Take a fresh look at your lifestyle.

من أيام شهر رمضان يوم الفرقان

0 558

الأيام التي ذكرها الله في كتابه العزيز وعظّمها كثيرة، ومنها: يوم الجمعة، ويوم الحج الأكبر، ويوم حُنَين، واليوم الموعود، ويوم الوقت المعلوم، ويوم يبعثون، ويوم الجمع، ويوم الدين، ويوم القيامة، ويوم التغابن، ويوم الحسرة، ويوم الفصل، واليوم الآخر.
ومن تلك الأيام التي أعلى شأنها ما وقع في شهر الله رمضان، إذ خاطب الله المسلمين مذكراً إياهم بذلك اليوم المشهود، قال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال:41ــ42)
والخطاب في هاتين الآيتين وما بعدهما فيه من المضامين الاعتبارية الشيء الكثير، وقبل البدء بعرضها إجمالاً وتفصيلاً على قدر المستطاع، لا بُدّ من بيان شيء عن عناية الباري عزّ وجلّ بشأن ذلك اليوم، ولعلّ أول ما ينصرف إليه الذهن أن مكانة هذا اليوم تتضح في أنه من أيام شهر الله رمضان، أفضل الشهور منزلة، وأتمّها ثواباً عند الله، وأن هذا اليوم قد ارتبط بحادثة لها مكانة كبيرة في الإسلام وهي وقعة بدر، التي انتصر فيها المسلمون وهلك فيها أئمة المشركين، فكان لذلك أعظم الأثر في ارتفاع راية الإسلام، وانكسار شوكة الكفر. ولعلّ ما يسند تلك المكانة أن هذا اليوم قد أضيف إلى الْفُرْقانِ إضافة تنويهٍ به وتشريفٍ. وقبل ذلك الإشارة إلى التشريفات الغيبية التي أُنزلت في ذلك اليوم على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)،
فقوله تعالى: (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) فيه الدليلُ على أنّ قدرة الله غالبة، فما جرى في بَدْرٍ لم يكنْ على مُتَعَارَفِ الأسباب، فقدرةُ اللهِ قَلَبَتِ الأحوالَ وأَنْشأتِ الأشياءَ على غير مجاريها، ولا يبعد القول إنّ من أسباب تسمية ذلك اليوم بـ (يوم الفُرقان) على جهة الإضافة، أنه أُضِيفَ إِلى الفرقان الذي هو لقبُ القرآن، إذ المشهور في التواريخ أن ابتداء نزول القرآن كان يوم السابع عشر من شهر رمضان، فيكون ذلك من استعمال المشترَك في معنييه(1).
وقد فسّر العلماء (الفرقان) الوارد في الخطاب الإلهي بمعنيين(2)، تبعاً لأصلهما اللغوي فمنهم من اشتقَّه من الفعل (فرّق)، وعليه هو مصدر فرّقتُ بين الشيئين أُفَرِّقُ فَرْقاً وفُرْقاناً، كالرُّجْحان والنُّقْصان. ثم يُسمّى كلّ فارقٍ: فُرقاناً، كتسميتهم الفاعل بالمصدر. وسُمِّي القرآن فُرقاناً، لفصله بحججه وأدلته بين المحقّ والمبطل. وسُمِّي (يوم الفرقان) بيوم بدر، لأنه اليوم الذي فرّق بين الحق والباطل. ومنهم من اشتقّه من الفعل (انفرق)، ومنه انفراق البحر وهو من عظيم الآيات، ويدلّ عليه قوله تعالى في قصة نبي الله موسى(عليه السلام): (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (البقرة:50)، وعليه يكون معنى (يوم الفرقان) يوم انفراق المشركين عن المؤمنين بانهزامهم.
ولعلّ المعنيين المذكورين عند المفسرين يرجعان إلى معنى جامع هو التباعد بين شيئين، فالتفرّق والانفراق كلاهما يحمل معنى التباعد، ويوم الفرقان كان يوم تباعد بين دين الحق ودين الباطل، فانماز كلٌّ منهما عن الآخر بوضوح (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ).
ولكن هذا المعنى الذي ذكره المفسرون يمكن أن يُتوسّع فيه ليشمل مضامين أخر يمكن بيانها، بعد عرض موجزٍ لمداليل هذا الخطاب القرآني، وأهمها:
1ـ بيّن النص القرآني حكم الله في الغنائم، وأن مردها إلى الله ورسوله ليحكم فيها، وأن المسلمين ما كان لهم أن يتنازعوا في قسمتها.
2ـ ثم احتجّ لذلك باستدلالٍ لمسه المسلمون بأنفسهم يوم الفرقان وما حدث فيه من ألطاف إلهية هيّأت أسباب النصر في المعركة، قبلها، وفي أثنائها، وبعدها. فقد أدركوا رؤيا الرسول الصادقة التي أخبرهم بها قبل المعركة ليزدادوا جسارة على الأعداء، قال تعالى في ذلك: (إذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (الأنفال:43)، ورميه (صلى الله عليه وآله) بالحصى في أعين المشركين، فسبب ذلك هزيمتهم، قال تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى) (الأنفال:17) والإمداد بالملائكة المردفين، قال تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (الأنفال: 9) وغير ذلك من الفيوضات الرحمانية التي شهدها ذلك اليوم العظيم.
3ـ أظهر الخطاب أن غايات الإنسان وتدبيراته لتحقيقها قاصرة قبالة التخطيط الإلهي وأغراضه التي لا تدركها عقول البشر. فهم أرادوا الغنائم، لكن الله أراد العزة لرسوله ودينه والمؤمنين به، قال تعالى: (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) (الأنفال: 7).
4ــ قرّر النص القرآني أن النصر وغلبة الأعداء منشؤهما من الله تعالى، وأن المسلمين ما هم إلا أداة من الأدوات المعدة لإظهار الأسباب الطبيعية للنصر، قال تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ)(الأنفال:17) ، فالباري (عزّ وجلّ) يمتنّ على المسلمين فيُظهر النصر على أيديهم فيعلو شأنهم وتُهاب شوكتهم، ويعظم خطرهم في أعين أعدائهم ، فيجب أن يشكروه بالطاعة والتسليم، قال تعالى: (وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ) (الأنفال: 10ــ 11)
5ـ كشف النص عن تزامن الجهاد الأكبر، والجهاد الأصغر في شهر رمضان من تلك السنة، فدلّ ذلك على أن هذا الشهر الفضيل شهر طاعة وعمل، لا شهر دعة وكسل.
ولعلّ المتأمل في معنى يوم الفرقان يجد مضامين أُخَر غير ما ذُكر، فيوم الفرقان يومٌ أُعِدَّ له إعدادٌ ربانيّ، وهُيِّئت له كلّ الأسباب الواقعية في هذا العالم، ليتحقق الفرقان بين الحق ـ الذي قامت عليه السماوات والأرض، وقامت عليه فطرة الأشياء والأحياء، الحق الذي يتمثل في تفرُّد الله سبحانه بالألوهية والسلطان والتدبير والتقدير وفي عبودية الكون كلِّه: سمائه وأرضه، أشيائه وأحيائه، لهذه الألوهية المتفردة ولهذا السلطان المتوحد، ولهذا التدبير وهذا التقدير بلا معقب ولا شريك ـ وبين الباطل الزائف الطارئ الذي كان يعمُّ وجه الأرض. فهذا هو الفرقان الكبير الذي تم يوم بدر، إذ فُرِّق فيه بين ذلك الحق وطغيان الباطل فتزايلا بعدُ ولم يلتبسا.
وكان ذلك أيضاً فرقاناً بين الوحدانية المطلقة والشرك بصوره كلِّها من عبادة الأشخاص والأهواء والقيم والأوضاع والتقاليد والعادات، والرجوع في هذا كله لله الواحد الذي لا إله غيره، ولا متسلط سواه، ولا حاكم من دونه، ولا مشرّع إلا إياه. فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله وتساوت القامات لا تخضع إلا لحاكميته وشرعه، وتحررت البشرية التي كانت مستعبدة للطغاة.
وكان يوم الفرقان كذلك فرقاناً بين عهدين في تاريخ الإسلام: عهد الصبر والمصابرة والتجمع والانتظار، وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع، فأُعلن رسمياً عن انتهاء فترة المهادنة مع الباطل، وبدءِ مرحلة الدعوة إلى الإسلام بوصفه تصوراً جديداً للحياة، ومنهجاً جديداً للوجود الإنساني، ونظاماً جديداً للمجتمع، وشكلاً جديداً للدولة، وإعلاناً عاماً لتحرير الإنسان بتقرير إلوهية الله وحده وحاكميته، ومطاردة الطواغيت التي تغتصب حكمه، فالإسلام بعد هذا اليوم لم يكن له إلا القوة والحركة والاندفاع لتحقيق التصور الجديد، والمنهج الجديد، والدولة الجديدة، والمجتمع الجديد، وأن يزيل من طريقه كلّ العوائق المادية التي تحول دون ذلك(3).
ولعلّ تقييد يوم الفرقان بـ (يوم التقى الجمعان) وتحديد مكانه وزمانه فيه الإشارة إلى غرض إِحضارِ ذلك اليوم في أذهان المسلمين، ليلزَمَ منه شُكرِ نعمتِه، وحُسْنَ الظّنِّ بوعدِهِ والاعتمادَ عليه في الأمور كلها، فالمسلمون في بدر كَانُوا في أشد حالات الضعف تُجاهَ عدوهم، إذ كان المشركون مكتملي العدد والعُدّة، وقد تمهّدت لهم أسباب الغلبة من حيث حسن تمركز الجيش، إذ كانوا بالعُدوة القُصوى التي فيها الماء لسقياهم والتي كانت أرضها صلبة مهيّأة لحركة الأفراد والخيل، وأمّا المسلمين فكانوا نازلين بالعدوة الدنيا، في أرضِ مقفرة لا ماء فيها، تسوخُ فيها الأرجل من لين رملها، فضلاً عن أن العير التي كانوا يطلبونها قد فاتتهم وحلّت بمأمن خلف ظهور جيش المشركين، فكان من المتوقّع أن يكون دفاع جيش الأعداء عن أموالهم دفاعًا شرسًا، فكان ظاهر هذه الحالة ظاهر خيبةٍ وخوف للمسلمين، وظاهر فوزٍ وغلبةٍ للمشركين، فكان من عجيب عنايته سبحانه بنصر المؤمنين أن قلب تلك الحال رأسًا على عقبٍ، فأنزل من السماء مطرًا تطهّر به المسلمون جسديًا ونفسيًا من أسباب خوفهم، وسقوا به عطشهم، وأيقنوا برعاية الله المحيطة بهم، وتَعَبَّدَتْ به الْأَرْضُ تحتهم وتصلّبت فساروا فيها بيسر، وفي المقابل تهيأت الأسباب لهزيمة المشركين بهذا المطر النازل عليهم وبالًا، إذ صارت به الأرض تحتهم وحلًا وزلقًا، يثْقُلُ فيها السيرُ، ومُنعوا من السقي، وأُلقي في قلوبهم الرُّعب(4). فكان ذلك فرقاناً بين تصورين لعوامل النصر وعوامل الهزيمة، إذ كانت عوامل النصر الظاهرية -كما تبيّن – كلّها في صفِّ المشركين وعوامل هزيمة المسلمين الظاهرية جليّة للعيان، منطوقة باللسان (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ) (الأنفال: 49).
ولكنّ الله (عزّ وجلّ) أراد أن تجري المعركة على هذا النحو – وهي المعركة الأولى بين الكثرة المشركة والقلة المؤمنة – لتكون فرقاناً بين تصورين وتقديرين لأسباب النصر وأسباب الهزيمة ولتنتصر العقيدة القوية على الكثرة العددية وعلى الزاد والعتاد، فيتبين للناس أن النصر للعقيدة الصالحة القوية، لا للسلاح والعتاد، وأن أصحاب العقيدة المؤمنين بها عليهم أن يجاهدوا ويخوضوا غمار المعركة مع الباطل غير منتظرين تساوي القوى المادية الظاهرية، لأنهم يملكون قوة أخرى ترجح الكفة. وقد تحقّق ذلك واقعاً، وشهده المسلمون والمشركون عياناً.
وحريٌّ بنا ـ ونحن نستقبل شهر رمضان ـ
أن نتلمس تلك المضامين المستوحاة من هذه النصوص القرآنية المباركة لنأخذ منها الدروس والعِبَر، ونستنبط منها الحكمة، إذ أن سُنّة الله جارية في أيامه، مستحكمة بين عباده.
فنسأل الله ونستشفعه بأحبّ الخلق إليه محمد وآل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) أن يُجري سنته في عباده المؤمنين من أبناء هذا البلد المجاهد في حربهم ضد أعداء الدين والبشرية، فيُهيِّئ للمجاهدين السائرين في درب أصحاب يوم الفرقان أسباب النصر الدائم لتنكسر شوكة المجرمين والمنافقين. وليكن شهر الله رمضان، ويوم الفرقان من أيامه حافزاً على الطاعة والتسليم المطلق لله سبحانه وتعالى، ومَن ينصره الله فلا غالب له>

 

د. هاشم جعفر الموسوي
جامعة بابل/كلية التربية


1) ينظر: الموسوعة القرآنية للأبياري 1/398.
2) ينظر: التبيان في تفسير القرآن الطوسي 5/120، والميزان للطباطبائي 3/4.
3) ينظر: في ظلال القرآن 3/1526ــ1527.
4) ينظر: مجمع البيان للطبرسي 4/420، والأمثل لمكارم الشيرازي 5/447.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.