استطلاع وتصوير: حيدر الجد
غالباً ما ترتبط عوامل الحضارة عند الشعوب بالثقافة التي تعبّر عن درجة التفوق في المجتمع وما ينتجه من آثار قد تبقى شواهد دالة لمئات السنين إذا لم نقل للآلاف منها على وعيه.وقد تتنوع الصور الثقافية ولكنها جميعاً تصبُّ في مجرى واحد، مجرى التأصيل لعمق التجربة في المجتمع المقصود.
المكتبة العامة صورة من تلكم الصور الثقافية التي تربط الباحثين والرواد من القراء بتجارب وأفكار علماء ومثقفين قد يكون الفاصل بين هؤلاء وتجارب أولئك يتخطى حاجز الزمن من خلال الكتب التي توفرها وتحتفظ بها بين خزاناتها، ومن خلال التنوع في عطاء الأقلام التي رسمت لوحات شتى في العلوم والآداب والفنون.
لقد كانت المكتبة ولا زالت تشكل عنصراً مهماً في حياتنا، فقد ألفناها ملاذاً نستظل في فنائه عندما كنا في مقاعد الدراسة، حيث ننعم بالجو المثالي الذي لا نجده حتى في البيت بعض الأحيان، وكم طالعنا في كتبها عندما كان الأستاذ يطلب منا إعداد تقرير عن موضوع من مواضيع درسه، أو بحث نعده لنتميز فيه عن زملائنا وأقراننا لذا فقد شكلت زيارتنا للمكتبات ودوام التردد عليها ممارسة ممتعة جمعنا فيها بين كسر الروتين الممل لمكان الدراسة، وجلبنا منفعة علمية من خلال إعداد البحث.
في مدينة الكاظمية المقدسة وبالتحديد في أحد أركان الصحن الكاظمي المقدس تتخذ مكتبة الجوادين العامة عريناً لها، فهي تستلهم من الإمامين الجوادين (عليهما السلام) روح العلم وتتعطر بعابق الأريج الذي ينفحه المرقد المقدس فتلقي على روادها ومرتاديها أنواراً معرفية، وتمنحهم جواً روحانياً مستمداً من الإمامين المطهرين، لذا حدانا الشوق والاحترام لقيمة المكتبة أن نحل ضيوفاً عليها لنسجل استطلاعاً لمجلتنا (ينابيع) ونتجول بين ثنايا ذاكرتها التي حوت الكثير من حديث الأمس لتبوح به لنا اليوم.
البدايات الأولى:
أسس المكتبة سماحة السيد محمد علي الحسيني الشهرستاني الشهير بـ(هبة الدين)، حيث استقر سكنه في بغداد بعدما كان ساكناً في كربلاء، حيث أصبح وزيراً للمعارف عام 1921م، إضافة لكونه رئيس مجلس التمييز الشرعي الجعفري حيث يمارس مهام عمله في بغداد العاصمة، وبعد إعلان الحرب العالمية الثانية سنة 1939 م آثر السيد الشهرستاني الانتقال إلى الكاظمية حيث اصطحب معه مكتبته الخاصة وذلك بتاريخ 18/6/1940.
تعد مكتبته الخاصة من أهم المكتبات لما تحتويه من نفائس الكتب سواء ما كان منها المطبوع أم المخطوط، لذا أصبحت محطاً لأنظار الباحثين والمهتمين بالشأن الثقافي والعلمي حيث زارها – حينما كانت ببيت المؤسس السيد الشهرستاني في بغداد- جملة من المفكرين المستشرقين، الذين سمعوا بما تضمه فسعوا بجدهم لكي يطلعوا عليها عن كثب وليتعرفوا على ما يفيدهم في بحوثهم ودراساتهم ومحاضراتهم، منهم:
1- السنيور كارلو الفونسو نالينو (1872-1938) مستشرق إيطالي طبعت محاضراته بالعربية عن تاريخ علم الفلك عند العرب في روما سنة 1911، كما طبعت له محاضرات عن تاريخ الآداب العربية من الجاهلية وحتى نهاية العصر الأموي، تولت طباعتها ابنته المستشرقة ماريا نالينو، وقد زار العراق عندما كان أستاذاً لعلم الفلك في جامعة القاهرة.
2- الدكتور لويس ماسينيون (1883-1962) أستاذ مادة التاريخ الإسلامي في جامعة باريس، من أكبر مستشرقي فرنسا وأشهرهم، شغل مناصب عديدة أهمها سكرتير وزارة المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال إفريقيا، له عدة مؤلفات أهمها تاريخ الصوفية، الإسلام والتصوف، تاريخ الكوفة.
3- الهر جوزيف شاخت (1902-1969) أستاذ الأدب العربي بجامعة برلين، مستشرق وباحث ألماني في الدراسات العربية والإسلامية، متخصص في الفقه الإسلامي، له عدة مؤلفات أهمها بداية الفقه المحمدي في فقه الإمام الشافعي، تحليل نشأة علم الحديث.
4- الهر هلموت أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة اسطنبول ورئيس جمعية المستشرقين الألمان في اسطنبول.