بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى تنبأ بعض المفكرين، إثر تأسيس منظمة “عصبة الأمم”، أنها ستكون بمثابة مقدمة لتكوين حكومة عالمية تنشر السلام في العالم، فالحروب انتهت الى غير ما رجعة. أغفل هذا التفاؤل الإشارة إلى الحروب المتتالية التي مرت بها القارة الأوروبية سواء الدينية وما حفلت به من مذابح جماعية، والاستعمارية الممتدة إلى خارج القارة، وما غص به تاريخ الغرب من عدوان وقهر، أحد عناوينه تجارة الرقيق.
مع الحرب العالمية الثانية، انقلب التفاؤل إلى تشاؤم، فمجريات الحرب كشفت عن قدرة الإنسان الكامنة على ممارسة القسوة المحضة بلامبالاة مع التلذذ بالتعذيب، فضحتها الوحشية البشعة للنازية والستالينية وما جرته القنبلة النووية من ويلات. لم يتمكن المفكرون في العصر الحديث من النظر بجدية إلى الجريمة إلا عندما لم يتجاهلوا أن تاريخ البشر المسجل منذ 2500 ق.م يحتوي على قدر متواصل من العنف والقتل وإراقة الدماء. وما الأعداد الهائلة من ضحايا الحربين إلا دليل على أن البشرية تعمل على تدمير الذات باطراد.
أعطيت للجريمة تبريرات بأنها جانب دخيل على التركيبة البشرية، ناجم عن الإحباطات والقيود المفروضة على الفرد الطبيعي من القانون، ما يُمكّن المجتمع من الاستمرار والوجود، فالجريمة متنفس للفرد والمجتمع معاً، ما يسمح بتقدم الحضارة.
قدرة الإنسان الخلاقة والمبدعة حقيقة جوهرية، لا تختلف في الجرائم. فجنوح الذكاء يهب الإنسان القدرة أيضاً على ابتداع وسائل للتعذيب والقتل الأشد فتكاً، خصوصاً عندما تكمن وراءها رغبات مثالية تنشد تحقيقها، بانتهاج طرق مختصرة إلى “عالم أفضل” تبرّر استباحة البشر بالمتفجرات وإطلاق النار العشوائي، والتي أصبحت ظاهرة متواصلة من ستينيات القرن الماضي حتى الآن؛ تتمثل في عدمية النزعات اليسارية الفوضوية والراديكالية، وحركات التبست بالتديّن الأعمى، ومؤخراً حراس الشريعة والخلافة من القاعدة وداعش.
المجرمون الكبار ليسوا من المهووسين بل محترفو تطرّف وعنصرية وتكفير؛ الوجه الشرير لنمو القدرة على التأثير. إن أسوأ أنواع الجرائم لا يرتكبها الحمقى والأغبياء، بل يرتكبها الأذكياء؛ رؤساء دول وحكومات دكتاتورية وديموقراطية، وساسة ومحللون ومثقفون… فالإجرام ليس شذوذاً يتمثل بالتهور والجنون إلا لدى المنفذين الصغار.
في السنوات الماضية، دخل العنف المتأسلم إلى ساحة الجريمة بجرأة انتحارية عالية المستوى ما يحيلنا إلى نظرية الذكاء الإرهابي مع إضافة مهمة، لم يعد الإرهابيون جماعات فقط، بل باتوا أفراداً أيضاً اخترقوا الحدود ولا يعبؤون بسيادة الدول على أراضيها، ودور الأذكياء توفير الذرائع والمبرّرات الدينية واختلاقها في حال عدم توفرها، وتجنيد البشر المظلومين المحرومين من التعليم والجاهلين بالدين والفقراء قاطني حواري البؤس وتحريضهم على القتل والموت.
اليوم يخيّم على الغرب شعور بالتهديد الحقيقي، بينما العالم العربي يتفجر باليأس والقنابل، ليس المجانين في تكاثر، طالما كان عقل العالم يئن بالأمراض. عندما ينتشر الظلم، فالمقابل ليس إلا زراعة الموت.