الاقتصاد العراقي: كيف نشعل شرارة النهوض بعد الانتصار على الإرهاب

311

أندريه كراتكي*

الحاجة الماسّة لإجراء إصلاحات في الاقتصاد العراقي حقيقة لا يمكن التغاضي عنها. لكن التوصل إلى دليلٍ يرشدنا إلى كيفية إجراء إصلاحات هو أمر شبه مستحيل ما لم تتم الإجابة عن مجموعة من التساؤلات مسبقاً.

بما أن هذه التساؤلات الأولّية ترتبط بمواضيع تهمّ المجتمع ككلّ، فإن أفضل من يمكنه الإجابة عنها هم أفراد المجتمع انفسهم. وهذا بالتأكيد ينبني على شرطين: الأول، أن تتوافر الإرادة للافادة من دروس المراحل السيئة وتحويلها إلى عملية تشكيل لمستقبل أفضل. والثاني، أن يتم اختيار دقيق وصحيح للأسئلة التي تواجههم.

إن أبسط التساؤلات هو أكثرها ابتدائيّة: ما الذي تريدونه أنتم العراقيون؟ أو بالأحرى: هل سألكم أحدٌ عن رؤيتكم الخاصة للطريق الذي يجب أن تذهب فيه البلاد بحيث تكون أجوبتكم المقدّمة صالحة وفعّالة فعلاً؟

أيّاً كان ما هو آتٍ، فإننا ما زلنا في البداية-مع العديد من التساؤلات الأخرى الواجب طرحها قبل التفكير في أي عملية إصلاح. لنستعرض بعضاً منها:

هل المجتمع في جاهزيّة لأي نقاشٍ لاحق، بحيث يبداً هذا النقاش بعد الإجابة عن التساؤلات الملحّة بإيجابية؟ هل هنالك تنافسٌ، إرادة وخطّة لحوار؟ هل يمكننا اعتبار جميع التيارات الاجتماعية الأساسية موجودة في هذا النقاش؟ وهل تُعد هذه التيارات معرّفة بشكل واضح وجاهزة لطرح رؤيتها والمشاركة؟ هل من المضمون حقاً حصول الجميع على الحقّ بالتعبير عنه، والاستماع لرأيه؟

وبما أن الاقتصاد مسألة اجتماعية بشكل أساسي، هل يمكن تعريض جميع العوامل المحلية والإقليمية (التقاليد-الحداثة، المدينة-الريف، الطموح الفردي-التنسيق الجماعي وغيرها) للمساءلة التي تستحقّها؟ هل من الواضح حقاً بالنسبة للجميع أن الاقتصاد لا يتعلق بجمع الثروات فحسب، بينما يتصارع الآخرون؟

حتى وإن كانت الأجوبة مُرْضية في هذه الجوانب، فإننا أمام خطوة أخرى تأتي بالطبع مع تساؤلٍ بديهي:

ما هي الرؤية المثالية، وما هي الإمكانيات الواقعيّة؟ وهل يمكن لهما الالتقاء في مرحلة ما؟

عند ذكر “الإمكانيات”، فنحن بالتأكيد نتحدث عن النفط والثروات الطبيعية، والتي تفترض بطبيعة الحال مستقبلاً ذو نمط حياةٍ متطور ومرفّه. إنما أول ما يظهره “الواقعي” ربما هو ضعف ركائز الاقتصاد، وعدم توافر الأدوات القانونية والاجتماعية للمناسبة بين الإمكانات الموجودة، والرؤية المُتَمَنّاة، بنسبة معقولة.

أي أن الرؤية الواقعية مهمتها محاولة إيجاد-ورَدْم-الفجوات التي تفصل ما هو مرجوّ من المستقبل، عن إمكانيات تحقيق هذا المستقبل.

في الوقت ذاته، فإن النظرة الواقعية تضيف لنا أيضاً التالي:

لا يجب أن تغرينا الرؤية السائدة النموذجية عن تحول النفط إلى استهلاك (بمعنى أنه أفضل سيناريو يمكن تخيله للاقتصاد العراقي). لأن طريقةً كتلك تتضمن حجْباً لفرص أخرى يمكن تفعيلها في العراق غير النفط، وفي الحقيقة فإن العراق ينتج بيوضاً ذهبية مغايرة للمواد الخام ولا يجب وضع هذه البيوض،على الرغم من ذلك،في سلّة واحدة، إنما توزيعها على سلال عدة.

هذا يجعلنا نتساءل عن أمر آخر: هل تم – على الأقل-وضع أساس ما للتنويع الاقتصادي إضافة إلى توزيع أكثر عدلاً لرأس المال، والفرص والثروة؟.

إن الاقتصاد لا يدور حول المال والمنافسة فحسب-إنما أيضاً التعليم والتشريع المضبوط، والذي يتضمن خلقاً للشروط الملائمة للعمل والإصلاح. ولكن، ما كان –وما يزال-يحصل في العراق منذ نحو 15 عاماً هو على العكس بالضبط : فقاعة النفط ومساعدات ما بعد الحرب (الأجنبية، الأمريكية أساساً) أدّت إلى :

1 -هيمنة ظاهرة اقتصادية تلامس حدود الكارثة-لقد تم تثبيت وتشجيع  كل”محاور” الثروة غير المتكافئة، وبحسب منتوجها.

2 –  الاقتصاد الربحي نسبياً (لكن المحدود والمقتصر على الكماليات).

3 – تركيز الثروة في مناطق محددة (أساساً المناطق النفطية والماليّة) بينما تم عزل بقية المناطق الأخرى عن هذه الثروات.

هنا يمكننا تقديم توصيف بسيط : الخدمات المضافة سببت زيادة في الأسعار لم تكن ملائمة لاقتصاد البلد، والتي تساهم في المدى البعيد بخلق توقعات مزيفة برواتب غير واقعية؛ إضافة إلى الاعتماد-وبمعزل عن تأثيره الكبير على المجتمع وعن فهمه المشتت للواقع الاقتصادي-على بعض المجالات الاقتصادية المحددة. إن ذلك في الوقت ذاته جعل الاقتصاد انتقائياً وربحياً بشكل اتّكاليّ.

إن النتيجة لكل ذلك أدت الى : بقاء الاقتصاد العراقي هشّاً بشكل كبير، وذو حساسية عالية للصدمات، فضلا عن كونه ضعيفاً على الصعيد التنافسي.

لقد أصبح من الواضح الآن أن ثروة “المحاور” كانت مبنية على وقائع اقتصادية خاطئة.  ومن الواضح أنه قد تمت المبالغة بتقدير الخدمات الكمالية التي لم تكن مدعومة بقيمة حقيقية. في الجانب الآخر، تمّ تجاهل الريف كليّاً، أو تركه في أفضل الأحوال تحت رحمة كل الإجراءات غير المسؤولة والجاهلة للسلطات المحلية، وكنتيجة لذلك، تحولت أجزاء من المناطق في البلاد إلى نسخة عن لاس فيغاس .

إن تم تطبيق حدٍّ ما من المساواة في التوزيع، فإلى أي مرحلة من التكامل يمكن أن نصل؟ بمعنى، هل نفكر على نطاق واسع فعلاً، دون أن ننسى التكنولوجيا الحديثة والفلاحين البسطاء على سبيل المثال؟ بمعزل عن الاستبداد ،والانعزالية ، ألا يجب علينا على الأقل أن نفكر في الاكتفاء الذاتي؟ لأنه في النهاية، كلما زدنا من الاعتماد على أنفسنا (من الإنتاج، إلى القيمة المضافة العالية) فهذا يعني قلقاً أقل في محاولة جلب الاحتياجات من الخارج واعتماداً أقل على الآخرين.

بشأن الحديث عن الخارج، وفي سياق الموقع الجيو-سياسي والاستراتيجي، أليس العراق حتى الآن ينظر إلى نفسه بعيون الآخرين؟ أي عبر ما يريده الآخرون للعراق أن يكونه؟ أليس من الأفضل أن يعيد العراق بناء رؤيته الخاصة من الداخل بما يساهم في مصلحته الفضلى؟ حين نرى أن العراق ليس مجرد ساحة صراع واقتتال، أو مجرد جارٍ إشكاليّ، إنما أيضاً تاريخ وتجربة حضاريّة هائلة، مدخل استراتيجي للبحر، مساحات كبيرة من الأراضي غير المستثمرة، مواطنون موهوبون، وموقع جيو-سياسي استثنائي، فمن المحتمل أن يصبح فعلاً نقطة تلاقٍ للحضارات.

إن أخذ كل ما سبق بعين الاعتبار يعني تفعيل كل زوايا الاقتصاد الخاملة ووضعها تحت الاستخدام. إن قولنا بأن “نفكر عالمياً، ونتصرف محلياً” يمكن ترجمته إلى احترام الخصوصيات المحلية، إضافة إلى استثمار كل مدخلات الإنتاج بكليتها، بالتالي الافادة الأفضل من كل “إنشٍ اقتصادي” في البلاد.

من نافلة القول إنّ كل ذلك يتطلب عزماً وإرادة وجرأة، بل حتى مجازفةً إلى حدٍّ ما بصناعة تغيير، والتزاماتٍ من قبل احترافيين، وبعضاً من النخب أيضاً، يحبون البلاد ويشكلون أفضل العقول ويمتلكون أكثر الرؤى جدوى وفاعلية .

وبالتأكيد، فإن آراء الجميع ستجد طريقاً لها عبر إطار من الحوار ؛ وعلى النقاش المفتوح أن يعكس مصالح الناس، لكن من الضروري أن يتجنب الانزلاق إلى الشعبوية والحلول السهلة الزائفة؛ كما يجب توافر بيئة شفافة وإطارٍ قانونيّ صلب من أجل تشكيل أرضيّة لانطلاق أي فعل اقتصادي يسبب ارتقاء نحو القمة.

إن اختزال الاستثناءات بالحد الأقصى، والإلزام القانوني، والمسؤولية يمكنها مجتمعةً أن تمنع الفساد، وسوء استخدام السلطة، بالإضافة إلى رفع مستوى الشعور العام بالأمن، ليس بين المواطنين فحسب، إنما بين المستثمرين وكل اللاعبين الاقتصاديين.

إن القيام بإجراءات كتلك يفتح طريقاً لتفعيل الإمكانيات البشرية، وحمايتها ومساعدتها على التطور. ويمكنها أيضاً أن تسقط العديد من الجدران التي يحب البعض تسميتها بالجدران البنيوية (من دون –كما يمكن لأحدهم القول-أن ينهار البناء كله)؛ فلا تقلقوا -لأن البناء لن ينهار على العكس-فالتزامكم لفعل لذلك صادق وأنتم جاهزون للتصدي لهذه المهمّة بأنفسكم.

لا يمكن لأحد أن يبني منزلكم بشكلٍ أفضل منكم. يمكنكم أن تتبعوا لألف مرة طريقة الأجانب (والذين بالطبع لديهم أفكار جيدة، إنما تعلمون أنهم بالنهاية لن يهتموا إلا بمنافعهم) أو تصرفوا كما هو الحال العام بالنسبة للسلطات المحلية (التي هي أقرب إلى تلبية احتياجاتكم، إنما يبدو من الصعب أن تدفع البلاد قدماً). إن أياً من تلك الطّرق لن تعطيك فاكهةً بنفس الطعم الذي تتذوقه من فاكهةٍ أخرى أنت زرعتها، سقيتها، وقطفتها بيديك.

باختصار: إن اعتمدت على الآخرين، فإنك ستحصل على مأوى، إنما لن تحصل على منزلك الخاص أبداً.

سوف أقوم باختتام هذه المقالة ببعضٍ من مسائل للحوار، عوضاً عن أجوبة جاهزة. وهذا يعني أن نضيف إلى الأسئلة المسبقة المتعددة، بعضاً من الأسئلة الأخيرة. وبشكل أساسي أسئلة من الأفضل ربما للعراقيين أن يتساءلوها: هل أنتم كمجتمع جاهزون للبدء بالنقاش حول كيفية إعادة الألق إلى حياتكم؟

هل حقاً أنتم على التزام بفعل شيء تجاه البلاد؟

وإن كانت الإجابة بنعم. فهل أنتم جاهزون للاعتماد على أنفسكم لا على أحد آخر؟

*كاتب تشيكي

الملف التعريفي

أندريه كراتكي

خرّيج فيلولوجيا (فقه اللغة المقارن)، وحاصل عل الماجستير والدكتوراه اختصاص في التاريخ والدراسات الشرقية من جامعة بوهيميا الغربية في بيلسن، جمهورية التشيك.

مؤسس ومساهم لمجموعة Dealtrade Group منذ العام 2009. ممثل ومستشار مستقل للعديد من الشركات التشيكية والسلوفاكية في الشرق الأوسط والمناطق المحيطة.

مؤسس موقع Rebuildsyria.cz المرتكز حول كل ما يهم إعادة بناء سوريا والإقليم.

كاتب ومحرر ومصوّر. كتب العديد من المقالات والأبحاث التخصصية في مواضيع متنوعة في العديد من الصحف والحوليّات.

الصباح

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*