أنماط الشخصية العراقية الحالية وآفاق الوحدة المجتمعية

300

timthumb فارس كمال نظمي

يتردد اليوم على نحو واسع، سؤال تحليلي – أخلاقي، تتداوله أوساط النخبة والعوام على حد سواء، داخل العراق وخارجه: ((هل الفرد العراقي مسؤول عما لحق ببلاده من تشظ ودمار؟)).

إن أي مجتمع بشري يتعرض لأزمة وجود ومصير عميقة، لا بد من أن يصنف من الناحية السيكولوجية إلى أنماط متنوعة بل ومتناقضة أحياناً من الشخصيات السائدة فيه، ولا معنى لتعميم نمط واحد من الشخصيات أو السلوكيات على كل أفراده. وبمعنى أدق، إن المجتمع بمعناه السوسيولوجي هو المصنع التأريخي لأنماط متباينة ومتنافسة من الشخصيات الاجتماعية في لحظة زمانية معينة. فما الذي يحدث اليوم في مجتمعنا العراقي؟

يمكن القول، وباختزال مقصود لأغراض التحليل والبحث (مستثنياً من هذا التحليل “الشخصية العراقية المقاومة” سواء تلك التي كافحت ضد الفاشية السابقة أو تكافح اليوم ضد الاحتلال الأجنبي والظلم الاجتماعي بشتى أنواع الكفاح)، إن مجتمعنا بات يتألف من شخصيتين رئيستين: “شخصية هدمية عدوانية”، و”شخصية بنـّاءة مسالمة”، دون تجاهل حقيقة أن كلا هاتين الشخصيتين لها شخصياتها الفرعية العديدة.

الشخصية العراقية

الهدمية العدوانية

تبلورت هذه الشخصية تدريجياً خلال نصف قرن من الانقلابات والاستبداد والحروب والاحتلال، بوصفها نتاجاً مباشراً للفعل السياسي السادي الذي بوشر بممارسته ضد الفرد العراقي بعد شهور قليلة من قيام النظام الجمهوري وحتى اليوم. وهذه الشخصية، وإن تنوعت انماطها الفرعية النشوئية، إلا إنها تشترك على المستوى الانفعالي – السلوكي بتركيبة متناقضة من العناصر السادو – ماسوشية الممتزجة:

– إنها تغلـب قيم الموت على قيم الحياة في سلوكها، موظفة شعارات “الوطن” و”الدين” و”الواجب” و”الفضيلة” لتبرير أفعالها الهادمة لحياة الآخرين.

– تكره خصومها حد العمل على إفنائهم.

– تتسم بالسايكوباثية، أي ضعف الضمير، وعدم الاتعاظ بالتجارب، والاندفاع والتهور.

– لا تحقق توازنها النفسي أو رضاها الانفعالي إلا عبر مشاهد التدمير والقتل وهدم الحياة.

– أي لباس ايديولوجي ترتديه هو قشرة دفاعية ظاهرية تخبئ تحته منظومة متسقة من الميكانزمات العدوانية الموجهة نحو ذاتها أو نحو الآخرين، والتي يحركها الاحباط اللاشعوري العميق، بوصفه العنصر التكويني الأبرز لهذه الشخصية.

أما الأنماط الفرعية لهذه الشخصية الهدامة فيمكن تحديدها بوضوح من خلال العودة للعوامل السوسيو– سياسية التي أدت الى نشوئها وتطورها:

  1. الشخصية الهدمية الفاشستية: نشأت على مدى أربعين عاماً في أقبية المؤسسة الأمنية والسياسية للنظام الفاشي السابق. تحكمها عقدة الاضطهاد والشك، ولا تجد أي امكانية لاستعادة شعورها بالأمن النفسي المفقود إلا بإقصاء الآخرين وايلامهم وإفنائهم. وهي لا تزال في أوج نشاطها اليوم، بعد أن استبدلت وجهها القوموي السابق بأقنعة متأسلمة جديدة، إذ وفر لها الوضع السياسي الجديد امكانية واعدة لاستمرار اضطرابها النفسي، ودون أي محاولة موضوعية لإعادة تأهيلها والحد من هدميتها.

  2. 2 الشخصية الهدمية “الارهابية”: تركيبة نفسية مستحدثة منذ بدء الاحتلال الأميركي للعراق في نيسان 2003، نتجت عن تلاقح بيضة “الإرهاب” (مع التحفظ على هذا المصطلح) المستنسلة اصطناعياً في مختبرات أنظمة الجوار، بحيمن العولمة الأميركية المتوحشة التي لا تجد في العراق أكثر من حساب مصرفي مغلق ينبغي اختراق شفرته مخابراتياً عبر كسر شوكة بنيته البشرية الموحدة. ولهذه الشخصية امتداداتها النسيجية مع الشخصية الأولى (الهدمية الفاشستية) بزوغاً وديمومة ومصيراً، إذ تحكمها عقدة الولاء للجمود، والرعب من التطور وتكفيره، والافتتان بعقيدة تقريب الموت من الجميع، فشعارها الضمني: ((عليّ وعلى أعدائي)).

  3. الشخصية الهدمية الطائفية: تبلورت ملامحها ببطء نسبي خلال الأعوام الثلاثة التي اعقبت الاحتلال، ثم برزت بجلاء في بداية العام الرابع الذي نشهد اليوم نهايته. كان لفرق الموت التي أنشأها “نيغرو بونتي” اثناء تقلده منصب سفير الولايات المتحدة في العراق على غرار فرق الموت التي سبق أن أسسها في السلفادور في ستينات القرن الماضي، الفضل الأكبر في المباشرة بنشوء هذا النمط من الشخصيات، وعبر تكنيك بسيط جداً: ((بعد أن تنجح بتأسيس نظام سياسي طائفي البنية، عليك أن تبدأ بقتل عدة عشرات من أفراد ينتمون لطائفة معينة يومياً وترمي جثثهم الممزقة في مناطق تسكنها أغلبية من الطائفة الأخرى، والعكس بالعكس، ثم تفتعل في الوقت نفسه اعتداءات مدفوعة الثمن على معابد مقدسة تعود لكلا الطائفتين)). فحدث الاستدراج المنتظر، وانخرطت أعداد محدودة ولكن مؤثرة من أفراد الطائفتين بتأثير مصالح السياسيين ضيقي الأفق، في سلوك “ميليشياوي” متطرف هدفه الانتقام الدموي الأعمى من الطائفة الأخرى، دون أي وعي أو دراية منهم بأبسط مبادئ البناء الفقهي لفكر الطائفتين، وما إذا كانت هناك حقاً خلافات عقائدية من أي نوع تستدعي افناء الآخر وتدميره على هذا النحو. وحدث هذا الاستدراج بشكل خاص في القاع الطبقي لأتباع الطائفتين، إذ كلما ازداد الاحباط الشخصي والاجتماعي للفرد وانغلقت أمامه السبل المشروعة للإصلاح واستعادة الحقوق، أصبح أكثر استعداداً للاندفاع اللاعقلاني للتنفيس عن مكبوتاته بالتفتيش عن أي كبش فداء بديل يحوّل ضده كل طاقة اليأس والحرمان والذل التي تغلي في اعماقه. أما المفقس الطائفي الأساسي الذي ما برح يديم وظيفة هذه الشخصية ويشجع على تماهي المجتمع بها، فهي المؤسسات الأمنية التي أسسها ضباط الاحتلال ومستشاروه على نحو يراد به قصم ظهر الدولة المدنية العراقية العتيدة وإظهار عجزها أمام التنامي السرطاني لجماعات ما قبل الدولة في أحشائها.

    الصباح

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*