ثمة تساؤل يتم تناقله بين المثقفين والمفكرين والأدباء والكتاب وغيرهم، يتعلق بالأسباب التي تجعل من الثقافة فقيرة في مجتمعاتنا، ويصبح الكتاب والمطبوع على نحو عام، مشكلة لدينا من حيث التمويل والتسويق وما شابه، ثم لماذا لم نتعامل مع الثقافة بكل ما تنطوي عليه من حقول وفروع ومعارف، على أساس كونها سلعة اقتصادية لا تختلف عن سواها من السلع الاخرى، من حيث التداول، بيعا وشراءً وترويجا، وهكذا مع كل ما يتعلق بإنتاج المطبوع، او انتاج البرنامج او المشروع الثقافي المرئي والمسموع وما شابه؟.
والسؤال الآخر، كيف يمكن أن نجعل من ثقافتنا منتَجًا اقتصاديًّا مربحًا، وما هي الخطوات والسبل التي تجعلنا قادرين على جعل الثقافة منتجا اقتصاديا، وبدلا من ان تكون الثقافة بأنواعها كافة، عالة على المثقف والمجتمع عموما، تصبح مصدرا ربحيا لهم، وتضاعف من موارد الفرد والدولة والمجتمع، فمثلما تحقق السلع الانتاجية المختلفة ارباحا وموارد للأفراد والدولة والمجتمع، يمكن أيضا، أن تكون الثقافة التي ينتجها المثقفون والمفكرون والادباء وغيرهم، مصدر إيراد إضافي لكل من يشترك في انتاجها، ولا شك أن هذا الامر سوف يساعد على تطوير الثقافة ومرافقها، أي يدعم ويطور بنيتها المادية التحتية وسواها، وفي الوقت نفسه، يرفع من المستوى المعيشي للمنتِج (المفكر، المثقف، المبدع بصورة عامة).
إن الاطلاع على تجارب بعض الدول والمجتمعات المتقدمة في هذا المجال، سيؤكد لنا إمكانية أن نخطط لتحويل الثقافة في مجتمعاتنا من عبء يثقل كاهل الدولة والفرد، الى عامل اقتصادي يكتفي ذاتيا من حيث التمويل والانتاج، بالإضافة الى توفير مصدر رزق جيد للمبدعين بمختلف توجهاتهم، وهذا يعني إعفاء الدولة من حمل اعباء الثقافة ومشاريعها، كما هو الحال في بلداننا، إننا في واقع الحال كمثقفين وادباء منتجين للثقافة، نشكل ثقلا ماديا وماليا واضحا على الدولة، فضلا عن كوننا نعاني من عسر الوضع المالي الفردي والعائلي، وأعني بذلك الغالبية من منتجي الثقافة، وبعضنا يحاصره شظف العيش، لدرجة انه يحلم بطبع كتاب فكري ابداعي، او اي منتج له علاقة في الثقافة.
هذه الحيرة التي تنتاب المبدعين في البلدان المتأخرة ثقافيا (وفي الميادين الاخرى ايضا)، سببها أننا لا نفكر ولا نعمل على تحول الثقافة الى اقتصاد مربح، بمعنى أننا ربما آخر شيء نفكر فيه هو تحويل الثقافة الى سلعة يمكن أن نسوقها اقتصاديا، لتعود علينا بأرباح مادية تكفي لتمويل مشاريعنا الثقافية، من دون الاعتماد على الدولة، بل يمكن للثقافة اذا دخلت عالم الاقتصاد، أن ترفع من المستوى المعيشي للكاتب بدرجة عالية، كما يحدث الآن في البلدان المتطورة في هذا المجال، إذ يبادر المثقفون هناك الى التخطيط الاقتصادي السليم لمنتجهم الثقافي، فيصبح سلعة لها تكاليف، يقابله ثمن ينطوي على هامش من الربح، وكلما ازدادت المبيعات، تتراكم الارباح للسلعة الثقافية، وهي تخضع كغيرها من السلع لمعظم القوانين والشروط الاقتصادية فيما يتعلق بضوابط البيع والشراء.
كما نلاحظ ذلك بخصوص العرض والطلب، للسلعة الثقافية، فضلا عن طرائق العرض ضمن الفنون المتعارف عليها في الاسواق العالمية للثقافة، لوسائل وفنون العرض التي تجذب الزبائن من خلال طريقة عرضها وما شابه ذلك، إن معارض الكتب على سبيل المثال في بعض الدول المتطورة بهذا المجال، تستخدم ارقى طرق العرض للسلع الثقافية، وكأنها تعرض سلعا استهلاكية لا تختلف عن المنتجات الغذائية مثلا، فعندما تقدم غذاء الافكار والروح، فإنها تركّز على السبل والعوامل الجاذبة بأقصى ما تتمكن عليه بهذا الجانب، وذلك باستخدام فنون العرض وغيرها من الامور المشجعة على التسويق، وتشجيع الزبون على شراء المطبوع او السلعة الثقافية بمختلف انواعها.
ولا شك أننا ازاء جانب آخر لا يقل أهمية عن الاهتمام بسلعة الثقافة، ألا وهو منتِج الثقافة نفسه، ونعني بهم المفكرين والمثقفين ومنتجي الابداع على وجه العموم، هؤلاء ينبغي أن يجدوا الاهتمام الكافي والمساعدة الفنية والتطوير المستمر، لمضاعفة قدراتهم على اتقان السبل التي تجعل من منتجاتهم الثقافية المتنوعة، قابلة كي تكون سلعا اقتصادية، يتم التعامل معها وفقا للضوابط، والشروط والطرائق التي يتم من خلالها التعامل بطريقة ربحية مدروسة، مع السلع الانتاجية المختلفة.
وبهذه الخطوات التي ينبغي ان يتم التخطيط لها، من لدن الجهات المختصة بصورة دقيقة ومستدامة، يمكن أن نقطف ثمار جهودنا في هذا المجال، عبر منهج الاقتصاد الثقافي السائد في معظم الدول المتطورة، ولا شك اننا نطلع بين حين وآخر على حالات الثراء التي يتميز بها المبدعون في الدول التي تتعامل اقتصاديا مع الثقافة، على العكس من حالة الفقر التي تسيطر على مفكرينا ومثقفينا، وحاجتهم الدائمة لمساعدة الدولة او جهات اخرى للتمويل، الامر الذي يجعل منهم ادوات منفذة لأهداف الدولة حتى لو كان نظامها السياسي فاشلا او مستبدا، وهكذا يساعدنا الاقتصاد الثقافي على عدم التبعية لجهات التمويل الحكومية او سواها، فضلا عن توفير الموارد اللازمة التي تنهض بالثقافة والمثقفين، وتدر عليهم ارباحا وموارد يمكن أن تسهم بصناعة ثقافة فاعلة ومكتفية بذاتها لاسيما من حيث الجانب المادي التمويلي.