القرآن الكريم كتاب عقيدة وهداية، لكنه استوعب كل ألوان التعبير الفنية لدى العرب في آدابهم، وزاد عليها من الأساليب الفنية في الأداء والسرد القصصي بما فيه من الإبلاغ والتأثير في متلقيه، كما جاء فيه من الوصف لأهل الدنيا والآخرة وضرب الأمثال بما يوحي بما لا يخالطه شك من أن هذا ليس بكلام بشر، وإنما هو وحي يوحى من لدن عليم خبير، لأن هذا الاتساع الكوني في الحديث والوجود، والتعبير عن المخلوقات من الملائكة والإنس والجن والحيوان والزرع والثمار والحياة والموت، ثم خلق الأرض والسماء وتزيينها بالنجوم الثواقب، هذا الحديث لا يصدر إلاّ عن خالق السماوات والأرض، سبحان الله عما يصفون وكل ذلك يعبر عنه بصور ماثلة في ذهن المتلقي وبأمثال يتداولونها في حياتهم أو يحسون بها في حياة الأقوام والأمم قبلهم.
ونذكر وصف قدرته تعالى في سورة الرعد، الذي رفَعَ السموات بغير عَمَدٍ ثم استوى على العرش، وصف بتعبير فني متسلسل بكلمات تدخل القلب قبل الأذن متناسقة في تراكيبها ومشرقات بدلالاتها
(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الرعد 2-3)
هذه الآيات الكونية التي أوجدها الله تعالى: خلقه السماوات ورفعها بغير عمد وتسخيره الشمس والقمر (كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى) (لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس -4) ثم (هُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ) أي جعل فيها جبالا لتتوازن (وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ..) كل ذلك من خلقه ونظامه ومع ذلك يحصل شك بقولهم: (أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ..)
وبعد وصف هذا الشك بالكفر بربهم يذكّر هؤلاء الذين يشكون ويستعجلون السيئة قبل الحسنة أنه حصل قبلهم أمثالهم (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ) وهي جمع مَثُلة أي حالات أمثالهم لكن (رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ) (الرعد – 6)
وبعد ذكره الحكمة الخالدة (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) وهي موجهة للمشككين بعد أن بين لهم قدرته تعالى وآياته في الأرض والسموات عاد إلى أوصافه تعالى (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ * لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ) (الرعد 11 – 14)
فهم بذلك لا يرجون شيئًا من توجههم لغير الله فهم كمن يريد شرب الماء بكفين مفتوحتين، إذ هم اتخذوا من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، فهم بجعلهم لله شركاء، ضالون يساوون بين الأعمى والبصير وبين الظلمات والنور: (هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ)(16)
ثم يأتي المثل الآخر، الحكمة في هذه الآيات قوله تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ)(-17)
وتستمر صفاته وآياته والمشاهد المختلفة في القرآن الكريم لتذكير الناسين مرة ولعظة المعاندين أخرى ومرة لتسلية رسوله الكريم مما يلاقيه من الجاحدين قال تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (الفرقان 43 – 44)
ثم يستمر في ذكر آياته في خلق الأرض وما في الكون من ظواهر (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) (الفرقان– 45)
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا) (الفرقان 47-48) ثم يقول: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا*وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا) (الفرقان 53-54)،
ومع كل هذه الآيات الكونية والأرضية لله تعالى نجد الكافرين يبقون عميًا عن كل ذلك: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) (الفرقان-55)، لذلك يكون مشهدهم يوم يرون جزاءهم فيعودون بالحسرة والندم:
(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا* وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً) (الفرقان25- 29)
هكذا وصف مشهد الكافرين حين رأوا مصيرهم كيف غرقوا في ندمهم وأسفهم على ما فرطوا من أمرهم.. جاء بأسلوب فني عال وبمجازات آسرة للذوق والفكر.
ومما وصف به الكفار والمنافقين وصفًا يروع من يقرأ إيقاعاته، ويتصور صوره البلاغية العالية وأداءها بأسلوب إعجازي تحدى العرب فتضاءلت فصاحتهم وقدراتهم تجاهه قال تعالى في سورة البقرة: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) (6 – 12)
وبعد هذا الوصف ضرب لهم المثل بمن استوقد نارا (فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ) (البقرة-17)، فهم تائهون ضالون لأنهم اشتروا الضلالة بالهدى فيصيبهم الخسران وعدم الهداية.
ثم خاطبهم بـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) وهو خطاب عام (اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ..) فقد مهد لهم الأرض وجعلها فراشًا ورفع السماء وأنزل المطر فأنبت الأرض زرعًا وثمرات لحياتهم ورفاههم، ونهاهم عن عبادة غير الله (فَلاَ تَجْعَلُواْ لِله أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) ثم تحداهم وخيرهم ليكونوا على هدى أو يبقون على ضلالهم ليلقوا جزاءهم بقول: (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (البقرة: 23 – 24)
وهذا مشهد آخر فيه تنبيه وتهديد، ووصف لحالة من لا يتقون ربهم ويصرون على عنادهم وكفرهم، بدايته خطابه للناس كافة، ووصف ناطق لما يكون لمن لم يؤمن (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) (الحج 1- 2)
ثم يعيد الخطاب بعد ذكر من يجادل في الله (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ) (الحج -3)
يوجه لهم الخطاب (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ…) (الحج – 5)،
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ) (الحج 6، 7)
ثم نقرأ في (سورة النبأ) وصفًا وصورًا جميلة لما خلق الله للإنسان من نعم ثم بعد هذه القطعة من الوصف وألوانه الزاهية (عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلاَ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَ سَيَعْلَمُونَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الأًرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) وتستمر هذه اللوحة الزاهية من الصور القرآنية حتى إذا وصلنا الآية الثامنة عشرة يأتي المشهد المريع للساعة التي ينفخ في الصور: (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا * وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا * إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلْطَّاغِينَ مَآبًا…)
وهكذا يستمر المشهد حتى الآية (30) بعبارات واضحة قصيرة لكنها ترسم للمتلقي صورًا مجسدة في أفقه حتى ليكاد يسمع إيقاعات موسيقى الكلمات أصواتًا تملأ عالمه وتذهل فكره.
ثم يعود المشهد من الآية (31) إلى رسم ما للمتقين من جزاء وحياة مع التوكيد في أول عبارة فيها: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذَّابًا * جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا) ويستمر الوصف حتى ختام السورة بقوله تعالى: (إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) ( – 40)
ويتكرر المشهد في (سورة الحاقة) إذا نفخ في الصور وما يكون من مشهد الأرض والسماء وحساب البشر فمنهم من أوتي كتابه بيمينه فيفوز بعيشة راضية، ومن أوتى كتابه بشماله فيجزع ويأسف لما قصر في أمر نفسه فلم يغن عنه ماله ولا سلطانه في الدنيا إذ لم يلق الإنسان إلا عمله وتقواه وصوالح أعماله في الدنيا من الآية (13)
(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأًرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأًيَّامِ الْخَالِيَةِ) (13 – 24)،
ثم يبدأ مشهد من أوتي كتابه بشماله (فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ) ( – 25)، ويظهر ندمه وأسفه على تقصيره في ذات الله وفي ذات نفسه، فيظهر حسرته حتى يرى المشهد الزاهي للمتقين، وهو يقاد إلى الجحيم بسلسلة ذرعها سبعون ذراعا لأنه (كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) (33 – 34)
وهذه المشاهد التي تصور قيام الساعة وحال الناس في ذلك اليوم، كل منهم يلاقي عمله في الدنيا فيجزى على ما عمل يوم لا يسأل الإنسان إلاّ عن عمله، فلا شفيع له غير عمله وما قدمه في حياته من التقوى والخير وخدمة المجتمع وما تطلبه منه عقيدته التي أوضحها له القرآن الكريم ونبيه وأئمته الطاهرين فذلك اليوم: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَن فِي الأًرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلاَ إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى) (المعارج آية 8 – 18)
فالمشاهد القرآنية يأتي وصفها في الآخر بعد أن يبدأ الإنذار والتنبيه لها في الدنيا، فالحياة الراضية تكون لمن يسلك في حياته سلوك المؤمن الخالص الإيمان، ومصير الندم في الآخرة لمن جادل في الله من غير علم، وانحرف عن الصراط المستقيم في حياته.
الأمثال في التعبير القرآني
جاءت الأمثال في القرآن الكريم لمناسبات مختلفة، جاءت للتذكير وللعظة والتنبيه ولإشاعة الوعي بين الناس بصور الحياة المختلفة من عسر ويسر، وبأن الحياة لا تكون على صورة واحدة، وإنما يقلبها الله ويغيرها، بحسب حاجة البشر من الخبرة وشكر الرحمة وعدم الطغيان في الحياة، لأنها لا تدوم لأحد ولن يستطيع أحد إدامتها على ما يشتهي، قال تعالى: (وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (إبراهيم – 25)، وكثير من هذه الأمثال متداولة صورها بينهم وعلى ألسنتهم أو يكون لها أثر وتأثير في نفوسهم حين تبدو صوراً في أذهانهم عند إبلاغهم بها.
وقال: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا) (الكهف – 54)
لقد مثل لمن يدعون من دون الله، وليس لدعواه صدى ولا سامع، ويبقون يدعون من دون أن يسمعهم أحد ولو ظلوا طول حياتهم. قال تعالى: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ) (الرعد-14)، وكذلك مثل لمن يدعون من دون الله بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (الحج – 73)
هذه الأمثال التي فيها سرد متسلسل وحوار قصصي تكثر في القرآن الكريم إلى جانب الأمثال القصيرة التي هي حكم وعظات تهدي وتعظ الأحياء ليتدبروا أمرهم ويبتعدوا عن كل ما يبعدهم عن الحق والإيمان.