تعليم اللغة العربيّة في المدارس البريطانيّة ضرورةٌ لا بدّ منها
397
شارك
طوني كالدربنك
تتكاثر الأسئلة حول ضرورة ضمّ اللغة العربيّة إلى اللغات العصريّة في مناهج المدارس البريطانية. بالنسبة لعضو المجلس الثقافي البريطاني طوني كالدربنك، فإنّ تعليم اللغة العربيّة في المدارس حاجةٌ لا بدّ منها، وهو الذي أقنعته تجربته الخاصّة في تعلّم العربيّة بأهميّة هذه اللغة في تحقيق الازدهار الاقتصادي والثقافي في المملكة المتّحدة على الأمد الطويل.
تشكّل اللغة العربيّة إحدى أعظم لغات العالم، إذ يتقنها أكثر من 400 مليون شخص. فقد شكّلت وسيلةً لأبرز المساهمات في التطوّر العلمي والثقافي الذي شهده العالم، من أقدم القصائد التي كتبها شعراء ما قبل العصر الإسلامي، مرورًا ببحوث الفلاسفة وعلماء الرياضيّات الذين برزوا خلال عصر الإسلام الذهبي، وصولًا إلى روايات الكاتب الحائز على جائزة نوبل نجيب محفوظ.
تشكّل اللغة العربيّة كذلك إحدى اللغات الرسميّة في منظّمة الأمم المتحدة، كما صنّفت مؤخّرًا ضمن اللغات العشر الأهمّ لمستقبل المملكة المتّحدة.
تعرّفتُ على اللغة العربيّة في المدرسة الثانوية حيث كنت أتلقّى دروسًا باللغات الفرنسيّة والألمانيّة واللاتينيّة. وأثناء تحضيري للدراسة الجامعيّة، فكّرت بدراسة اللغة الإيطاليّة، عندما قامت أستاذة اللغة الفرنسية بتقديم إحدى أهمّ النصائح التي تلقّيتها في حياتي، قائلة: “لما لا تتعلّم لغةً مختلفةً كليًّا كالعربيّة أو الصينيّة؟”.
وقد أتى هذا الاقتراح تزامناً مع مشاهدتي لبرنامجٍ تلفزيوني حول فنّ الخطّ العربي كان يُعرض في ذلك الوقت، حيث كان خطّاطٌ تركي يقطع طرف قلم القصب ويقوم بكتابة أحرفٍ على ورقةٍ كبيرة من الرقّ. فسُحرت منذ ذلك الحين، وذهبت بعدها إلى جامعة مانشيستر لدراسة العربيّة والفارسيّة.
تشكّل اللغة العربيّة جزءاً كبيراً من حياتي منذ ذلك الحين. فبعد إنهاء دراستي، انتقلت إلى القاهرة حيث أمضيت 15 عاماً وعلّمت في مدرسةٍ ابتدائيّة في أحد أحياء المدينة الفقيرة، وتعلّمت تكلّم العربيّة. أمضيت معظم الأعوام الثلاثين الماضية في العالم العربي، إذ علّمت العربيّة وترجمت الكتابات الأدبيّة العربيّة إلى اللغة الإنجليزيّة وأصبح بإمكاني قطع طرف قلمي الخاص وكتابة الأحرف الجميلة على ورق الرقّ.
ويعتبر تعلّم اللغة العربيّة أكثر تشويقاً من تعلّم الفرنسيّة أو الأسبانيّة، إذ تضمّ اللغة كلماتٍ مؤلّفةٍ من أصواتٍ لم يعتد الفم على نطقها من قبل؛ كما يؤدّي علم النحو والصرف في اللغة العربيّة وظائف مختلفة كلياً عن تلك الخاصة باللغات الهنديّة الأوروبيّة. كما تجدر الإشارة إلى أنّ العربية تُكتب من اليمين إلى اليسار، وبالتالي ينبغي على يدك (إن كنت تستخدم اليد اليمنى للكتابة) الاعتياد على دفع القلم على الورقة بدلًا من السحب. فلا يسع المرء سوى أن يتخيّل مدى روعة فكّ رموز فنّ الخطّ العربي أو لفظ عنوان صحيفةٍ عربيّة قد يبدو للآخرين مجرّد خطوط.
هذا ويتطلّب تكلّم العربيّة بشكلٍ سليم وقتًا طويلاً – فيبدو حلم الوصول إلى كفاءة اللغة الأم كواحةٍ تلوح بعيدًا في الصحراء. ويقول المستعرب الشهير جايمس كريغ: “السنوات العشرون الأولى هي الأصعب”.
ولكن الأمر الأهمّ هو أنني تعرّفتُ على الآلاف من العرب. ضحكنا وبكينا سويًا، كما كانت لنا جدالاتنا ودعاباتنا وشجاراتنا ومصالحاتنا. كوّنتُ أصدقاءً أوفياء وأصبحتُ أفهم الكثير عن العالم العربي وثقافته. وفي الوقت عينه، تعلّمتُ الكثير عن الاستعمار والإعلام وطبيعة العلاقات السياسيّة العالميّة في عصرنا هذا. فاقتنعتُ بأنّه على المزيد من الناس تعلّم اللغة العربيّة.
يقوم تعلّم العربيّة بإتاحة العديد من الفرص، كونها تشكّل لغةً غنيّةً وراقية يتقنها الملايين بمختلف لهجاتها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وتُعدّ اللغة تحدّيًا ومكافأةً في الوقت عينه، إذ يُعتبر إتقان العربيّة أداةً لاكتساب فهمٍ فعليّ لشعوب العالم العربي ومجتمعاته وسياسته، والوصول إلى العديد من فرص العمل في القطاعات الماليّة والإعلاميّة والتجاريّة في المنطقة. ومع اكتساب العربيّة لأهميّةٍ سياسيّة وتجاريّة كبيرة، من المتوّقع أن يزداد الطلب على تعلّمها.
هذا ومن شأن إتقان الشباب في المملكة المتّحدة اللّغة العربيّة أن يعود بمنافع أكبر، كالتفاهم المتبادل بين الجماعات وفرصة إعادة بناء الثقة التي فُقدت خلال العقود الماضية نتيجة الظروف السياسيّة والتدخّلات العسكريّة. فيصبح من يتعلّم العربيّة قادراً على تخطّي ما تنشره وسائل الإعلام من أفكارٍ نمطيّة وعلى تطوير وعيٍ شاملٍ وحقيقي عن العالم العربي.
هذا ويمكن دعم اختيار العربيّة وتعليمها في المدارس البريطانيّة بالعديد من الأسباب الوجيهة. أوّلًا، قد يؤدّي فهم العربيّة جيداً إلى الحصول على وظيفةٍ في القطاع الدبلوماسي أو قوى الأمن أو الإعلام، بالإضافة إلى قطاعاتٍ أخرى كقطاع المال والمصارف أو النفط والغاز. كما قد يؤدّي تعليم هذه اللغة إلى تحسين فهم المملكة المتحدة لمنطقة العالم العربي المعقّدة التي يعود استقرارها بتأثيرٍ كبير على أوروبا الغربيّة، والتي لا تزال تعاني من تداعيات الاستعمار. ومن جهةٍ أخرى، قد يؤدّي تعليم العربيّة إلى اكتشاف أنّ العالم العربي مكان جميل يجدر التعرّف عليه.
ستجتمع مجموعة من محترفي تعليم العربيّة في المملكة المتحدة بعد بضعة أيّامٍ في كلية الدراسات الشرقيّة والإفريقيّة، لمناقشة مسائل تعليم العربيّة في المدارس البريطانيّة وتحدّياته. وتجدر الإشارة إلى أنّه من الضروري والمناسب توسيع تعلّم اللغة العربيّة في المدارس البريطانيّة وأن تُسنح الفرصة للمزيد من الأطفال أن يتعلّموا هذه اللغة ويتعرّفوا على ثقافة العالم العربي وشعبه.