في اللحظة التي بدأت فيها كتابة مقالي الأسبوعي(…)، وكان حول موضوع آخر، قطعت قناة «سي إن إن» الأميركية مسطرة برامجها العادية لتأتي لنا بخبر عاجل، اعتقدت في البداية أنه أحد الأنباء الموجعة حول وحشية تنظيم «داعش» على غرار عمليات الذبح والحرق التي اعتاد القيام بها في الآونة الأخيرة، وكان من آخرها قيامه بقتل الطيار الأردني معاذ الكساسبة حرقاً. لكن «سي إن إن» أفادتنا في خبرها العاجل بحدوث هجوم آخر وسقوط قتلى في العاصمة الدنماركية كوبنهاجن. فهل يصبح نمط عملية «تشارلي إبدو» نمطاً خاصاً بالمتأسلمين عالمياً؟
الدنمارك هي إحدى الدول الإسكندنافية، وهي بلد قليل عدد سكانه شديد البرودة خلال شتائه الطويل. كما أنه في غاية النظافة والتنظيم. وعادة ما تحاول الدنمارك الاحتفاظ بخط مستقل يسمح لها بالعيش بعيداً عن صخب السياسة العالمية. في آخر زيارة قمت بها إلى العاصمة الدنماركية كوبنهاجن منذ 4 سنوات، لفت نظري التعارض بين تحرر المجتمع وعدد السيدات المحجبات. ولما استفسرت عن الأمر عرفت أنه كانت هناك تسهيلات خاصة لاستقبال اللاجئين العراقيين منذ حكم صدام حسين، ثم بعد الغزو الأميركي للعراق في عام 2003.
لا أعرف التفاصيل بالضبط عن الهجوم الأخير في كوبنهاجن، لكن يبدو أنه «تخليص حساب» للرسوم الكاريكاتيرية الـ12 المسيئة التي قامت بنشرها، في سبتمبر 2005، الصحيفة الدنماركية «يلندس بوستن»، والتي اعتبرها الكثير من المسلمين إهانة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وإهانة للإسلام والمسلمين أجمعين. كان هذا الحدث مسيطراً على أفكاري وأنا أتجول في شوارع العاصمة الدنماركية في طريقي لإلقاء كلمة في البرلمان الدنماركي، وكان ذلك هو الهدف الأساسي من الدعوة ثم الزيارة.
وكان الصحفي الذي قام بنشر الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة قد طلب مقابلتي والحديث معي، لكني تجاهلت هذا الطلب، على الرغم من أني كنت أود معرفة الأسباب التي جعلته يُثير هذه الزوبعة بنشر رسوماته الاستفزازية، لكن عند وصولي لمبنى البرلمان، وقبل الدخول إلى القاعة، وجدته هناك في انتظاري.
بأدب جم، اعتذر عن مطاردتي، وقال إنه يود الحديث معي لوقت قصير، لكن القرار النهائي بالقبول أو الرفض في يدي. لم يكن هناك بدّ من الحديث إذن. اقتربنا من الموضوع من توجهين مختلفين، بل متعارضين، كانت وجهة نظري أن للأديان قدسيتها، أياً كانت هذه الأديان، فهي عند الكثيرين -وليس فقط المسلمين – واجبة الاحترام من الجميع، حتى من جانب غير المتدينين. أما وجهة نظره فكانت مختلفة، بالنسبة للعديدين في المجتمع الدنماركي ودول اسكندنافيا عامة، فإن هناك قيما تعلو القيم الدينية، مثل قيم حقوق الإنسان، والمساواة بين الرجل والمرأة، والنزاهة والشفافية في تخطيط السياسات العامة، ومكانة المواطن في مجتمعه، وأهمية حرية التعبير. لكن هل كل ذلك يعني السماح بإهانة الآخرين؟ تساءلت بصراحة في وجه الصحفي، فكانت إجابته أنه لا يود إهانة أحد، وأن هذه الصور الكاريكاتيرية تم المبالغة فيها من بعض الجماعات المحلية لاستدرار العطف على المسلمين وأوضاعهم في المجتمعات الغربية، وأنه فعلا توجه إلى الشرق الأوسط وقابل بعض الشخصيات ليشرح لها الأمر، وكانت النتيجة -حسب كلامه- تفهماً لوضع الدول الاسكندنافية، وأهمية حرية التعبير دون قيود.
وهنا سألته: هل تستطيع أن تتوجه بنفس الرسوم والانتقاد للدين اليهودي؟ فكان هناك بعض التلعثم، ثم جاءت الإجابة بطيئة: إن هذا بدأ يحدث الآن، وهناك انتقاد ضخم وقوي للسياسة الإسرائيلية، لكنه تطور بطيء بعض الشيء بسبب تاريخ اضطهاد اليهود في أوروبا، ثم المحرقة النازية!
بعد عملية «شارلي إبدو» في فرنسا ثم عملية كوبنهاجن، ستشتعل المناقشة مرة أخرى حول وضع المسلمين في أوروبا، وهل حرية التعبير مطلقة دون أية قيود أو ضوابط؟