوف التي ستواجه المأمون فيها. هذا الأمر جعل من المأمون يفكر ملياً في إزالة جميع العوائق في طريقه نحو بغداد وصرف ذهنه عن المدينة المنورة ولو قنع الفضل بن سهل بأمر المدينة لكان أمن له مما سيواجهه في الطريق إلى بغداد.
وبعد أن سمع الإمام الرضا(عليه السلام) بهذا الأمر دخل على المأمون فقال(عليه السلام): ما صنعت يا أمير المؤمنين بتقديم النوائب؟
فقال المأمون: يا سيدي مرهم أنت بذلك؟
فخرج الإمام الرضا(عليه السلام) وصاح بالناس قدموا النوائب. يقول الراوي عندما قال الإمام الرضا(عليه السلام) ذلك (فكأنما وقعت فيهم النيران، فأقبلت النوائب تتقدم وتخرج).
محاولة يائسة:
أدرك الفضل بن سهل خطورة الموقف وخصوصاً بعد فشل محاولته في إثناء المأمون عن عزمه في الخروج من خراسان فأخذ يسعى في محاولة أخرى من أجل إنقاذ موقفه. وهذه المرة فكر في تدبير مؤامرة لقتل المأمون وحاول استدراج الإمام الرضا(عليه السلام) في هذه القضية فقصده مع رفيقه هشام بن إبراهيم، روى الشيخ الصدوق(رضي الله عنه): (قصد الفضل بن سهل مع هشام بن إبراهيم الإمام الرضا(عليه السلام) فقال له: يا ابن رسول الله جئتك في سر، فأخل لي المجلس.
فأخرج الفضل يميناً مكتوبة بالعتق والطلاق، وما لا كفارة له، وقالا له: إنما جئناك لنقول كلمة حق وصدق، وقد علمنا أن الإمرة إمرتكم والحق حقكم يا ابن رسول الله والذي نقول بألسنتنا عليه ضمائرنا، وألا نعتق ما نملك والنساء طوالق، وعليَّ ثلاثون حجة راجلاً أنا على أن نقتل المأمون، ونخلص لك الأمر حتى يرجع الحق إليك.
فلم يسمع الإمام(عليه السلام) منهما وشتمهما ولعنهما وقال لهما: كفرتما النعمة فلا تكون لكما سلامة ولا لي إن رضيت بما قلتما.
فلما سمع الفضل ذلك منه مع هشام، علما أنهما أخطأ!
فقصدا المأمون بعد أن قالا للرضا(عليه السلام): أردنا بما فعلناه أن نجربك.
فقال لهما الرضا(عليه السلام): كذبتما، فإن قلوبكما على ما أخبرتماني به إلا أنكما لم تجداني نحو ما أردتما.
فلما دخلا على المأمون قالا: يا أمير المؤمنين، إنا قصدنا الرضا وجربناه، وأردنا أن نقف على ما يضمره لك، فقلنا وقال.
فقال المأمون: وفقتما.
فلما خرجا من عند المأمون قصده الرضا(عليه السلام) وأخليا المجلس وأعلمه ما قالا وأمره أن يحفظ نفسه منهما، فلما سمع ذلك من الرضا(عليه السلام) علم أن الرضا(عليه السلام) هو الصادق.
الأمل الأخير:
بعد أن باءت جميع محاولات الفضل بن سهل بالفشل قعد في منزله وأبى الخروج مع الركب، فأرسل إليه المأمون فأتاه، فقال له: ما لك قعدت في بيتك؟
فقال الفضل: يا أمير المؤمنين، إن ذنبي عظيم عند أهل بيتك وعند العامة. والناس يلومونني بقتل أخيك المخلوع وبيعة الرضا(عليه السلام) ولا آمن السعاة والحساد وأهل البغي أن يسعوا بي، فدعني أخلفك بخراسان.
فقال له المأمون: لا نستغني عنك، فأما ما قلت أنه يُسعى بك، ويُبغى لك الغوائل، فليس أنت عندنا إلا الثقة المأمون، الناصح المشفق، فاكتب لنفسك ما تثق به من الضمان والأمان، وأكد لنفسك ما تكون به مطمئناً.
فذهب وكتب لنفسه كتاباً وجمع عليه العلماء، وأتى به المأمون فقرأه وأعطاه المأمون كل ما أحب. كان المأمون يدرك جيداً بأن الفضل يتمتع بذهنية عالية وكذلك يعلم أنه يطمع في العرش لذلك خشي إن ترك الفضل في خراسان أن ينقلب عليه وخصوصاً بعد ثورة الغوغائيين. وبعد هذه المحاولات خرج المأمون عائداً إلى بغداد لكنه كان متخوفاً من الوصول إليها فكان عليه أن يعيد الحسابات من جديد وبدقة متناهية فكتب لهذه الرحلة أن تدوم عامين كاملين من أجل تصفية جميع الحسابات في الطريق إلى بغداد ولو كان الطريق إلى المدينة المنورة كما أشار إليه الإمام الرضا(عليه السلام) لأمن الجميع من بطش المأمون.
نشرت في العدد 11

(1) ياقوت الحموي، معجم البلدان.
(2) فتوح البلدان للبلاذري، تاريخ اليعقوبي، معجم البلدان.
(3) مراقد المعارف ج1 لحرز الدين.
(4) نظام الحكم في الإسلام.
(5) شرح الأخبار ج3.
(6) آداب الملوك ص50 للثعالبي.
(7) عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، مناقب آل أبي طالب لابن شهراشوب، المجتبى من الدعاء.
(8) عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، عوالم الإمام الرضا(عليه السلام) ص362.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.