نزلت التشريعات السماوية لتنشر بين أهل الأرض مفاهيم وأوامر تهذب ما تهذب من سلوك أبناء المجتمع الإنساني، وتقوم ما تقوّم من سلوك الأفراد، بوصفهم أفرادًا في مجتمع إنساني يشكل كل فرد منهم انطلاقة نحو خلق التكامل الإنساني المنشود.
ومن خلال تتبع خاطف للحضارات الإنسانية نجد مفاهيم وأوامر إلهية وسِعت هذه الحضارات ـ على تباعدها المكاني والزماني ـ وعملت فيها آثارها الواضحة. فضلًا عن العادات والتقاليد السائدة أصلًا بين الأفراد والجماعات المكونة لتلك الحضارات.
من هذه المفردات ـ سواء أكانت أوامر سماوية أو عادات سائدة ـ مفردة الصوم، التي لم تَغِب عن جزئيات المجتمعات الإنسانية على تنوعها، إذ نجد لها موضعًا بارزًا يختلف تطبيقه بين أمة وأخرى أو بين شريعة وأخرى. وفي هذا الشأن كلام يطول بيانه ويتجاوز الحد المألوف من هذا الحيز من الوريقات.
إن معنى الصوم هو مطلق الامتناع والإمساك، سواء الطعام أو الشراب أو الكلام أو الجماع أو العمل، قال ابن منظور: (الصوم: ترك الطعام، والشراب، والكلام: صام يصوم صومًا وصيامًا، … والصوم في اللغة: الإمساك عن الشيء، والترك له، وقيل للصائم: صائم؛ لإمساكه عن المطعم والمشرب، والمنكح، وقيل للصامت: صائم؛ لإمساكه عن الكلام، وقيل للفرس: صائم؛ لإمساكه عن العلف مع قيامه… قال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام، أو كلام، أو سير فهو صائم)(1).
والذي نريد القراءة فيه هنا هو الصوم عن الكلام، وفيه محاور وآراء وأقوال. فهو بين حلال وحرام، وبين حلال في شريعة وحرام في أخرى، وبين سلوك اجتماعي نفسي وآخر هو اعتيادي وتقليد. فالصمت في مصر القديمة فيصل بين الحكمة والحمق أو السفاهة، إذ نجد عند الفراعنة أن الإنسان الصامت هو الذي يوصف عندهم بالحكمة فيحظى باهتمام الملك ورعايته وينجو مما يسبب له الأذى أو الهلاك، وفي مقابل ذلك يرون الثرثار إنسانًا لا يستحق أن ينال عطف الملك أو اهتمامه أو رعايته، بل هو عندهم إنسان لا قيمة له ومن ثم فهو منبوذ مطرود.
الصوم صمتًا معروف عند دين المسيحية، أقره الكاثوليك وهو عندهم فرض على الرهبان والقساوسة في أحوال بعينها، وهو من المستحبات عند من دونهم، وكانت فرقة من فرقهم اسمها (الترابسيت) أكثرهم تشددًا في هذا النوع من الصوم، إذ جعلته مُلزمًا لأتباعها فكانوا يعتزلون الناس في أماكن يسكنونها ويمتنعون عن الكلام إلى الموت.
وفي الجاهلية مارس العرب هذا النوع من الصوم، وهو (الضَرْس) ويعني في اللغة: صمت يوم إلى الليل، وبقيت جماعة منهم على هذا التقليد حتى بعد الإسلام بمدة.
وجاء الإسلام فحرم ما حرم وأقر ما أقر وهذّب ما هذب، بوصفه شريعة إلهية خاتمة للشرائع السابقة، وبوصفه نظرية كونية شاملة صالحة حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ومع وجود بعض الأعمال في الشرائع السابقة للإسلام وأنها كانت سائدة ولم يرد فيها نهي، إلا أن هذا لا يعني ـ في عقيدتنا ـ أنه خاضع عندنا للحلية أو الإباحة أو الجواز أو ما سواه من الأحكام العبادية، مالم يكن ورد في التشريع الإسلامي بأدلته المعروفة.
القرآن الكريم وردت فيه آيات ذكرت هذا النوع من الصوم، وقد تنوعت إشارات المفسرين في دلالاتها، وهذه الإشارات تكاد تجمع على وجود هذا النوع من الصوم ولكن من دون تفصيلات، وهذا ملحظ مألوف في النص القرآني، وبوجود العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمحكم والمتشابه وما سواها من العلوم التي تسلط الضوء على الدلالات القرآنية، تظهر آفاق الدلالات التي لا يتسرب إليها الخلل في شأن تسليط الضوء على هذا الضرب من الصوم.
لقد أمر الله تبارك وتعالى زكريا بقوله: (آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النّاس ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) (آل عمران: 41). ووُجهت السيدة مريم (عليها السلام)
الى الصوم عن الكلام: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (مريم: 26). والذي أشرنا إليه قبل أسطر من شبه إجماع لدى المفسرين هو جواز ذلك في شريعتها وشريعة قومها السائدة قبل مبعث عيسى (عليه السلام)،
أو أن السيدة مريم لم تكن عندها وسيلة أخرى تدفع عن نفسها ما أرجف به قومها من مخالفتها طبيعة الأشياء وولادتها السيد المسيح من غير أب، ولدفع سوء الظن الذي تولّد من ذلك. فكان أن اكتفت السيدة مريم بالإشارة عندما أرادت أن تبلغ قومها بما وقع من هذه الولادة غير المألوفة، إذ لا كلام ينفع وهي تحمل ابنها الذي ولدته من غير أب، وعُضد ذلك بكلام عيسى (عليه السلام)
ليدفع بذلك سوء الظن ويثبت براءتها. قال تبارك وتعالى: (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا. يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا. فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا. قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (مريم: 27 – 30).
وجاء في روايات عدة أن في شريعة اليهود تحريم الطعام والكلام عند الصوم.
الإسلام حرّم الصوم المطلق عن الطعام والشراب والجماع وما سواه من الرغبات الطبيعية غير المحرمة، كما حرّم الصمت المطلق حتى لو كان صومًا. ففي الصوم المطلق عن الطعام والشراب هلاك للنفس الإنسانية وابتعاد عن التوجيه الإلهي: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31). وفي الصوم المطلق عن الكلام هلاك أشد وطأة في نتيجته على الفرد الإنساني وعلى محيطه الإنساني. والنصوص التي وردت عن المعصومين (عليهم السلام) متواترة ولا لبس فيها وهي تحرم هذا الضرب من الصوم.
فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إِنَّ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله) قَال: لا وِصَالَ فِي صِيَامٍ ولَا صَمْتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ)(2). وفي حديث الزهري عن الإمام زين العابدين (عليه السلام)
قال: (وصَوْمُ الصَّمْتِ حَرَامٌ)(3). وبإسناده عن الإمام الصادق (عليه السلام) روى الصدوق في وصيّة النبي (صلى الله عليه وآله) للإمام علي (عليه السلام) قال: (ولا صَمْتَ يوم إلى الليل… إلى أن قال: (وصوم الصمت حرام، وصوم نذر المعصية حرام، وصوم الدهر حرام)(4).
عقيدتنا السمحاء جاء فيها تشريع الصوم بسمو وكمال لا يدانيهما سمو وكمال في شريعة أخرى أو حضارة ما أو ثقافة ما. فقد وُجد ليناسب ما تريده النفس الإنسانية في جوانبها المادية والروحية، أي: على مستوى الأبدان والأرواح، إذ في الصوم انقطاع من الإنسان عن الطعام والشراب، وفيه كف عن الاستجابة للغرائز والشهوات ومحاربة نزعاتها، وفيه امتناع عن الكلام. هذه التوقفات والامتناعات والكف، لم يطلقها الإسلام من دون قيود، بل نظمها وأطّرها في أطر لا توقف دورة الحياة الطبيعية بجزئياتها، بل تضعها في إطار لا يتسرب اليه الخلل الذي يضع الإنسان في دوامة من التعطيل والابتعاد عن وظيفته الإنسانية التي خُلق لها. هذا الإطار هو المدة المعقولة للصوم سواء في ذلك الصوم عن الطعام والشراب أو الصوم صمتًا. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إذا كان أحدكم صائما، فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إنّي صائم إنّي صائم)(5). وأضاف (صلى الله عليه وآله): (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت)(6). وأكد قائلًا: (من ضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه، ضمنت له الجنّة)(7)، وقال (صلى الله عليه وآله):
(من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه)(8).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): (صوم القلب خير من صيام اللسان وصوم اللسان خير من صيام البطن)(9).
فالصوم عن الطعام والشراب لمدة محددة معروفة حري بأن يرافقه امتناع اللسان عن الوقوع في الآثام، ونبذ اللغو، واقتصار اللسان على ما يهذب النفس ويكفها عن الانحدار إلى الغيبة والنميمة والفحش وما سواها من آفات اللسان الذي نبّه الله تبارك وتعالى إليها في مواضع كثيرة في القرآن الكريم. قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) (المؤمنون: 3). (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) (الفرقان: 7). (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص: 55). وفي ذلك إشارة لا تخفى على لبيب وتنبيه مفاده للكلام نتائج مترتبة قد تكون أشد من النتائج المترتبة على الأفعال، وفي ذلك تنبيه آخر يحض على عدم الاستخفاف بما يتفوه به الإنسان، فقال تبارك وتعالى: (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق: 18).
إن المدنية الحديثة قد سدّت على الناس أبصارهم ومسامعهم، وجعلتهم في دوامة من السعي نحو منزل أفخم ومركب فاره والنزوع نحو الملذات المتكاثرة تكاثرًا خرافيًا، ومن ثم حولت الإنسان إلى جسد يتحرك على أسس حربية في معركة لا تنقطع مع نفسه ومع محيطه. هذه المعركة المستمرة لا بد من أن يكون اللسان سلاحها المقدم على الأسلحة كلها. ومن حيث علم أو لم يعلم نجده في حاجة ملحة للانقطاع عن هذا اللهاث القاتل وراء غرائزه.
إن الذي نلحظه من تراكمات هذا السعي الحثيث هو معاناة الفرد الإنساني من الشرود والتشتت الذهنيين، وتسارع الأفكار واشتباكها الذي يؤدي إلى القلق غير المنقطع، فهو في النهار اضطراب وشرود وتشتت، وفي الليل يتجسد في الأرق الذي صار حالة سائدة عند كثير من أفراد مجتمعنا، وصرنا نكتشف بين يوم وآخر صديقًا أو قريبًا أو جارًا لا ينام إلّا بتعاطيه المهدئات أو أقراص النوم! بل وصل الأمر إلى مراجعة الطبيب بحثًا عما يخفف هذه الأعراض النفسية أو يباعد قليلًا بين الإنسان وآلامه الناجمة عن التعاطي السلبي مع ما تنادي به الحياة الدنيا وأحابيلها، لذا نجدهم يتحدثون عن نصائح من خبراء في النفس والمجتمع فحواها (الصوم عن الكلام) والابتعاد عن الناس في مواعيد دورية يومية أو شبه يومية ليختلي الإنسان مع نفسه ويهدأ ويراجع مفردات يومه بتفكر وروية واسترخاء بما يوفر له تطهيرًا لنفسه وهمومها، وبما تشرق له ومضات عقله من التحرر من ملايين من الأفكار والمعلومات وتزاحمها وتشابكها بصورة تضعها في حيز التعقيد والتعسف في استخلاص الأفكار المتزاحمة المتطلعة إلى قرارات إيجابية تنظم حياته، وبما يوفر له الاستقرار النفسي، والتخلص من الالتزامات الاجتماعية الضاغطة على مفردات النفس الإنسانية، والتحرر من نزعات البلبلة والضياع والتلاشي في آفاق العتمة والضبابية اللتين تتولدان من هذا التنازع بين حاجة الإنسان إلى توفير شيء من الدعة والسكون لنفسه وبين إغراءات هذه الآفاق التي لا تنتهي إلّا بنهاية الإنسان الطبيعية.
لقد بدأت تبرز هنا وهناك نداءات غير مسبوقة من لدن معاقل المدنية الغربية المكتنزة مادة وملذات؛ نداءات تركز على ضرورة التنبه إلى خيار التوقف عن الكلام وفوائد هذا التوقف ومردوداته الإيجابية على صحة الإنسان.
ويمكننا أن نقرر حقيقة نخرج بها من هذا الحديث الخاطف بشأن الصوم صمتًا، واضعين نصب أعيننا وسطية عقيدتنا السمحاء واعتدالها وصلاحيتها لمحاورة النفوس مهما تعددت أصنافها ومرتكزاتها وميولها، وهو أن الفيصل بين حرمة هذا الصوم وحليته هو الانقياد الكامل لأحاديث نبينا الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) وهي تفوق الحصر هنا، وفي واحد منها نراه جامعًا مانعًا، قوله (صلى الله عليه وآله): (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت)(10). وإحياء ذلك في شهر الصيام فرصة مثالية فضلًا عن أنها عبادة نسأل الله تعالى العون فيها>