عرف العرب منذ زمانهم القديم فن الرثاء، وكان لهذا الفن الشعري قيمة أدبية عالية، بالإضافة لقيمته الاجتماعية، واشتهر عبر تاريخنا العربي شعراء كبار استطاعوا أن يخلدوا أسماءهم عبر هذا اللون الشعري، وتعدُّ (الخنساء) التي رثت أخاها (صخرًا) أنموذجًا لقيمة هذا اللون الشعري في تخليد الشخص الذي يكون أهلًا له، ومع تطور المجتمعات، استطاع فن الرثاء أن يتناغم مع هذا التطور، ويكون حالةً تتمتع بخصوصية يفرضها المجتمع الذي تكون فيه، وتعددت أبوابه تبعًا للصفة الغالبة في الشخص الذي يرثى، و(الرقة) بهذا الخصوص، تتميز بالخصوصية في هذا الفن، الذي يحاكي مشاعر إنسانية غاية في العمق.
الصورة الشعرية:
الصورة في الشعر هي الشكل الفني الذي تتخذه الألفاظ والعبارات بعد أن ينظمها الشاعر في سياق بياني خاص ليعبر عن جانب من جوانب التجربة الشعرية الكاملة في القصيدة مستعملًا طاقات اللغة وإمكاناتها الفنية. والألفاظ والعبارات هي مادة الشاعر الأولى التي يصوغ منها ذلك الشكل الفني، أو يرسم بها صوره الشعرية، لذلك يتصل الحديث عن الصورة الشعريّة ببناء العبارة(1).
ويلاحظ الدارس لشعر رثاء ميثم التمار (رض) وجود أشكال متعددة من الصور الفنية كلها مستوحاة من الجهاد والمعاناة التي مر بها، من ذلك قول الشاعر هادي كاشف الغطاء:
مستقبلًا رماحهُم بصدرهِ
وبيضهُم بوجههِ ونَحرهِ(2)
لقد رسم الشاعر هنا صورة هذا البطل وهو يستقبل الرماح بصدره كناية عن شجاعته وقوته وثباته على الدين الحنيف، مما يعكس رغبة المرثي بالشهادة لأنها توصل صاحبها إلى أرفع وأسمى الدرجات. ويستعمل الشاعر صيغة الجمع ليدلل على كثرة الأعداء نسبة إلى شخص واحد، مما يزيد من شجاعته وشدة بأسه وعدم هيبته من الموت، وهو يذكرنا بالقول المروي عن الإمام زين العابدين(عليه السلام): (الموت لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة).
أما الشاعر على الجشي فقد صور المرثي في قوله:
عليك شرح ذي الخطر
ميثم غواص الدرر
فالصحابي الجليل هنا يشبه الغواص، أو كأنّه غواص، لكن أي غواص؟ إنه غواص الدرر الذي يختار أحسنها، وهي صورة فيها إشارة إلى الحكمة التي كان يتمتع بها ميثم التمار(رضي الله عنه).
اما الشاعر مهند الموسوي فقد صور المرثي بأنه نجمة في قوله:
زعم البغاة بـأن ذكـرك آفـلُ
يا نجمة عشقت دُجى الأسحارِ
فهو هنا نجمة قد عشقت دجى الأسحار، ويبدو أن الشاعر قد تأثر بأسلافه من الشعراء الذين كرروا هذه الصورة في قصائدهم، فهو يريد أن يقول إن زعم البغاة باطل حول خمول ذكر المرثي فهو نجمة دائمة الظهور مع الأسحار، وهو وقت تعبد، وفي ذلك إشارة إلى مدى طاعة ميثم لله وإخلاصه للدين الإسلامي(3).
ويعد أسلوب التشبيه واحدًا من الأساليب الفنية التي وظفها الشعراء في بيان الصور الفنية نحو قول الشاعر:
أضحى ضريحك قبلـة فكأنه
شمس الضحى في فلكها الدوار
فالشاعر هنا يشبه ضريح المرثي بأنه الشمس، ولكن أي شمس؟ إنها شمس الضحى، وهذا زيادة في رسم ملامح الصورة، فهو اختار وقت الضحى لأن شعاع الشمس يكون أقوى في الضحى من بقية الأوقات، إلّا أن مثل هذا التصوير استعمل كثيرًا من قبل الشعراء السابقين، منذ العصر الجاهلي وحتى يومنا هذا.
لغة الرثاء:
امتاز شعر رثاء الصحابي ميثم التمار (رضي الله عنه)
بامتلاكه لغة شعرية لها مفرداتها الخاصة، إذ وظف الشعراء المفردات القرآنية والتي لها مساس بالموروث الديني ومن هذه المفردات نجد (الإله، والرّب، والرسول، والنصر، والإيمان، والأمانة، والجزاء، والخليل، والأئمة، والسبط، ونهج البلاغة، وعيسى، والكتاب، والجنان،…إلخ). نلاحظ أن هناك حشد كبير من المفردات بعضها مفردات إسلامية وبعضها الآخر لها دلالة ترتبط بالموروث العربي القديم، وقد جاء استعمال الشعراء لهذه المفردات بطريقة تعطيها بُعدًا آخر يتلاءم والعصر الذي يعيش فيه الشاعر، ويبدو أن الهدف من وراء ذلك هو الكشف عن شخصية المرثي الدينية وإنها ليست شخصية اعتيادية، إنما هي شخصية لها ثقل ديني، مما أكسبها مهابة في نفوس المؤمنين من أتباع أهل البيت(عليهم السلام). انظر إلى قول الشاعر وتوسله إلى الله بهذا الصحابي الجليل في قوله:
فبميثم يـا رب ارحـم فاقتـي
إني عييت وضقـت بـالأوزار(4)
فهذا البيت يحمل شحنة من الرقة والعاطفة، التي تؤثر في نفس المتلقي نتيجة استعمال لغة فيها مفردات تحمل دلالة عالية كونها مفردات مستوحاة من النص القرآني نحو كلمة (الفاقة) و(الرب) و(الأوزار).
ويلاحظ على لغة شعر رثاء الصحابي ميثم التمار(رضي الله عنه) قدرة الشعراء على توظيف أسماء الشخصيات الدينية التي صارت رمزًا للتضحية والفداء(5) في سبيل إعلاء كلمة الحق، ومن هذه الشخصيات شخصية الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) في قول الشاعر:
عندَ الرسول قالَ لسنا نُعذَرُ
إن قُتل السبطُ ونَحنُ نَنظرُ(6)
واضح هنا كيف أن الشاعر استطاع أن يوظف شخصية النبي(صلى الله عليه وآله) ويربطها بحادثة الطف الأليمة، من حيث صلة القرابة بين الاثنين.
ومن الشعراء من استطاع أن يوظف شخصية النبي عيسى(عليه السلام) في قوله:
شابهت عيسى في تقاه ونسكـه
فطهرت من درن ومن أكـدار
فالمرثى هنا يشبه النبي عيسى(عليه السلام) في التقى والنسك وهي بلا شك صفة من صفات الأنبياء لا ينالها إلّا ذو حظ عظيم.
وكذلك استحضر الشاعر شخصية الإمام علي (عليه السلام) في قوله:
خليل أحمد النذر
أبي الأئمة الخير(7)
لقد كنى الشاعر هنا عن شخصية الإمام بـ (خليل أحمد(صلى الله عليه وآله)) فهو محق لأن منزلة الإمام(عليه السلام) من النبي(صلى الله عليه وآله) لا تخفى على أحد وهو القائل: (أنت مني بمنزله هارون من موسى)(8).
ومن الشعراء من استحضر شخصية الإمام الحسين(عليه السلام) في قوله:
ساءَ الحُسَينَ قتلُهُ وهَدّه
إذ كان خيرَ صاحب أعَدّه(9)
لقد أراد الشاعر في هذا البيت أن يصور فداحة المصاب من خلال تأثر الإمام الحسين(عليه السلام) به، لقد نجح الشاعر في توظيف مشاعر المتلقي تجاه شخصية الإمام(عليه السلام) خدمة لمضمون النص، مما انعكس إيجابًا على دلالة النص.
وأخيرًا امتاز هذا النوع من الأدب بأنه صدى لعواطف ملتهبة، أخمد الزمان لهيبها أن يظهر، وأطلق الأدب دخانها أن يثور، ففاح كما يفوح النَّدُ حين يحترق، وماء الورد حين يتصعد(10).
إذًا فأسلوب الرثاء كان يهدف إلى استثارة النفوس وتأليف القلوب، وعطفها نحو قضية أهل البيت(عليهم السلام) وما لاقوه من عذاب على يد الأمويين والعباسيين، لذا اتجه هذا الشعر نحو التفجع على الشهداء ورثائهم.
ويلاحظ الدارس لشعر رثاء الصحابي الجليل ميثم التمار (رضي الله عنه) وجود مضمون الحزن في شعر رثاء هذه الشخصية الإسلامية، وأن هذا الحزن مبعثه واقعية ما جرى على هذا الصحابي من ظلم بسبب ولائه المطلق لأهل البيت(عليهم السلام) ومن ثم فإن رثاءه رثاء لأهل البيت(عليهم السلام).
فضلًا عن هذا صوّر فن الرثاء الآثار الواضحة لنهضة الإمام الحسين (عليه السلام) في مسيرة التاريخ، تلكم الثورات العلوية المتعاقبة التي بدأت من أواخر الحكم الأموي واستمرّت خلال الحكم العبّاسي. وتعدّ هذه الثورات صدىً طبيعيًا لنهضة كربلاء المقدسة الدامية. وقد استمر العلَويّون في ثوراتهم وانتفاضاتهم، مُصرّين على أصل أنّ الإمامة والخلافة حقّهم الطبيعي المغتصَب>
الدكتور حسين لفته حافظ
مركز دراسات الكوفة
نشرت في العدد 70