Take a fresh look at your lifestyle.

الصراع الأزلي بين الحق والباطل

0 796
د. أحمد جاسم الخيال

            من الحقائق الناصعة في تأريخ البشرية هو الصراع الأزلي بين الحق والباطل،… بين من بعثهم الله عزوجل لهداية البشرية وهم الأنبياء (عليهم السلام)، وبين معارضيهم والكافرين بنبوتهم،… بين أوصياء الله والصالحين وبين المتجبرين والمتكبرين بغير الحق.

           وتتمثل دعوتهم جميعاً بتوحيد الله عزوجل، والإيمان به بحسب ما هو مركوز في فطرتهم، ورفض كل دعاوى الشرك والوثنية. وأيضاً بناء مجتمع مؤمن تحكمه تعاليم السماء دون ما هو سارٍ بين البشر من تقاليد وأعراف ونظم ابتدعوها ليسيسوا الناس بها.

          وكان من الطبيعي أن يُواجه الأنبياء (عليهم السلام) بالرفض والمقاومة، ومن هذه المنطقة بالذات ينشأ الصراع بين المثال الإلهي (الرؤية الإلهية لكيفية الحياة على الأرض) وبين الطواغيت والظلمة الذين يريدون أن يحكموا الناس بالقوة.

 

الصراع… رؤية عامة:

         إن للتجربة أهميتها، فمن خلالها نستطيع أن نميز بين الصواب والخطأ، لكن من الغريب أن يندفع الإنسان بتجاربه إلى مستوى قيادة الحياة على الأرض، متغافلاً الإمداد الغيبي والمعارف الإلهية التي أوحاها الله عزوجل لأنبيائه، هداية منه، ورشداً لبني الإنسان.

         فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض ليشكره ويعبده، ويؤكد ذلك قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، ولم تكن هذه العبادة التي فرضها الله عزوجل على البشر من اختيار الإنسان نفسه، إنما أنعم الله عزوجل عليه، فهو أعرف بحاله وبما يصلحه.

         فالتعاليم السماوية هبطت متزامنة مع هبوط آدم (عليه السلام) إلى الأرض ليأخذ بهديها ورشدها، ودليل ذلك قوله سبحانه وتعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) (البقرة: 31).

         واستمرت هذه التعاليم بالنزول من السماء إلى الأرض في مسيرة البشرية الطويلة، فنزلت الألواح ونزل الزبور ونزلت التوراة ونزل الإنجيل ونزل القرآن الكريم. كل ذلك لأجل أن لا يفقد الإنسان وجوده، وأن لا يخرج عن المراد منه والمخلوق لأجله، وأن لا يفقد ارتباطه بخالقه ومدبّر شؤونه.

         وكان في مقابل ذلك أن جعل الله الإنسان مخيّراً في أفعاله ومسؤولاً عنها. فلم يترك الله عزوجل الإنسان على وجه الأرض دون دليل يقوده لأجل العودة إلى السماء. فالأنبياء والأولياء (عليهم السلام) والتعاليم الحقّة التي أرشدوا إليها كانت كافية للخلاص.

          ولكن على الرغم من ذلك، أراد الإنسان أن يكون له رأي وحكم في مقابل إرادة الله عزوجل، وأراد أن تكون له تجاربه الخاصة في مقابل دعوة الأنبياء (عليهم السلام) لتحقيق الأطروحة الإلهية وحكم الله في الأرض، وكان ذلك بدافع قوّة العقل وحرية الاختيار، وهما من منح الله عزوجل إليه.

         إن إرادة الله سبحانه وتعالى غالبة وفوق كل شيء، وهو ذو القدرة التامة، ولا يعجزه شيء لا في السماوات ولا في الأرض، لكن أراد لغاية أن يكون الإنسان مختاراً في فعله، وألهمه في الوقت نفسه إرادتين، إرادة الخير وإرادة الشر، قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس: 7ـ8)، ولم يتركه دون هدى، إنما رسم له منهاجاً للفوز والنجاة، ولم يكن هذا المنهاج متوقفاً على مرحلة معينة من تاريخ الإنسانية، فكان لكل مرحلة نبي، يبلغ عن الله عزوجل تعاليمه وما من شأنه الإصلاح، ومثال ذلك أن آدم (عليه السلام)، أبو البشر، وأول من خلق الله عزوجل من الإنس كان نبياً، وتعلّم الأحكام مباشرة عن الله عزوجل، فهو في مرحلة متقدمة من الفكر والعلم، وقد أرشد أبناءه إلى ما أرشده الله عزوجل حتى لا يضيع الإنسان في خضم الحياة.

           هذه نقطة البداية في المسيرة البشرية الطويلة بعدها حدث الانحراف، لابتعاد الإنسان نفسه عن التعاليم السماوية بمحاولته وضع بديل عنها وبما يناسب هواه. فوضع الأنظمة والقوانين، وابتدع العقائد الزائفة من عبادة الثور والأصنام والملوك.

          وكان الإنسان كلما ابتعد عن فطرته بعث الله نبياً ليصحح أخطاءه، ويدعوه إلى الرجوع إليه، ونتيجة لذلك حدث الصراع بين قوى الخير وبين قوى الشر، بين الأنبياء وأتباعهم وبين الجبابرة والمتسلطين، بين إرادة الله وأهواء الفاسدين.

          فالأنبياء وأولهم آدم (عليه السلام) كانوا في مستوى التكليف الإلهي لإبلاغ رسالته، فلم يكن الإنسان بدائياً لا يفهم ولا يفقه شيئاً، كما أراد التاريخ أن يثبت ذلك، إنما هو نبي، وعلّمه الله عزوجل كل ما يحتاجه، فهو في أعلى درجة من الفكر والصفاء، وبعده حدث التدني الفكري والانحراف فبدأ الصراع.

         إن تاريخ هذا الصراع هو نفسه تاريخ الحياة على الأرض، وقد تناوله القرآن الكريم في مواضع لا يمكن حصرها، وقد مثلت هذه المواضع ثلثاً كاملاً من القرآن الكريم، وهذا يؤكد أهمية هذا الصراع، وأهمية الوعي به وإدراكه ومعرفة حدوده وأبعاده وتأثيره على مستقبل الإنسان وتحديد مصيره في الحياة الأخرى. قال تعالى: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ)(القصص:65ـ66).

صراع الأنبياء:

         إن زمن هذا الصراع طويل نسبياً، ويمتد من لحظة نزول آدم (عليه السلام) إلى الأرض، وينتهي في سنة وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) خاتم الأنبياء والمرسلين، وإن عدد الأنبياء يكاد يصل إلى مائة وأربعة وعشرين ألف نبي حسب ما جاء في الروايات، ويؤشر مدى اهتمامهم (عليهم السلام)وحرصهم على إنقاذ البشر من الضلال، ومحاولة إرجاعهم إلى دين الفطرة وعبادة الواحد الأحد. إذ كان همّ الأنبياء (عليهم السلام) واحداً، وهدفهم لا يخرج عن الدعوة إلى توحيد الله عزوجل، رغم اختلاف الأمم التي بعثوا إليها، وتباين الأشخاص الذين حدثت معهم المواجهة، وتباين أهدافهم ونواياهم.

          وهذه مسألة مهمة، تُبين تكامل الأنبياء، وإن أحدهم يكمّل الآخر لأجل إنقاذ البشرية من الضلالة والانحراف والاختلاف، وإن اختلاف نوايا أعدائهم وتعدد أهدافهم يبين لنا أن ما يحركهم دوافع مختلفة باختلاف الزمان والأمم.
إن الأفكار والأهداف والشعارات تتضارب عند أعداء الأنبياء (عليهم السلام) لكن عند الأنبياء تجدها واحدة، لأنهم جميعاً على خط واحد.

          فالأنبياء (عليهم السلام) جميعاً كانوا يدعون إلى تحقيق المثال الإلهي للحياة على الأرض، وأن تعبد الناس الله ولا تشرك به أحداً، وتأخذ الأحكام وما يدير شؤونها من السماء بواسطة النبي (صلى الله عليه وآله)، وبذا يعمّ الخير وجه الأرض وتغمر السعادة نفوس الناس جميعًا.

       إلّا أن أعداء الأنبياء، أعداء الإنسانية في مسيرتها الطويلة، أصحاب النفوس المريضة والأهداف الدنيوية الضيقة، كانوا يقفون دائماً في وجه الأنبياء، محاولين تعطيل دورهم، وإبعاد الناس عنهم.

         وقد أخبرنا القرآن الكريم عن هذه المواجهة في أكثر من موضع، وأخبرنا عما لاقاه الأنبياء (عليهم السلام) في سبيل إرجاع الناس إلى الفطرة وعبادة الله عزوجل وتوحيده، وما تحمّلوه من أذى في سبيل تحقيق المثال الإلهي.

         ومن الأنبياء الذين أخبرنا عنهم عزوجل، النبي نوح (عليه السلام)، فقد دعا الناس ليلاً ونهارًا ليؤمنوا بالله سبحانه وتعالى، إلّا أنهم كانوا لا يسمعونه بسبب استكبارهم. قال الله عزوجل على لسانه: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً)(نوح: 5ـ7).

          نلاحظ في هذه الآيات شكوى النبي نوح (عليه السلام) من قومه، الذين أصرّوا على الكفر بالله العظيم، وعدم الإيمان به وبدعوته، على الرغم من أن النبي نوحًا (عليه السلام) قد صوّر لهم الحياة الكريمة إن هم تابوا وآمنوا بالله عزوجل، فقد صوّر لهم المثال الإلهي لكيفية حياتهم بعد توبتهم ورجوعهم إلى الله عزوجل، قال تعالى على لسان نوح (عليه السلام):

          (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً) (نوح:10ـ12).

           لقد وعدهم النبي نوح (عليه السلام) بحياة كريمة وعزيزة، وأغراهم بكل ما من شأنه أن يجعل حياتهم مرفّهة ووعدهم بالأموال والبنين والجنات والأنهار إن هم آمنوا بالله عزوجل.

          إلا أن قومه لم يؤمنوا به، ولم يؤمنوا بما دعاهم إليه، واتبعوا أهل الضلال أصحاب الأموال والأولاد وعبدة الأصنام. فكانت عبادة الأصنام ظاهرة في ذلك الوقت، فاستغلّها أعداء الأنبياء ليميلوا بالناس عن اتّباع الحق، ليكونوا أنداداً لدعوة الأنبياء وبعيدين عن إدراك مستوى المثال الإلهي. وقد وضح الله سبحانه وتعالى ذلك في قوله: (قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً * وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً * وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً)(نوح: 21ـ23).

            تجد النبي نوحًا (عليه السلام) في هذه الآيات الكريمة يصور نهاية الصراع بينه وبين الكفار بعد أن حصل له اليقين بعدم استجابتهم لدعوته، فهم عاكفون على عبادة الأصنام التي صوروها، وهي أسماء قوم صالحين بين آدم ونوح (عليه السلام)، فلما ماتوا صوروهم ليقتدوا بهم ثم عبدوهم(1). وهذه الأسماء الخمسة التي أصبحت أصناماً وهي (ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر)، وكانت تمثل المقابل للمثال الإلهي عند قوم نوح، وقد اخترعها الرؤساء أصحاب الأموال والأولاد ليسيطروا بها على الناس ويحكمونهم.

           لذا عندما استشعر النبي نوح (عليه السلام) اليأس من قومه دعا عليهم بالهلاك، فاستجاب الله عزوجل دعوته وأغرق الكفار في الطوفان العظيم ونجا من معه من المؤمنين، وخلت الأرض من أصحاب العقائد المنحرفة.
وذكر ذلك الله عزوجل في كتابه الكريم على لسان النبي نوح (عليه السلام)، قال تعالى: (وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً * رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً)(نوح:26ـ28).

          وتحقق المثال الإلهي في حقبة ما بعد الطوفان، وكان ذلك بمساعدة إلهية إذ أهلك الله تعالى الكفار بالغرق وقطع جذورهم، ويدل على ذلك قول إبليس نفسه، والذي يعد من المنظور العقائدي هو الموجد الحقيقي لكل التجارب البشرية الفاسدة والتي وقفت على الضد من تحقيق المثال الإلهي على وجه الأرض. فعن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال: (لما دعا نوح (عليه السلام) ربه عزوجل على قومه، أتاه إبليس (لع) فقال: يا نوح إن لك عندي يداً أريد أن أكافيك عليها، فقال نوح (عليه السلام): والله إني لبغيض إلي أن يكون لك عندي يد، فما هي؟ قال: بل دعوت الله على قومك فأغرقتهم فلم يبق أحد أغويه، فأنا مستريح حتى ينشأ قرن آخر فأغويهم، فقال نوح (عليه السلام): ما الذي تريد أن تكافئني به؟ قال له: اذكرني في ثلاث مواطن فإني أقرب ما أكون إلى العبد إذا كان في أحداهن: اذكرني إذا غضبت، واذكرني إذا حكمت بين اثنين، واذكرني إذا كنت مع امرأة خالياً ليس معكما أحد(2).

           هذه الرواية تصور واقع الصراع بين الأنبياء وأتباعهم وبين إبليس ومن أضلهم، وتصور الحقيقة المرة في نتائج هذا الصراع، ففضلاً عن أن الكثير من الناس يفشلون في الاختبار ويحل غضب الله عزوجل عليهم، فإنه في الوقت نفسه يؤجل تحقيق المثال الإلهي للحياة على الأرض، فانزواء إبليس يشبه استراحة المحارب حتى ينشأ قرن آخر.
لا يمكن لي في هذه المساحة الضيقة ـ وهو بحث معدود الصفحات ـ أن أتناول بالذكر صراع جميع الأنبياء، فجميعهم (عليهم السلام) كانوا في مستوى المثال الإلهي، ولأجل هذا دخلوا في صراع مع قوى الكفر والظلام، وحاولوا بما أُوتوا من قوة وقدرة تصحيح الانحراف الذي مرت به البشرية، وقدموا كل في زمنه مثالاً للإخلاص، ومثالاً للدفاع عن عقيدة التوحيد وحرصاً شديداً من أجل إقامة حكم الله في الأرض.

          ومن بعد نوح (عليه السلام) أتطرق إلى ما مر به النبي موسى (عليه السلام) وهو في مواجهة فرعون الذي نصب نفسه رباً للناس، فقد أمر الله سبحانه وتعالى النبي موسى (عليه السلام) بعد أن منحه وسام النبوة، وقال له: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)(طه: 24)، وبعد أن شعر موسى (عليه السلام) بصعوبة المهمة ـ لمعرفته شدة بطش الفراعنة، وأنهم كانوا طغاة ولا يأتمرون لأحد ـ طلب من الله عزوجل، أن يشرك أخاه هارون في أداء المهمة، كما جاء في قوله تعالى على لسان موسى (عليه السلام): (وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)(14).
فاستجاب الله عزوجل لدعائه وخاطبه مع أخيه هارون (عليه السلام) في موضع آخر، قال تعالى: (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)(طه:29ـ32).

          وهذه الآيات تؤكد أن الله عزوجل كان لا يهمل الانحرافات التي تواجه المسيرة البشرية، وإنما كان دائماً يبعث نبياً ليواجهها، ويحاول تصحيح الأخطاء التي تعصف بالناس وبوجودهم، فالنبي موسى وأخوه هارون (عليه السلام) بعثهما الله عزوجل إلى فرعون بعد أن طغى، وأراد بواسطتهما أن يقتلع جذور الظلم والكفر، وأن يُرجعا الناس إلى دين الفطرة وعبادة الله وحده. فالمثال الإلهي يتنافى تماماً مع حكم الفراعنة الذي يعد من التجارب البشرية الصعبة.

          وحدثت المواجهة بين موسى وأخيه هارون (عليه السلام) وبين فرعون وجنوده، وكان من البديهي أن يرفض فرعون الدعوة، وهو يعد نفسه مالكاً لكل شيء، الأرض والناس والهواء والماء، وبمستوى فهم الطغاة رد على النبي موسى (عليه السلام)، كما جاء في قوله تعالى: (قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى) (طه:57)، وهذا الرد كان متوقعاً من فرعون، فاتهم النبي موسى (عليه السلام) بما في نفسه من حب السيطرة والتصرف بمقدرات الناس والأرض. وبعد انتصار النبي موسى (عليه السلام) على السحرة في يوم الزينة، جمع فرعون جنوده من كل المدائن للقضاء على موسى (عليه السلام) ومن آمن معه، قال تعالى: (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ* إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ* وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ)(الشعراء:53ـ55)،

             وسار النبي موسى (عليه السلام)، ومن آمن معه باتجاه البحر فاراً من بطش فرعون وجنوده ، وقد أنجاه الله عزوجل بعد أن ضرب بعصاه البحر فعبر وقومه، وتبعه فرعون وجنوده، فأطبق البحر عليهم وغرقوا، قال تعالى: (وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ)(الشعراء:65ـ66).

           وبعد أن غرق رمز الطغيان والكفر ومن معه، وأنجى الله موسى (عليه السلام) ومن آمن من بني إسرائيل، نسأل: هل تحقق المثال الإلهي؟ وهل كان بنو إسرائيل بمستوى المسؤولية وبالمستوى المطلوب من الإدراك لإقامة المثال الإلهي؟ وهل أنهم عبدوا الله حق عبادته بعد أن نجاهم من آل فرعون الذين كانوا يسومونهم سوء العذاب ويذبحون أبناءهم ويتجاوزون على حرمهم، قال تعالى: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ)(البقرة:49)،

         والجواب: إن النفوس كانت غير مستعدة لإقامة حكم الله في الأرض، وإن إيمانهم بالنبي موسى (عليه السلام) إيمان المنقذ من الظلم، لذلك بعد أول اختبار فشل كثير منهم في تجاوزه، فما أن ذهب النبي موسى (عليه السلام) لميقات ربه حتى عبدوا العجل من بعده وظلموا أنفسهم. قال تعالى: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ) (البقرة:51)، ثم قالوا للنبي موسى (عليه السلام) إنهم لن يؤمنوا حتى يروا الله جهرة، وهذا الطلب يكشف عن مدى جهلهم بالله عزوجل، قال تعالى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(البقرة: 55ـ56).

           نرى أنه بعد انتهاء الصراع بين النبي موسى (عليه السلام) وفرعون، ظهر صراع آخر بين النبي وقومه، وقد جاهد النبي موسى (عليه السلام) ليصل بنفوسهم إلى مستوى المثال وتوحيد الله عزوجل والامتثال لأوامره إلّا أنهم كانوا يخذلونه في كل مرة، حتى غضب الله عزوجل عليهم، قال تعالى: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ)(البقرة: 61).

            يكشف ما مر ذكره من صراع النبي موسى (عليه السلام) – سواء أكان هذا الصراع مع فرعون أم مع قومه – أن الإنسان يحتاج إلى زمن طويل جداً، ويمر بمختلف التجارب ويقاسي بؤسها ومرارتها، من ثم يكون قريباً من تقبل المثال الإلهي. والبشرية في مسيرتها الطويلة لابد أن تنتج الصفوة التي استفادت من التجارب السابقة، وتكون جاهزة لإقامة المثال الإلهي على الأرض.

       فسُنَّة الصراع بين قوى الخير المتمثلة بالأنبياء والأولياء والصالحين وبين قوى الشر المتمثلة بالجبابرة والطواغيت والكافرين استمرت منذ خلق الله الإنسان على وجه الأرض وستستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ينظر: تفسير القرآن، للسيد عبد الله شبر: 534.
(2)الخصال/ الشيخ الصدوق/ 132.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.