إن الفكر العربي المعاصر وخلال العقود المنصرمة شهد تغيرات كيفية متعددة تحت تأثير العولمة، فأصبح يدور في عالمه دوران الحائر الملهوف. أما واقع فكرنا الإسلامي وفهمه القويم المستمد من منهجية القرآن الكريم وأحاديث الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) وأقوال الأئمة المعصومين(عليهم السلام) فهو القوة التي تتجه بالإنسان إلى حياة أفضل، وهو منزه من كل ما يأباه العقل ويتصادم مع حقيقة من حقائق الحياة.
الاختلاف في الرأي والمنهج:
من دواعي وجود الحوار هو الاختلاف في الرأي وهو ـ بلا شك ـ أمر غريزي عند البشر (كما أن سد باب المناقشة والبحث العلمي في وجه العلماء والمفكرين يوجب ضمور الفكر وموت العلم)(1) وهذا ما دأب عليه منهجنا المتمثل بأهل البيت(عليهم السلام).
(إن الإنسان الذي يمتلك روحاً حية وعقلاً دافقاً شعورياً يرتكز في أساسه وتكوينه على التعدد والتنوع حتى يستطيع التكامل والتصاعد عبر التفاعل العقلي والروحي)(2).
إن جوهر الاختلاف الذي كثر اللغط حوله بين علماء المسلمين والذي طحنت تحت صخرتي رحاه أرواح الكثير من دعاته وهو اختلاف نابع من العقول التي مهما تعالت فهي قاصرة عن فهم مراد الله جلت قدرته في هذا الكون. فضلاً عن قصرها في الإلمام بكل ما جاء به كتاب الله الكريم وهذا القصور والتفاوت في الفهم أحد المظاهر الجلية الواضحة للاختلاف.
(إن التركيبة التي خلق الله الإنسان على صورتها تقتضي بطبيعتها الاختلاف إذ أن الإنسان وكما هو معروف مركب من العقل والغرائز، وهذه الغرائز لها دور كبير في التحكم بكثير من الناس ما لم يتمكنوا من تهذيبها، وأي إنسان معرّض لارتكاب الأخطاء بل هو كثير الأخطاء إلا من عصمه الله تعالى. وقد وهب الله عباده عقولاً ومقدرات متباينة من شأنها أن تؤدي إلى اختلاف في نظراتهم وأفكارهم ومواقفهم في كثير من الأشياء، لذلك فإن الإسلام يتسع إلى تلك الاختلافات كلها التي تهدد وحدة الأمة، فيكفي أن تتفق الآراء وتلتقي التصورات وتتوحد المواقف إزاء القضايا الكبرى والقواعد الأساسية، أما ما عداها من أمور وقضايا ثانوية يساعد اختلاف الرأي فيها إلى الجنوح نحو الأفضل والأمثل، فلا ضير فيه على أن يكون لهذا الاختلاف ضوابطه وحدوده وقواعده وأدبه وأن لا يؤثر على وحدة فكر الأمة ومواقفها في القضايا الأساسية الكبرى.
ومن ملامح الإنسان هو الاختلاف حول: ماذا؟ ومتى؟ وكيف؟، ومهما حاولوا فإنهم سيختلفون، والاختلاف ليس فقط حول الأهداف بل حول تطبيق الأهداف)(3)، وهنا يأتي دور العقل السليم والضمير الحي لإدارة هذا الاختلاف نحو الأحسن ونحو الأصح وليصرف التنازع والجدل العقيم.
إن أعداء الإسلام يستخدمون مختلف الأساليب في محاربة الدين الإسلامي الحنيف، وأهمها زرع الفرقة والشقاق، بل وحتى الاقتتال بين أبناء المذهب الواحد، وكما هو معلوم بأن أكبر خطر على الأمة الإسلامية هو الاختلافات التي في داخلها، لأنها تنهك جسد الأمة الإسلامية وتجعلها هدفاً سهلاً لأعدائها وممن يضمرون الشر لها.
إن تعاليم القرآن الكريم في إسلامنا تظل مجرد كلمات مكتوبة ومحفوظة ولا يظهر لها من مفعول إلا إذا تسربت إلى داخل العقل السليم الذي يحمله ذلك الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم. وإلى جانب العقل السليم الضمير الحي، والدين أفضل مكوّن للضمير، فرسالة السماء أقدر على صياغة الإنسان كما أراد له الله عزوجل، ولعل في تغليب الدور الرئيس للإسلام على دوره الفرعي ما يهدئ من معارك التناحر والخصومات بين المسلمين.
إن الاختلافات في الرأي والمناهج وحسب منهجية البحث تنقسم إلى قسمين هما:
أولاً: الاختلاف بين مذاهب المسلمين أنفسهم:
لقد احتلت لغة الحوار مساحة واسعة في الفكر الإسلامي بدءاً بالخطاب القرآني الموجه في قوله تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(النحل: 125)
وكذلك في قوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله)(الشورى: 10) ومروراً بالأحاديث النبوية الشريفة وانتهاءً بأقوال الأئمة المعصومين من أهل البيت(عليهم السلام).
إن مذاهبنا الإسلامية تربطها عقيدة واحدة هي عقيدة الفطرة والتوحيد، وهي الجوهر الذي يحفظ وحدة المسلمين، لأن الإسلام نظام كوني كامل بني على دعامتين، كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة بعد تحقيقها وقد ورد في خطبة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء(عليها السلام): (وطاعتنا نظاماً للملة وإمامتنا أماناً من الفرقة)(4)
والقرآن الكريم بخطابه أسس منهجاً واضحاً لعلاج ظاهرة الاختلاف بين المسلمين أنفسهم في الآراء والمواقف والسلوك انطلاقاً من مبدأ الحوار المفتوح ضمن آلية الحوار الحضاري ووفق المنظور الإسلامي وهو الوسيلة المثلى للوصول إلى أفضل النتائج المقنعة بين حاملي وجهات النظر المختلفة أو المنوعة، وقد ذم الله سبحانه وتعالى هذا الاختلاف في كثير من آياته: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) (البقرة: 213) (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ)(مريم: 37،الزخرف: 65) (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)(البقرة:176).
وقد ظهر ذلك الاختلاف بوضوح بين المذاهب الإسلامية وما يستتبعه من اختلاف في الفهم لما جاءت به النصوص القرآنية أو الاختلاف في المواقف من أحداث التاريخ الإسلامي أو اختلاف في الأحكام الشرعية على ما فصلته كتب الفقه، كذلك هناك طرق مشتركة في الفهم، والمسلمون مجمعون على حجية القرآن وصيانته من التحريف، وأما السُنَّة فإننا نجد أن أكثر من ثمانين بالمائة من روايات الفريقين في التفسير والفقه والعقائد مشتركة، أما في المسائل الأخلاقية فربما بلغت نسبة المشتركات مائة بالمائة، فهذا الاختلاف نسبته تقريباً عشرون بالمائة من روايات في التفسير والفقه والعقائد بين المذاهب، وهذه النسبة في الاختلاف يمكن تفاديها عن طريق الحوارات والمناظرات المفتوحة على طاولة البحث. دون اللجوء إلى الاحتقان والتناحر وسفك الدماء والدمار.
بعض الأسس التي يجب الاعتماد عليها في الحوارات وهي:
1ـ يفضل أن تكون الحوارات شفهية لأنها الفاعلة أكثر من المدونات الورقية.
2ـ توضيح الأمور بدرجة تبسيطية عالية تحرر الفكر من أي تردد يحول دون إدراك المعاني السامية المركزة لحالة التعايش بين أكثر من فكر.
3ـ إيجاد صيغة من التواصل مع الآخر الذي ليس من الضروري أن يكون ما يطرحه منسجماً مع ما نطرحه من أفكار وانطباعات.
4ـ يفضل أن تكون هناك أجواء من الحرية التي بدونها لا يمكن توافر أي حوار حقيقي.
5ـ الابتعاد عن العصبية والتعصب والتي يأثم صاحبها بسببها حيث يرى الرجل قومه خيراً من خيار قوم آخرين. فقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله: (ليس منا من دعا إلى عصبية)(5) كذلك قوله (صلى الله عليه وآله): (لا عصبية في الإسلام)(6)، وأيضاً قوله (صلى الله عليه وآله): (مَنْ كَانَ فِي قَلْبِه حَبَّةٌ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ عَصَبِيَّةٍ بَعَثَه الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ أَعْرَابِ الْجَاهِلِيَّةِ)(7)، وجاءت هذه الأحاديث استناداً لما ورد في الخطاب القرآني الجليل من الآية المباركة: (الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ)(التوبة:97)
6ـ عدم تعالي الأصوات في مواجهة الرأي الآخر بأسلوب يتراوح بين المرونة والتعصب والتنافس حينما يحتد لابد أن يؤدي إلى خلق أشكال متباينة من مشاعر العداء(8).
من ملامح الحوار الهاديء أنه بعيد عن الانفعال وعن أي مظهر من مظاهر العنف لحسم قضايا الاختلاف بالطرق السلمية وقد كان التوجيه القرآني رائعاً في هذا المجال في قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)(فصلت: 34)
ثانياً: اختلاف المسلمين مع الديانات الأخرى:
أصحاب الديانات الأخرى يقسمون إلى قسمين، معتنقي الديانات السماوية أو ما يطلق عليهم القرآن الكريم (أهل الكتاب)، ومعتنقي الديانات والعقائد الأرضية التي هي من صنع البشر.
أما بالنسبة إلى أصحاب الديانات السماوية فقد وضع القرآن الكريم الأسس والقواعد للحوار الهادئ بين المسلمين وغيرهم وفق معطيات مشتركة بين معتنقي هذه الاديان وبين المسلمين، قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله)(آل عمران: 64)، وقال أيضًا: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(العنكبوت: 46). فقد دعا الله سبحانه وتعالى الناس جميعاً إلى عبادته لأنه هو الخالق الذي لا شريك له في ملكه (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الانبياء:92) (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56).
أما أصحاب العقائد والديانات الأخرى والتي هي من صنع البشر، فقد رسم الإسلام خارطة طريق عامة شاملة للتعامل معهم ومع غيرهم وفق مشترك رئيس بينهم ألا وهو (الإنسانية)، باعتبارها القاسم المشترك لجميع البشر، قال أمير المؤمنين(عليه السلام) واصفاً الناس: (فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ)(9) وهذه يمكن اعتبارها القاعدة الأساسية للحوار والتفاهم ونبذ الخلافات والتعايش السلمي بين الجميع.
وبناءً على هذا فلا خلاف بين المسلمين وغيرهم من معتنقي الديانات السماوية أو غيرها من العقائد والديانات الأخرى وفق هذه المشتركات.إذا كانت النوايا سليمة غايتها تحقيق العدل والمساواة بين أبناء البشر. إلا أن الأهواء السياسية والتسلط والمصالح والغطرسة والاستعباد قديماً وحديثًا حالت دون إيجاد فرص للحوارات المفتوحة والتوصل إلى مشتركات من شأنها تحقيق السلام والتعايش السلمي لكل مكونات المجتمع الانساني، واستبدلتها بالاحتقان والاختلاف ثم التناحر والتقاتل من أجل بقاء عروشهم وهيمنتهم وتسلطهم.
ولم يحدثنا التاريخ عن ثمة حوارات بناءة يعتد بها بين مفكري المسلمين وغيرهم إلا اليسير منها كتلك التي حدثت بين الإمام الرضا (عليه السلام) إبان ولاية عهده في زمن المأمون (فقد ناظر فرقاً ومللًا مختلفة، كان من بينهم علماء أهل الكتاب اليهود والنصارى، وناظر أيضاً المجوس والصابئة والزنادقة، وناظر أصحاب المقالات من فرق المسلمين المختلفة في مسائل الاعتقاد وأُصول الإسلام وشتّى الموارد التي شاع فيها الجدل وكانت متّسعاً للصراع بين المعتزلة والأشاعرة وغيرهم من سائر الفرق ومحدّثي الأُمّة وفقهائها)(10) (وخرج الإمام (عليه السلام) في جميع ما تعرّض له من مناظرات ومحاورات منتصراً على خصومه، بما يملكه من إمكانات علمية هائلة، وما يعتمده من الحجّة الواضحة في إثبات الحقّ، والقول الفصل، والبيان المعجز، والأُسلوب المنهجي الهادئ)(11).
وكذلك ما حدث للإمام الحسن العسكري (عليه السلام) مع الفيلسوف الكندي والتعامل مع الحوار العلمي الهادئ الرصين عندما كان الكندي مشغولاً في البحث عن تناقض القرآن بعدها أعرض عن بحثه بفضل الإمام (عليه السلام) وتوجيهه في حوار هادئ مفتوح(12).
إذن فالإسلام بفكره ونهجه يتقبل الحوارات مع من يريد التحاور معه وبسعة ورحابة صدر وبطرق خارجه عن الفوضوية والتعصب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1) العقيدة الإسلامية / جعفر السبحاني 356. 2) بحث للدكتور نضير الخزرجي بعنوان: (أصالة التعدد مدعاة للتفاضل والسياسة فن إدارة الاختلاف). http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=2999 3) نفس المصدر السابق. 4) كيف نتعامل مع القرآن الكريم ص56. 5) بحار الأنوار/ ج70 ص283. 6) الإسلام والأمن الدولي ص197. 7) الكافي للكليني/ج2 ص308. 8) الاتجاهات التعصبية ص103. 9) نهج البلاغة/ تحقيق صبحي الصالح/ ص427. 10) موسوعة المصطفى والعترة/ الحاج حسين الشاكري/ ج12ص107. 11) م.ن. 12) راجع: موسوعة الإمام العسكري/ ج2ص76