الإمام جعفر الصادق عليه السلام وفاجعة استشهاده

364

هو الإمام السادس من أئمة أهل البيت عليهم السلام وهو جعفر بن الامام محمد بن الامام علي بن الامام الحسين بن الامام علي بن ابي طالب عليه السلام وامه هي السيدة الفاضلة الزكية أم فروة وهي من افضل نساء عصرها وهي عالمة تقية ذات شرف وفضل وقد ولد عليه السلام في سنة 83 للهجرة ونشأ في رعاية والده وجده الامام علي بن الحسين زين العابدين وورث علمهما وفقههما وأخلاقهما العظيمة وحكمتها المنيرة وتسلّم الامامة في سنة 114للهجرة بعد وفاة والده واستمرت مدة إمامته الى سنة 132للهجرة.
وامتاز عصر الامام الصادق عليه السلام بفترة من الزمن انشغلت فيها الدولة العباسية الفتية حينها بتتبع بقايا الدولة الاموية ومحاربتها وحيث انشغل حينئذ الحكام العباسيون الأمويون عن تتبع الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام فاستثمر الامام عليه السلام تلك الفرصة لنشر مختلف العلوم فبدأ بتدريس طلبته الذين كانوا يقدّرون بالآلاف وعلمهم مختلف العلوم كالعلوم الفقهية والقرآنية وحكمة الوجود والطب والكيمياء والمناظرات وبرز لديه الكثير من الطلبة ومنهم يحيى بن سعيد، وزرارة بن أعين وجميل بن دراج، ومحمد بن مسلم، واسحاق بن عمار، وأبو بصير، وعبد الله الحلبي، وأبان بن تغلب، والفضيل بن يسار،وسفيان الثوريّ، وأبو حنيفة، ومالك بن أنس، ومحمد بن الحسن الشيباني، وسفيان بن عيينه وكذلك المفضّل بن عمر والذي وله الكتاب المشهور (توحيد المفضّل) وهشام بن الحكم الذي كان هو البارز في المناظرات والعالم الكبير جابر بن حيان الكوفيّ الذي برز بعلم الكيمياء وكذلك ابو حنيفه النعمان، وبهذا اراد الامام عليه السلام ان ينشر نور العلم في العالم الاسلامي والعالم الانساني ليبني بذلك عقل الانسان بناءً رصينا ويوصل الإنسانية الى الكمال الّائق بها وحيث الإنسان نواة المجتمع الإنساني، وقد تصدى الإمام عليه السلام لظاهرة التيارات الفكرية المنحرفة ولاسيما تلك التي تضرب بإنحرافها عمقا دينيا سواء أكان عقائديا كالجبر والتوفيض حيث صرح الإمام عليه السلام فيما روي عنه بأنه (لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين) وكذلك افكار الإلحاد والزندقة وكذلك الإعتزال الذي تطرّف اليه الخوارج أم كان فقهيا كالقياس بالرأي وأبطل بذلك آراء جميع المنظرين لهذه التيارات الفكرية الخاطئة، وبهذا يمكن القول ان الامام عليه السلام اسس جامعة علمية متكاملة يمكن تسميتها بجامعة أهل البيت عليهم السلام والتي توفر جميع العلوم التي يحتاجها الانسان وتضمن إثبات بطلان افكار وأراء المنظرين للتيارات الفكرية المخالفة لها بدلالة العقل الإنساني قبل الأدلة النصية، واستطاع الامام عليه السلام ان يوفر البناء العلمي والاجتماعي والاخلاقي وتعزيز بناء الايمان وعلاقة الأخوة والمحبة والود بين المؤمنين وتفعيل لغة العلم الأخلاق الحسنة في الخطاب الإنساني فكانت كلمات الامام عليه السلام وأحاديثه أعظم من الجبال الصم الرواسي.
وقد قال في حقه والده الامام محمد الباقر عليه السلام (هذا خير البريّة) (1)، وقال في بيان فضله عمه زيد الشهيد قبل استشهاده (في كل زمان رجل منّا أهل البيت يحتجّ الله به على خلقه؛ وحجّة زماننا ابن أخي جعفر لا يضلّ مَن تبعه ولا يهتدي مَن خالفه) (٢)، وقال مالك بن أنس في حقه ما رأت عين ولا سمعت أُذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمّد الصادق علماً وعبادة وورعاً (٣)، وقال المنصور الدوانيقي مؤبناً الإمام الصادق عليه ‌السلام إنّ جعفر بن محمّد كان ممّن قال الله فيه: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) وكان ممّن اصطفى الله وكان من السابقين بالخيرات (٤)، و قال عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (٣٢٧ هـ) سمعت أبي يقول جعفر بن محمّد ثقة لا يُسأل عن مثله، وقال سمعت أبا زرعة وسئل عن جعفر بن محمّد عن أبيه، وسهيل بن أبي صالح عن أبيه، والعلاء عن أبيه أيّما أصح؟ قال لا يقرن جعفر بن محمّد إلى هؤلاء (5)، قال أبو حاتم محمّد بن حيّان (ت ٣٥٤ هـ) عنه كان من سادات أهل البيت فقهاً وعلماً وفضلاً (6)، وقال أبو عبد الرحمن السلمي (٣٢٥ ـ ٤١٢ هـ) عنه فاق جميع أقرانه من أهل البيت عليه ‌السلام وهو ذو علم غزير وزهد بالغ في الدنيا وورع تام عن الشهوات وأدب كامل في الحكمة (7)، وعن صاحب حلية الأولياء (٤٣٠هـ) ومنهم الإمام الناطق ذو الزمام السابق أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق، أقبل على العبادة والخضوع، وآثر العزلة والخشوع، ونهى عن الرئاسة والجموع (8)،و أضاف الشهرستاني (٤٧٩ ـ ٥٤٨ هـ) على ما قاله السلمي عنه وقد أقام بالمدينة مدّة يفيد الشيعة المنتمين إليه ويفيض على الموالين له أسرار العلوم ثمَّ دخل العراق وأقام بها مدَّة، ما تعرّض للإمامة قط، ولا نازع في الخلافة أحداً (9)، ومَن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط، ومن تعلّى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حطّ (10)، وذكر الخوارزمي (ت ٥٦٨ هـ) في مناقب أبي حنيفة أنّه قال ما رأيت أفقه من جعفر بن محمَّد وقال لولا السنتان لهلك النعمان مشيراً إلى السنتين اللتين جلس فيهما لأخذ العلم عن الإمام جعفر الصادق (11)، وقال ابن الجوزي (٥١٠ ـ ٥٩٧ هـ) جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين كان مشغولاً بالعبادة عن طلب الرئاسة (12).
وبعد ما استقر سلطان الدولة العباسية بدأ الحاكم المنصور الدوانيقي بالتضييق على الامام عليه السلام وتوجيه الاستدعاء اليه بين فترة وأخرى ورصد كل تحركاته حتى ضيق عليه ولم يرقب كونه من أولياء الله ولا منزلته العلمية في العالم الاسلامي ولم يشفق على نحوله بسبب عبادته ولا بياض شيبته الكريمة، وحينها نعى الامام عليه السلام نفسه وشكى مايعانيه من الآلام والمحن والضيق، حتى قال: (عزّت السلامة، حتى لقد خفي مطلبها، فإن تكن في شيء فيوشك أن تكون في الخمول، فإن طلبت في الخمول فلم توجد فيوشك أن تكون في الصمت، والسعيد مَن وجد في نفسه خلوة يشتغل بها) (14)، ولكن المنصور اصر على اختياله فحاول صديقه المقرب وصاحب سره محمد بن عبد الله الاسكندري منعه عن ذلك وصرف فكره عنه قائلا له: إنّه رجل أنحلته العبادة، واشتغل بالله عن طلب الملك والخلافة ولكن لم يرتض المنصور مقالته فردّ عليه: يا محمد قد علمتُ أنّك تقول به، وبإمامته ولكنّ الملك عقيم! (15)، فشدد الحاكم المنصور الدوانيقي الخناق حتى عزم على اختياله وقتله تحت تأثير دافع الملك والسلطان فدس اليه السم الفاتك على يد عامله وحينما سقى عامل المنصور الامام عليه السلام بالسم شعر الامام بآلام قاسية وأحس بتقطع أمعائه حتى استشهد على إثر ذلك في الخامس والعشرين من شهر شوال رحل الى جوار ربه شهيدا مظلوما صابرا محتسبا وعم الحزن والأسى بين الناس حتى دفن في البقيع الغرقد بجوار والده الامام محمد الباقر وجده الامام زين العابدين عليهما السلام وسادت أجواء الأحزان والآهات ورثاه أحد أصحابه وهو أبي هريرة العجلي بقوله:
أقول وقد راحوا به يحملونه على كاهل من حامليه وعاتق
أتدرون ماذا تحملون إلى الثرى ثبيراً ثوى من رأس علياء شاهق
غداة حثى الحاثون فوق ضريحه تراباً، وأول كان فوق المفارق (16)
الكاتب مهند آل حسين

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*