ما نقصده بالمنظور الأخلاقي هو كيفية النظر إلى الأفعال العبادية من خلال علم الأخلاق، فلا يخفى أن علم الأخلاق هو الفن الباحث عن الملكات الإنسانية المتعلقة بقواه الباطنية، يدرسها هذا العلم ليقف الإنسان على معرفة الملكات أو الهيئات النفسية الفاضلة أو الرذائل لكي يتحلى بالفضائل ويترك الرذائل ويشق طريقه في الدنيا لكي يصل إلى السعادة ويكون إنساناً كاملاً عند العمل بهذه الفضائل.
وقبل أن يرشدنا هذا العلم إلى التحلي بتلك الأخلاق الفاضلة يخصص دراسة شاملة لمعرفة قوى الإنسان المتعلقة بعقله من جهة وغرائزه وشهواته من جهة أخرى، فالإنسان عنده عقل وهو مبدأ الأفكار والتصورات وعنده غرائز، فحتى يقع الفعل في الخارج يمر بمراحل من الاستعداد النفسي والرغبة المسبقة بالتخطيط، ومن نزوع النفس إليه حتى يصدر منه وتتحرك الأعضاء والجوارح إلى الغاية المقصودة.
ومن هنا ارتبط موضوع النية بالعمل العبادي من جهة المحتوى الباطني للإنسان وارتباطه بتلك الملكات والهيئات الراسخة النفسية، ولذا نرى أهل الأخلاق يركزون على ذلك المحتوى الباطني وما يرتبط به من أفكار وتصورات وما يدور في عزم الإنسان وما يرتبط منها في موضوع الإخلاص حتى تتحقق العبادة أو القرب على أتم وجه. وبذا يتبين لدينا الحاجة لمعرفة مفهوم النية ومفهوم العبادة، حتى يكون آخر المطاف بيان الجانب الأخلاقي الذي هو المقصود من وراء تلك العبادات. قال النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله): (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)(1).
مفهوم العبادة
فسر أهل اللغة مفهوم العبادة بالخضوع والتذلل وما شابههما، منها ما ذكره الراغب الأصفهاني: (العبودية إظهار التذلل والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال وهو الله تعالى ولهذا قال: (أَلّا تَعْبُدُواْ إِلّا إِيَّاهُ) (يوسف: 40، الإسراء:23) والعبادة فيها خصوصية أخرى ترتكز عليها إضافة إلى الخضوع وهو الأساس لأن تكون الأفعال عبادة، وهو الاعتقاد بأنني أخضع للمعبود وهو الله تعالى، وهذا الخضوع تظهر آثاره من خلال عمل قائم بالجوارح كالرأس واليد وغيرهما، أي أن العبادة هي الخضوع النابع عن الاعتقاد بأن المعبود هو الخالق والمدبر وكون أزمَّة الأمور ومصير الإنسان في الدنيا والآخرة بيده(2). فالعقيدة هي الأساس في دفع الإنسان نحو العبادة، فالرب هو الذي يملك شؤون الإنسان ووجوده وحياته وآخرته أو تفويض الأمر إليه من الناحية التكوينية والتشريعية، وإذا كان معنى الخالق هو الموجد وكل ما في السماوات والأرض فهو له تعالى فوجودها وأفعالها وآثارها كلها مخلوقة له تعالى، وكل الأسباب والفواعل مخلوقة له أيضاً تعالى، فيكون الرب هو المالك لشؤون الشيء والمدبر لأمر الخلقة ودوامها واستمرارها وعلى هذا تكون العبودية في قبال الربوبية(3).
العبودية والربوبية
كيف نفهم هذه العلاقة بين المفهومين، ولقد أسلفنا أن العبودية هي خضوع للرب، أي توجه الكل إليه ومثوله بين يديه في صفة المملوكية المحضة فكل منهم مملوك لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشورا وذلك أمر بالفعل ملازم له ما دام موجوداً، قال تعالى: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً* لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً) (مريم: 93ـ 95) هكذا حالة العبد من الفقر والحاجة، فالمراد بإتيانه له يوم القيامة فرداً إتيانه صفر الكف لا يملك شيئاً مما كان يملكه بحسب ظاهر النظر في الدنيا وكأن يقال: إن له حولاً وقوة ومالاً وولداً وأنصاراً ووسائل وأسبابًا إلى غير ذلك، فيظهر يومئذٍ إذ تتقطع يهم الأسباب أنه فرد ليس معه شيء يملكه ولن يملك أبداً فشأن يوم القيامة ظهور الحقائق فيه(4).
إذاً عندنا جهتان:
أ ـ الرب هو المالك دون غيره.
ب ـ والعبد هو الخاضع.
فالمُلك حيث كان يتقوم بوجود المالك، فإنك لو نظرت إلى دار زيد ممكن أن تغفل عن زيد وتجعل نظرك على الدار فقط، أما إذا نظرت إليها بما أنها ملك لزيد لم يمكنك الغفلة عن مالكها، فإنك لو عرفت أن ما سواه تعالى ليس له إلا المملوكية فقط، فلا تكون الغفلة عند النظرة إلى غيره تعالى، وإذا كان كذلك فحق عبادته تعالى أن يكون عن حضور أي معبود حاضر وهو الموجب للالتفات المأخوذ في قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) التفات من الغيبة إلى الحضور(5).
النية والقربة في العبادات
والنيَّة معناها لغةً:
مطلق القصد وإرادة الفعل وما في حكمه كما في التروك و(أنويه: قصدته… ثم خصّت النية في غالب الاستعمال بعزم القلب على أمر من الأمور… )(6)، أما اصطلاحاً في عرف الفقهاء فأورد تعريفها في العروة الوثقى. (هي القصد إلى الفعل بعنوان الامتثال والقربة، ويكفي فيها الداعي القلبي ولا يعتبر فيها الإخطار بالبال ولا التلفظ، فحال الصلاة وسائر العبادات حال سائر الأعمال والأفعال الاختيارية كالأكل والشرب، والقيام والقعود ونحوها من حيث النية، نعم تزيد عليها باعتبار القربة فيها بأن يكون الداعي والمحرك هو الامتثال والقربة)(7).
نقلنا لك المعنى اللغوي للنية الذي يكون داخلاً في جميع الأفعال الاختيارية لأن من مبادئ صدور الأفعال هو العزم عليها إلا أن الأفعال العبادية يقصد بالإتيان بها الامتثال لله تعالى، فالامتثال فرع وجود الأوامر الإلهية والتكاليف الشرعية، فهذه الأفعال حتى تقع عبادة يؤتى بها على وجه التذلل والخضوع، أي أخذ المعبود إلهاً والتعبد له طاعة، وعلى هذا يكون معنى نية القربة المشترطة في العبادات وهو أن يأتي المكلف بالفعل من أجل الله سبحانه وتعالى، فهي الباعث نحو الفعل، وسواء كانت هذه النية وقصد الامتثال سببها الخوف من العقاب الإلهي أو رغبة في ثوابه تعالى أو حباً له وإيماناً بأنه أهلٌ لأن يطاع. فالعبادة تقع صحيحة إذا اقترنت بنية القربة على أحد هذا الأوجه(8).
والمراد من القرب الذي يتوخاه العبد في عبادته هو طلب الحضور بين يدي الرب والشهود عنده، بحيث كأنه يراه ويشاهده شهوداً قلبياً لا بصرياً، ويستفاد من كثير من الأدعية والروايات أن الغاية القصوى من العبادات هو لقاء الله تعالى ـ والوصول إلى هذه المرتبة التي هي أرقى المراتب التي يمكن أن يصل إليها الإنسان، وربما يتفق الوصول إليها بعد التدريب ومجاهدة النفس والتضلع في العبادة المستتبعة ـ بعد إزالة الملكات الخبيثة ـ لصفاء القلب وقابليته لمشاهدة الرب والسير إليه فيروم العابد بعبادته نيل هذه المرتبة التي هي المراد من التقرب منه تعالى(9).
المهم في هذا الأمر أن العبادة تبتني على الجانب العقائدي وإذا كان الإنسان مختاراً في أفعاله فهو قادر على التحلي بمكارم الأخلاق التي هي الهدف من البعثة النبوية، فهناك ارتباط بين الجانب المعرفي والاعتقادي وبين العمل أي هناك رابطة بين الملكات والأحوال النفسية وبين الأعمال، فكل علم واعتقاد يرتشح منه عمل خاص ـ فلا يتساوى عمل الجواد الكريم والبخيل في مورد الاتفاق مثلاً ـ وكذلك هناك علاقة بين نوع العلم صالحاً كان أو طالحاً وبين النفس وأحوالها فهو يحصّل نوعاً خاصاً من الاعتقاد ينسجم معه، قال تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر: 99)،
وورد عن الإمام الصادق(عليه السلام): (لا يثبت الإيمان إلّا بالعمل)(10) ـ وبناء على ذلك فإن الإنسان إذا أراد أن يتخلق بأخلاق الله تعالى وأن يصدر منه العمل الصالح عليه أولاً أن يصحح اعتقاداته القلبية وإلا إذا كان الاعتقاد فاسداً فإنه لا يصدر عنه إلا العمل السيء(11).
وبما أن الإنسان لديه قوة عاقلة وقوتان شهوية وغضبية، فالعاقلة تفيد لإدراك الضار والنافع ومعرفة عواقب الأمور، والقوتان الأخريان لأجل جلب الشيء النافع ودفع الضار ـ والمحرك لهما هو العلم والإدراك عن طريق العاقلة ـ فمن هنا كان عليه معرفة أساس وجوده ووجود هذا العالم والكون المحيط به، وما معنى العبادة بعد التأمل في مبدأ الإنسان ومعاده ودور ذلك في توجيه السلوك وارتباطه بالآخرة، فمن هنا يقال أن العبادة هي الغاية القصوى للتشريع حيث أنه سبحانه خلقهم وأرسل رسله ليعبدوه، والعبادة هي السبب في استكمال النفوس، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)،
قال الشيخ النراقي: (إن الغرض الأصلي في إيجاد الإنسان معرفة الله والوصول إلى حبه والأنس به والوصول إليه… يتوقف على صفاء النفس وتجردها… وصفاء النفس وتجردها موقوف على التنزه من الشهوات والكف عن اللذات والانقطاع عن الحطام الدنيوي وتحريك الجوارح وإيقاعها لأجله في الأعمال الشاقة والتجرد لذكره وتوجيه القلب إليه ـ ولذلك شُرِّعت العبادات المشتملة على هذه الأمور ـ إذ بعضها إنفاق المال وبذله… كالزكاة والخمس والصدقات، وبعضها الكف عن الشهوات واللذات كالصوم، وبعضها التجرد لذكر الله وتوجيه القلب إليه وارتكاب تحريك الأعضاء وتعبها كالصلاة، والحج من بينها مشتمل على جميع هذه الأمور مع الزيادة)(12)،
ويقول أيضاً: (لا ريب في أن المقصود من الطاعات شفاء النفس وسعادتها في الآخرة وتنعمها بلقاء الله سبحانه والوصول إلى اللقاء موقوف على معرفة الله… فإذا حصل بمجرد المعرفة الحاصلة من الفكر ميل وتوجه إلى الله تعالى كان ضعيفاً… وإنما يترسخ بالمواظبة على أعمال الطاعات وترك المعاصي بالجوارح، لأن بين النفس وبين الجوارح علاقة يتأثر لأجلها كل واحد منها عن الآخر فيرى أن العضو إذا أصابته جراحة تتألم بها النفس ـ وأن النفس إذا تألمت بعلمها بموت عزيز أو بهجوم أمر مخوف تأثرت الأعضاء وارتعدت الفرائض(13).
إذا كانت النفوس مخلوقة لغاية معينة فإن الذي يوجب سعادتها وشقاوتها في الآخرة هو ما يصدر عنها من الأفعال، وهذه الأفعال مرتبطة بالنيات أو الملكات وعلى ضوئها يحدد مصير تلك النفوس في الآخرة، ومن الأمور التي لها تأثير في أفعال الإنسان هي: الخوف والخشية من الحق تعالى والنية الصادقة والإرادة الخالصة، فأما الخوف والخشية من الحق تعالى فهي تبعث على التقوى، والتقوى بدورها تبعث على قبول آثار الأعمال أكثر، لأن وجود جو من التقوى يعني أن هناك تزكية للنفس وكلما كانت صفحة النفس ناصعة من حجب المعاصي كانت الأعمال الحسنة مؤثرة أكثر وتحقق السر الكبير للعبادات الذي هو ترويض الجانب المادي للإنسان وقهر الروح للبدن ونفوذ الإرادة الفاعلة للنفس بصورة أفضل. والخشية من الله تعالى التي لها التأثير التام في تقوى النفوس، هي من العوامل الكبيرة لإصلاح النفوس وذات دور في إصابة الأعمال وحسنها وتكون سبباً لقبولها، قال تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة: 27).
فالتقوى والخشية هي شرط في التأثير، فهما تقومان بتطهير النفس ورفع الموانع(14)، (ومن لم يجتهد في ترك المعاصي وكسب الطاعات فأي شيء من الخوف… وأقل درجات مما يظهر أثره في الأعمال أن يكف عن المحظورات ويسمى الكف عنها (ورعاً) فإن زادت قوته كف عن الشبهات ويسمى ذلك (تقوى)(15).
أما النية والإرادة الخالصة فهي من الأمور المهمة، لأن النية هي الإرادة الباعثة نحو العمل، وهي تتبع الغايات الدافعة نحو العمل وهذه الغايات هي انعكاس لما يدور في باطن الإنسان، فالميول والاتجاهات هي التي تحدد نوعية الفعل، ومن كان محباً لنفسه يتحرك نحو كل شيء ينسجم مع نفسه وهو يحاول تغليب إرادته وهواه على إرادة الشارع المقدس التي هي الأوامر والنواهي التي بها يكون الامتثال ومن هنا تحدث عملية الصراع في داخل الإنسان وتحدث بسببها المعاصي وما دام الإنسان يعيش في البيت المظلم للنفس لا يكون مسافراً إلى الله تعالى والوصول إليه والفناء بحضرته، إذاً الملكات النفسية الباطنية هي التي تتولد منها النيات والأعمال، والأعمال تتبع النيات، ومن هنا فإن طريق تخليص الأعمال من الشوائب النفسية والدنيوية ينحصر في إصلاح النفس وملكاتها أي حالاتها الباطنية(16).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1) مكارم الأخلاق/الطبرسي/ص8. 2) بحوث قرآنية في التوحيد والشرك الشيخ جعفر سبحاني ص31ـ ص36 وص48. 3) المصدر السابق ص24ـ 25 وص49. 4) تفسير الميزان ج14 ص110. 5) انظر المصدر السابق: ج1، ص28ـ 29. 6) المصباح المنير للفيومي ص631 ـ 632، مؤسسة دار الهجرة الثالثة في إيران 1425 هـ. 7) مستند العروة الوثقى تقريرات السيد الخوئي(قدس سره) للشيخ البروجردي ج3 ص13. 8) انظر الفتاوى الواضحة: ج1، ص150. 9) مستند العروة الوثقى: ج3، 15. 10) هداية الأمة /الحر العاملي/ج1ص21. 11) مقدمة في علم الأخلاق ص97. 12) جامع السعادات ج2، ص607 للشيخ محمد مهدي النراقي. 13) المصدر السابق ج2، ص345. 14) الأربعون حديثًا/السيد الخميني ص301. 15) جامع السعادات ج1 ص253ـ 254. 16) الأربعون حديثاً ص307.