هل تحدد المياه ملامح المشهد السياسي في القرن الحالي؟
337
شارك
الحكمة – متابعة: في ظل ندرة المياه، يرى البعض أن الماء سيصبح سلعة اقتصادية تباع بأسعار تضاهي أسعار النفط. وفي العقود المقبلة، ستؤثر إمدادات المياه على المشهد الجيوسياسي، والتحرك الدبلوماسي، وربما تتسبب في وقوع صراعات بين البلدان.
يقدم فيلم “قدر من العزاء” (كوانتم أوف سولاس) من سلسلة أفلام جيمس بوند الذي صدر عام 2008، العميل السري “007” وهو في مواجهة منظمة إجرامية شديدة الخطورة تسعى بشتى السبل لفرض هيمنتها على العالم.
قد لا يبدو هذا الأمر مستغربا، لكن هذه المنظمة الإجرامية -التي تحمل اسم “كوانتم” في هذا الفيلم – لا تستخدم أسلحة الليزر، أو الصواريخ لنشر الفوضى والدمار، لكنها تضع خطة دنيئة وغير متوقعة تهدف للسيطرة على موارد المياه في بوليفيا.
ربما لا يبدو دور المنظمة في الفيلم واقعيا تماما، لكن هذا الفيلم يطرح تصورا يستدعي التأمل والتساؤل: ماذا يحدث لو قُطعت إمدادات المياه عن دولة ما؟ وما هي التداعيات العالمية لذلك؟
فكر في الأمر: لا شك أننا نحتاج الماء لنبقى على قيد الحياة، لكن الماء أيضا يحرك عجلة الاقتصاد والتجارة، والابتكار، ويدعم الانتعاش الاقتصادي في البلاد.
وقد ظل الماء مصدرا للحياة منذ قديم الأزل، من نهر النيل الذي قامت على ضفافه الحضارة المصرية القديمة، إلى نهر الأمازون الذي يحتضن غابات الأمازون في البرازيل.
وبينما تشكل المسطحات المائية حدودا طبيعية بين دول وبعضها، تتقاسم دول عديدة مياه الأنهار أو البحيرات، إذ يجري نهر النيل على سبيل المثال عبر نحو 12 دولة. وبالنظر إلى الاستعداد الفطري لدى البشر للدخول في صراعات، فمن المدهش أن المياه لم تكن سببا في نشوب معارك بين الدول حتى الآن.
ويقول بعض الخبراء إن السلام العالمي مرهون بضمان حق الدول في الاستفادة من المياه. ولهذا، ربما يصبح الحفاظ على الإدارة السلسة للمياه بين الدول، والحيلولة دون تطور أي نزاعات، من التحديات الكبرى في العقود القليلة المقبلة.
وقد أصبحت موارد المياه العذبة في القرن الحادي والعشرين مهددة بالنضوب، وأدى التغير المناخي إلى زيادة مستويات مياه البحر، وتغيير الحدود بين البلدان، وزاد الضغط على الموارد على إثر النمو السكاني المتسارع، وفي ظل تصاعد النزعة القومية في مختلف أنحاء العالم، باتت العلاقات الدبلوماسية بين البلدان على المحك.
وفي الوقت نفسه، من المتوقع أن يزداد الطلب على المياه بنسبة 55 في المئة في الفترة بين عامي 2000 و2050. وفي القرن المقبل، ستزداد قيمة المياه كمورد عالمي، ويقول البعض إنها ستفوق قيمة النفط.
فما الذي يمكننا أن نفعله لنضمن حق جميع الدول في الاستفادة من موارد المياه، ومن ثم الحفاظ على السلام العالمي؟
السلام العالمي مرهون بوفرة المياه
يمتد دور المياه في تشكيل السياسات لقرون عدة. وتقول زينة تاتا، المدير التنفيذي للتنمية العالمية والتوسع الدولي بمؤسسة “إكس برايز”، التي تنظم في الوقت الحالي مسابقة عالمية للتوصل إلى حلول مبتكرة لإدارة المياه: “رسمت المياه قديما حدودا طبيعية بين الأمم وبعضها، والبلدان وبعضها. لكن المشهد الجيوسياسي اليوم يبدو مختلفا تماما”، ولا يزال ضمان حق الدول في الاستفادة من موارد المياه يمثل أهمية قصوى.
وتمر القنوات المائية عبر دول عديدة، أو ترسم حدود دول أخرى، وتخضع حقوق البلدان الواقعة على ضفافها لما يسمى “بحقوق الدول المتشاطئة في تقاسم مياه الأنهار الدولية”.
وفي حالة الأنهار، تتمتع دول المنبع، التي تقع في أعالي النهر، بقوة وأفضلية، بحكم موقعها، مقارنة بدول المصب. وقد أثيرت خلافات حول هذا الأمر في الكثير من البلدان المتشاطئة على ضفاف الأنهار الدولية، وتقع هذه البلدان في الغالب في مناطق تكثر فيها الاضطرابات بالفعل.
وفي منطقة الشرق الأوسط، يعد حوض نهر الأردن مصدر المياه الرئيسي للكثير من البلدان، منها الأردن وفلسطين وإسرائيل، وهذه المناطق تشهد توترات سياسية منذ وقت طويل. وفي سوريا، ربط البعض بين موجة الجفاف التي وُصفت بأنها الأسوأ منذ نحو ألف سنة، وبين الحرب الأهلية التي غيرت مصير جيل بأكمله في سوريا والتطرف، وهو ما شكّل بيئة خصبة لظهور تنظيم الدولة الإسلامية.
واستمر التجاذب المصري الإثيوبي بشأن استغلال مياه النيل لقرون طويلة، إذ ينبع نهر النيل في إثيوبيا وينتهي في مصر، وهذا العامل يؤسس لعلاقة عدائية بين البلدين. وفي عام 2015، نحّى البلدان الخلافات جانبا للتوصل إلى اتفاق لبناء سد النهضة على نهر النيل، وهو أكبر سد في أفريقيا، ومن المتوقع أن يدشن في يوليو/تموز من العام الحالي. كما وقع البلدان اتفاقا في محاولة لضمان الاستخدام المنصف لمياه النيل.
وتشير تاتا إلى التحديات المشابهة التي تواجهها الكثير من الأسواق الناشئة والمتطورة، وتقول: “وقعت كل من ماليزيا وسنغافورة اتفاقا مدته 99 عاما، على سبيل المثال، تحصل بموجبه سنغافورة على حصة مدفوعة من المياه العذبة من نهر جوهور. ويرى البعض أن سنغافورة أحد البلدان الأسرع تطورا في العالم، لكن الصناعة والتجارة والثقافة في هذا البلد ستصاب بالشلل إذا لم تلبي موارد المياه العذبة احتياجات السكان”.
وبحسب معهد “باسيفيك”، وهو معهد بحثي غير ربحي في كاليفورنيا يوفر معلومات عن موارد المياه، نشبت صراعات عديدة ذات صلة بالمياه حول العالم منذ عام 2000 قبل الميلاد وحتى وقتنا هذا.
فكيف نكفل التوزيع العادل للمياه بين جميع الدول لنحافظ على السلام العالمي نسبيا في القرن الحادي والعشرين؟ إن الإجابة عن هذا السؤال لا تكمن في تحكم بعض الدول في إمدادات المياه لدول أخرى، فيما يسمى بـ”حروب المياه”، إنما تكمن في الطريقة التي ستصّدر بها الدول الأكثر ثراء بالموارد المائية والغذائية هذه الإمدادات إلى الدول الأخرى.
تقاسم إمدادات المياه
يقول أرون وولف، أستاذ الجغرافيا في جامعة أوريغون، والمتخصص في السياسة البيئية وإدارة موارد المياه، إننا نشهد في القرن الحادي والعشرين ثلاثة تحديات رئيسية ذات صلة بالمياه.
أولها وأكثرها وضوحا هو شحّ المياه، فإن عدد الوفيات جراء نقص المياه الآمنة والصالحة للشرب لا يقل عن عدد وفيات الملاريا، وفيروس نقص المناعة البشرية الذي يؤدي إلى مرض الإيدز.
ويضيف أن التحدي الثاني هو المآلات السياسة لندرة المياه. ففي سوريا على سبيل المثال، أدت موجة الجفاف التي غيرت مجرى التاريخ إلى نزوح الكثيرين إلى المدن، وزادت على إثر ذلك أسعار الطعام، ومن ثم تصاعدت حدة التوترات التي كانت تعاني منها البلاد بالفعل، ما أدي إلى ظهور ما يسمى بـ “لاجئي الطقس”، الذين ينتقلون إلى بلدان أخرى بحثا عن أماكن تتوفر فيها المياه، وربما يكون هذا العامل هو الذي ذكى جذوة التوتر السياسي في البلاد.
والتحدي الثالث، والذي يقول خبراء إنه لم يُكشف عن حجمه الحقيقي، هو جريان المياه عبر حدود البلدان، الذي تنظمه النصوص الخاصة بحقوق البلدان المتشاطئة.
ويقول وولف إن ما يثير الاستغراب أن هذا التحدي الأخير تحديدا، هو الجانب الأكثر إشراقا من المشهد، إذ أن المياه التي تجري عبر الحدود لم تكن سببا في وقوع معارك عنيفة بين البلدان إلا فيما ندر.
التحدي الأكبر: النهوض بدبلوماسية المياه
رغم ما نقرأه من عناوين مقلقة عن “حروب المياه”، فإن القرن الحادي والعشرين يحمل في طياته الكثير من التهديدات الجديدة والفريدة، التي تعرقل المساعي التي تُبذل للحيلولة دون نشوب نزاعات حول وفرة المياه واستخدامها بين الدول وبعضها، فيما يسمى بدبلوماسية المياه.
ولهذا السبب، يساعد وولف بجامعة أوريغون، في تنظيم برنامج حول سبل إدارة صراعات المياه، يسعى لرصد الأماكن التي قد تتصاعد فيها حدة التوترات بين البلدان حول المياه في السنوات الثلاثة إلى الخمسة القادمة.
وتحاول أفغانستان على سبيل المثال أن تستغل موقعها في منطقة أعالي النهر لتنمية أوضاعها الاقتصادية. وبالطبع يمثل النفوذ السياسي المستمد من موارد المياه، مثل نهر كابول، فرصة سانحة لدولة عانت على مدار عقد من الزمن من الحروب والاضطرابات.
ولهذا، زاد حرص الباحثين والأساتذة الجامعيين على رفع الوعي بالمساعي الدبلوماسية بين الدول لحل مشكلات المياه، وليس أثر المياه على السياسة فحسب. وعلى الرغم من أن المياه قد تكون سببا محتملا لنشوب صراعات، فإنها أيضا قد تعزز من التعاون الدولي.
يقول وولف: “نحن نُعدّ جيلا من الدبلوماسيين القادرين على حل مشكلات المياه”.
هل تمثل زيادة أجور المزارعين أحد الحلول؟
في ضوء التغيرات التي طرأت على المشهد السياسي بسبب الموارد المائية، يذكّرنا الخبراء بأن الماء لا يوجد في الأنهار والبحيرات والمحيطات فحسب، إذ تحتوي التربة أيضا على مياه.
ويستخدم المزارعون هذه التربة في زراعة الخضروات والمحاصيل وتغذية الماشية. وينتقل الماء من التربة إلى المنتجات، سواء كانت قمحا أو لحما، عن طريق الرعي وتربية الماشية، قبل أن تُشحن من الدول ذات الفائض المائي إلى الدول التي تعاني من نقص في الموارد المائية.
وتعرف هذا المياه بـ”المياه الافتراضية”، وهو مصطلح صاغه جون أنتوني ألان من جامعة كينغز كوليدج بلندن، والمتخصص في قضايا المياه والسياسة والزراعة، من بين تخصصات أخرى. وستلعب “المياه الافتراضية” دورا محوريا في القرن الحادي والعشرين.
وباحتساب كميات المياه الافتراضية، فإن المزارعين يوفرون كميات كبيرة من المياه في سلسلة الإمداد حتى تصل المنتجات إلى المستهلك. ويمثل الماء الذي استخدم في إنتاج السلع المستوردة أهمية كبيرة للبلدان التي تعاني نقصا في المياه. وفي أوروبا وحدها، يوجد 40 في المئة من حجم المياه الافتراضية خارج القارة.
لكن المشكلة أن المزارعين يتلقون أجورا زهيدة رغم أهمية الدور الذي يقومون به في توفير المياه الافتراضية. وعندما يصل الطعام إلى الدولة المستوردة، يدعم السياسيون في هذه البلاد السلع الغذائية لتثبيت أسعارها، وذلك للحفاظ على هدوء المواطنين الذين يفترضون توافر الطعام على أرفف المتاجر.
يقول ألان: “تبذل الحكومات قصارى جهدها لضمان توفير الطعام في الأسواق بأسعار معقولة. وتوجد تدابير فعالة لتخفيض أسعار السلع، إذ تواجه الحكومات ضغوطا لتثبيت أسعار الطعام”.
وتبيع الدول التي لديها فائض مائي، مثل الولايات المتحدة وكندا، هذه المنتجات للبلدان التي تعاني نقصا في الماء بأسعار منخفضة.
وهناك أكثر من 60 في المئة من الدول – من نحو 220 دولة في العالم – تستورد أغلب احتياجاتها من الطعام من الخارج، أي أن هناك 160 دولة تعتمد على الطعام المستورد والماء المستخدم في إنتاجه.
ويقول آلان: “هذه التجارة في الماء الافتراضي هي التي ساعدت في الحفاظ على السلام العالمي، إذ تسهم في حل مشاكل المياه في صمت. ولا يريد الساسة أن يعترفوا بأن التجارة في المياه الافتراضية هي الحل لمشاكل المياه، حتى ينسب الفضل إلى إداراتهم السديدة للبلاد”.
ولهذا، فإن التحدي المقبل لا يتمثل في ضمان إدارة الموارد المائية بين الدول بسلام وبمراعاة القوانين لتلبية الاحتياجات المتزايدة للنمو السكاني فحسب، إنما يتمثل أيضا في مساعدة المزارعين الذين يعيشون في البلدان ذات الفائض المائي ليؤدوا دورهم بنجاح، وإدارة المياه الافتراضية وتوزيعها في الأماكن الأكثر جفافا.
لا ننكر أن الدول تريد الحصول على الطعام بأسعار منخفضة، لا سيما في الأماكن التي يقل فيها دخل المواطنين. لكن هذا لا يمنع أن الشعوب يجب أن تدرك أهمية هذه الصادرات والواردات ودبلوماسية المياه في الحفاظ على السلام، في ظل التوزيع غير المتكافئ لموارد المياه بين البلدان.
ورغم أن السيطرة على موارد المياه على النحو الذي ظهر في فيلم جيمس بوند لا تبدو واقعية تماما، فإن ضمان حق جميع البلدان في الاستفادة من موارد المياه يمثل أحد التحديات الحقيقية التي نواجهها بالفعل.
وسنشعر بأهمية النفوذ السياسي للمياه كلما استخدمناها لنروي بها عطشنا أو لزراعة محاصيلنا. فالمياه تجري في الأرض منذ آلاف السنين، وسنحافظ عليها من النضوب.