Take a fresh look at your lifestyle.

خطبة النبي (صلى الله عليه وآله)

0 564

لعلنا لا نجد في أحاديث المعصومين (عليهم السلام) المروية في بيان فضيلة شهر رمضان المبارك نصًا أجمع من خطبة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) التي ألقاها في آخر جمعة من شهر رمضان في إحدى السنين التي تلت هجرته إلى المدنية المنورة وذلك في استقبال الشهر المبارك، فقد اشتملت على بيان تكاليف المسلمين فيه إضافة إلى بيان عظمة شأنه وسمو منزلته(1).
اعتمدنا في بيان نص هذه الخطبة على ما رواه السيد ابن طاووس (ت 644هـ) في كتابه إقبال الأعمال ص246 نقلاً عن كتاب (بشارة المصطفى لشيعة المرتضى) بإسناده إلى الإمام الرضا (عليه السلام) عن آبائه وأجداده الطاهرين عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
خطبنا ذات يوم فقال: (أيها النّاس إنّه قَدْ أقبل إليكم شَهرُ الله بالبركةِ والرحمة والمغفرة شَهر هُوَ عِندَ الله أفَضل الشهور وأيامه أفضلُ الأيام ولياليهِ أفَضل الليالي وساعاته أفَضل الساعات، هُوَ شَهر دعيتم فيهِ إلى ضيافة الله وجُعلتم فيهِ مِن أهْل كرامة الله، أنفاسكم فيهِ تسبيح ونومكم فيهِ عبادة وعمَلكم فيهِ مقبُول ودعاؤكُم فيه مستجاب ، فسلوا الله ربّكم بنيّات صادقة وقلوب طاهره أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابهِ، فان الشقّي مَن حُرم غفران الله في هذا الشّهر العَظيم…) الخ.
لا يخفى أن مهمة النبي (صلى الله عليه وآله) في تنوير عقول الناس ومن ثم تهذيب أخلاقهم هي الغاية من بعثته فقد قال (صلى الله عليه وآله): (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)(2).
ومعنى بعثته (صلى الله عليه وآله): هو كونه مأموراً من الله تعالى بإصلاح هذا النوع الإنساني لأنه (صلى الله عليه وآله) قد استجمع الآداب الإلهية وخصائص السفارة الربانية فهو عارفٌ بحقيقة النفوس وكلتي نشأتيها في الدنيا والآخرة وأحوال الخلائق في تلك الدار ورجوع الكل إلى الواحد القهار، فيسوقهم (صلى الله عليه وآله) إلى رضوان الله الأكبر، وذلك من خلال تكميل الجزء العلمي بتصوير الحقائق والمعارف الإلهية.
وكذا تكميل الجانب العلمي من الإنسان بالتصفية والتهذيب(3) باعتبار أن الإنسان فيه عقل فيكتسب المعلومات النظرية الحقة لابتناء السلوك العملي في شخصيته على تلك التوجيهات والاعتقادات فما أتى به النبي (صلى الله عليه وآله) من تعاليم وعبادات هي نظام متكامل يرتقي بالإنسان من هذه الحياة الدنيا إلى دار الحياة الأبدية عن طريق الإذعان والإيمان بأقوال النبي (صلى الله عليه وآله) وأفعاله وكل ما صدر منه (صلى الله عليه وآله) ومن خلفائه أهل البيت (عليهم السلام).
قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (آل عمران:164).
فيتلو عليهم آيات القرآن وكانوا من قبل جهالًا لم يسمعوا وحيًا (ويزكيهم) يطهرهم من دنس العقائد والأعمال ويعملهم القرآن والسنة(4).
إن هذا الشهر المبارك الذي وردت بحقه تعاليم الخطبة وبما فيه من العبادات يمثل مرحلة من مراحل عمر الإنسان ومنزلًا من منازله لأن شهور العبادة خلال السنة التي تتألف من اثني عشر شهرًا هي كالمراحل والمنازل من حيث بداية عمر الإنسان وخروجه إلى الدنيا إلى أن يصل إلى انقضاء أمر الدنيا الزائل، وفي كل منزل منها منذ ارتضاه الله سبحانه لتشريعه بالتكليف ذخائر وكنوز، وحيث أن المسافة بعيدة إلى داره ومقره الأبدي فمهما ظفر به المسافر من الذخائر فإنه لا يستغني عنه وعن الزيادة، فإنه في هذه الدنيا عملٌ بلا حسابٍ وغداً حسابٌ بلا عمل، وعندما ينقطع عن الإنسان عمله ويسلب الاختيار الذي وهبه الله تعالى إياه ويجد من نفسه أسيراً فيتذكر فقدان هذه الساعات(5). إذًا العلاقة بين الإنسان وعمره وسلوكه هي علاقة متحركة ظاهرها الزمن وتحتاج إلى تنظيم، ومن هنا فإن العبادة تنظم حركة الإنسان للوصول إلى غاية معينة وهي لقاء الله تعالى.
فمن هنا كانت الخطبة تحتوي على التذكير بالمبدأ والغاية وهو المعاد وما بينهما من زاد لذلك السفر والحركة وهو التحلي بالصفات الأخلاقية المرضية، ولذا نرى في بداية الخطبة قوله (صلى الله عليه وآله): (…قَدْ أقبل إليكم شَهرُ الله بالبركةِ والرحمة والمغفرة شَهر هُوَ عِندَ الله أفَضل الشهور وأيامه أفضلُ الأيام … هُوَ شَهر دعيتم فيهِ إلى ضيافة الله…). تتحقق في هذا المنزل المبارك والشهر العظيم ضيافة الله تعالى لعباده، ومعنى ضيافة الله تعالى نستوحيها من خصوصيات الضيافة المألوفة عند بني الإنسان في إظهار المعاملة الحسنة وإكرام الضيف بكل ما يستطاع من حيث المكان والطعام ووسائل الضيافة، وحسن الضيافة من الصفات الكمالية التي أودعها الله في فطرة الإنسان والله تعالى هو مبدأ ومصدر جميع الكمالات فأي صفة كمالية نراها في شخص أو في شيء موجود نراها في المبدأ تعالى بأشرف وأكمل صورها فهو تعالى ينزل الضيف في أفضل منزل ويقدم له أشرف الأشياء وأنفسها، إن أفضل المنازل والمقامات هو منزل الربوبية، وبذا يكون الصوم بابًا من أبواب العبادة لنيل العبودية، وحقيقة العبادة هي التسليم والطاعة لله تعالى في الأوامر والنواهي(6).
إن حقيقة الصوم أو أدناها أن يقتصر الإنسان بالكف عن المفطرات، وهناك مراتب أعلى أن يضيف إليه كف الجوارح فيحفظ اللسان عن الغيبة والعين عن النظر بريبة، وكذا سائر الأعضاء لها تكليفها الخاص بها حتى يقطع الطريق إلى أبواب النيران ومداخل الشيطان ليكون الصوم الحقيقي هو الموصل إلى رضا الله تعالى، والصائم الذي لا يحس بهذا ولا يدرك هذا المقام لن يتيسر له الورود إلى محفل ضيافة الله تعالى ولن يحظى بعطايا وهبات إلهية، لذا نرى في الخطبة التركيز على الجانب الأخلاقي وهو مما يساعد على تصفية باطن الإنسان لكي يكون مستعداً لتلقي أنوار وبركات الشهر.
إذًا عندنا نفس الإنسان وهي مصدر سلوك وعمل الجوارح، وموانع العبادة من الأمراض النفسية التي تسبب المعاصي والذنوب، وعندنا الأعمال والعلاجات والتي هي جملة من القضايا والأعمال الصالحة من صلة الأرحام وحفظ اللسان وغض البصر ومراقبة السمع والتوبة إلى الله تعالى من الذنوب وغيره مما ورد فيها، فيقول (صلى الله عليه وآله): (أيها الناس إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم…)…الخ، إذًا علينا ملاحظة علاقة النفس بالعمل، وقبل الالتفات إلى هذه المسألة نوضح لفظ (أبواب النيران وأبواب الجنان) الوارد في الخطبة، فكل لفظ له معنى وله فرد ومصداق محسوس نراه في الخارج، فمثلًا لفظ (الميزان) معناه ما يوزن به الأشياء وقد يكون هو هذا الميزان المعروف ذو الكفتين وغيره من مصاديق وأنواع الموازين المختلفة، وكلها تتحقق منها الفائدة من وزن الأشياء، وبما أن الأنبياء يكلمون الناس على قدر عقولهم فهم يوصِّفون الحقائق التي يدركونها بقالب الحس ويصوِّرونها بالصورة التي تكون مفيدة للجميع، وهنا لفظ (الباب) وضع معنى هو عبارة عن مطلق ما يوصل إلى المقصود فلا يمكن الحصول على المطلوب إلا به ومن أفراد الباب هي تلك المعروفة عند عموم الناس والتي اعتادوا نصبها على ممر الدخول إلى المباني والبيوت وسائر الأبنية(7)، ومنه نستطيع الوصول إلى معرفة قوله (صلى الله عليه وآله): (أنا مدينة العلم وعلي بابها)(8) فيكون معناه إن من يريد الانتفاع من علومي فعليه التوجه أولًا إلى الإمام علي (عليه السلام) وعن طريقه يحصل على نصيبه من العلوم، وكذلك الحال في وصف الإمام الكاظم (عليه السلام) بأنه (باب الحوائج)، فالمقصود أن من يريد أن يقضي الله تبارك وتعالى حاجته عليه أن يتوسل بوليِّه الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) لكي يصل إلى مقصوده بتوسطه.
وكذا ما ورد في قول الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: (فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه)(9).
وعلى هذا فيكون المراد من أبواب الجنة هي كل الأمور التي تعبِّد الطريق للقيام بالأعمال الصالحة وتورث صدور محاسن الأفعال، وأبواب النيران هي كل الأمور التي تفتح الطريق لارتكاب الموبقات والأعمال القبيحة وتورث صدور قبائح الأعمال(10).
وهذه الأمور بجانبيها الإيجابي والسلبي، أي الحسنة والسيئة تتعلق بذات الإنسان وما أودعه الله تعالى فيه من قوى ظاهرية وباطنية وهي قوى النفس التي يستفيد منها وهو يعيش في دار الدنيا فهو يمتلك قوى عاقلة يمتاز بها عن الحيوانات وحواس وجوارح ظاهرية وباطنية من غضب وشهوة تدفعه لأن يتخيل الأمور المحبوبة إليه فيندفع إليها لإطفاء حاجة الغريزة، فإن تبع عقله هواه وشهوته فتكون هذه الأمور سببًا لهلاك النفس، وعند سيطرة القوى العاقلة فهو يقوم بردع النفس عن اتباع الهوى وبالتفكير في عواقب الأمور، وبهذه الصورة والمعادلة تتشكل بوادر أعمال الإنسان الصالحة وأخلاقياته التي يعتاد عليها لأن العقل كما ورد في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام): (قلت له ما العقل؟ قال: ما عُبد به الرحمن واكتُسب به الجنان)(11)، وفي مرآة العقول قال المجلسي: (والمراد من العقل ملكة وحالة في النفس تدعو إلى اختيار الخيرات والمنافع، واجتناب الشرور والمضار وبها تقوى النفس على زجر الدواعي الشهوانية والغضبية والوساوس الشيطانية)(12).
إذًا، يظهر لنا أن قوى الإنسان الظاهرة والباطنة من مدارك الإنسان وحواسه وجوارحه وخياله هي المسؤولة عن صدور أفعاله، وكلما صدرت من حالات اعتاد عليها الإنسان فإنها تسمى الملكات أو الملكة وهي الحالة الراسخة وهي لها علاقة بهذه القوى التي أشرنا إليها(13).
وبمقدار رسوخ هذه الملكات في وجود الإنسان في هذه النشأة يتحدد حاله عند المرور على الصراط في النشأة الآخرة (14)،
فكلما ترك الإنسان التعاليم العبادية وفعل ما هو محرم شرعًا فإنه يفتح على نفسه أبواب جهنم، فمثلًا إذا فتحت سمعك للغو والباطل وفتحت فمك للتفوه باللغو والغيبة إنما تفتح على نفسك طريقًا مؤديًا إلى أبواب جهنم وعلى العكس فإن الفعل المُحَلَّل والمشروع يفتح عليك طريقًا مؤديًا إلى الجنة، ففتح السمع والبصر واللسان على ارتكاب المعاصي يعني في الواقع فتح أبواب النيران على النفس، كما أن حفظ الجوارح عن ارتكاب المعاصي يعني غلق أبواب جهنم، وتقييد الغرائز يعني حبس الشياطين لأنك تقطع الطريق عليها بالالتزام بالأوامر والحدود الإلهية.
وعلى هذه الصورة تكون أبواب الجنة مفتحة وأبواب النيران مغلقة والشياطين مغلولة في شهر رمضان المبارك لأن الله تبارك قد عبَّد طريق القيام بصالح الأعمال وسد طريق ارتكاب المعاصي وقيَّد الغرائز النفسانية والأهواء الشيطانية من خلال اتباع الآداب والمناسك التي شرعها في شهر رمضان المبارك، لذا نرى الغرض من سؤال أمير المؤمنين (عليه السلام) المذكور في الخطبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله): (قال أمير المؤمنين (عليه السلام)
فقمت وقلت: يا رسول الله ما أفضل الأعمال في هذا الشهر فقال: يا أبا الحسن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عزوجل)، هو الالتفات إلى هذا الجانب لأن ترك المحرمات هو الأهم في بداية طريق التقوى.
فنسأل الله تعالى دوام التوفيق لما رسمه لنا في شهر رمضان للإعراض عن الدنيا وحبس الأهواء النفسية والإغراءات والالتزام بطاعته سبحانه>

 

نشرت في العدد 70


1ـ الخطوة الأولى نحو الآفاق/ الشيخ حسن الرمضاني/ص102.
2ـ بحار الأنوار/المجلسي/ج16ص210.
3ـ شرح توحيد الصدوق للقاضي القمي (ت1107) ج1 ص103 ـ 105.
4ـ تفسير سيد عبد الله شبر ص140.
5ـ إقبال الأعمال للسيد ابن طاووس (ت644هـ) ص12 مقدمة المؤلف.
6ـ الخطوة الأولى نحو الآفاق ص107.
7ـ المصدر السابق ص121.
8ـ بحار الأنوار ج40 ص201.
9ـ نهج البلاغة الخطبة 27.
10ـ الخطوة الأولى نحو الآفاق ص132.
11ـ مختارات من أصول الكافي ص23 كتاب العقل والجهل.
12ـ مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول للعلامة محمد باقر المجلسي ج1 ص25.
13ـ مقدمة في علم الأخلاق ص39.
14ـ المصدر السابق ص34.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.