أ.د.جواد كاظم النصرالله جامعة البصرة ـ كلية الآداب
تعد السيرة النبوية المترجم الفعلي للنص القرآني، فلو أردنا أن نرى تعاليم القرآن على أرض الواقع فسوف نجدها متمثلة بسيرة النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله)، لذا فهي الكاشفة عن المراد القرآني، من هنا وجب الاطلاع على هذه السيرة ومعرفة كنهها. وفي الواقع يمكن القول أن هناك سيرتان للنبي محمد (صلى الله عليه وآله)،
الأولى هي السيرة الواقعية التي طبقت فعليًا على أرض الواقع، وهذه السيرة لا نجد لها مصدرًا أصدق من القرآن الكريم،
أما السيرة الثانية فهي ما نحمله نحن الآن كأفراد من رؤية، من تصور في أفكارنا، أذهاننا، مخيلتنا عن النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، وهذه الرؤية والصورة تختلف وتتعدد باختلاف وتعدد الأفراد، لأنها تعتمد على ما ورثناه من كتب التراث من روايات تاريخية سواء وردت في كتب الحديث أم التفسير أم التاريخ. والتي كتبها الحكام عبر رواة مأجورين فشوهوا الصورة الحقيقية للسيرة النبوية لتتماشى مع أمزجتهم وليبرروا سلوكياتهم المنحرفة.
في الواقع حينما نقارن بين الرؤية القرآنية والتاريخية، فسنجد في أكثر الأحيان بونًا شاسعًا بينهما، ففي الوقت الذي تعبر الرؤية القرآنية عن رؤية الله تعالى (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى)(النجم:3)، نجد الرؤية التاريخية تعبر عن أهواء الأفراد وقناعاتهم الفكرية بل ومسبقاتهم الأيديولوجية. وحينما يتحدث القرآن عن نشأة الأنبياء فإنه يتحدث عنهم بقدسية وإكبار، فعن النبي عيسى (عليه السلام) يقول: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ)(مريم:29ـ 34).
وحينما تحدث عن النبي يحيى (عليه السلام) قال: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)(مريم:12ـ15).
وفي حديثه عن النبي موسى (عليه السلام): (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)(القصص:7).
وهكذا جميع الأنبياء الذين ذكرهم الله سبحانه في القرآن الكريم، ولكننا حينما نلقي نظرة على تصوير الرواية التاريخية المشوهة للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) سنجدها صادرت الأربعين سنة الأولى من عمره الشريف، فهو يتيم أبي طالب(1) الذي عجزت بنو هاشم، بل قريش بأسرها أن تجد له مرضعة، إذ رفضته جميع الرضائع المجهولات الهوية، اللواتي لا واقع تاريخي لهن إلا في مخيلة راوٍ مجهول الهوية أيضا(2)،
ففي الوقت الذي تدخلت السماء وحرمت أن ترضع موسى أي امرأة كانت سوى أمه(3) كما ورد في نص القرآن المجيد. تخرج علينا الرواية التاريخية لسيرة نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله) لتقول: فقد حرمت على أمه أن ترضع وليدها الوحيد، وتركته يرمى من يد مرضعة إلى أخرى لأنه يتيم أبي طالب، ولولا أن ترجع أحداهن خالية الوفاض لرجع عبد المطلب بحفيده بلا مرضعة(4).
في الوقت الذي يحدثنا القرآن الكريم عن الرعاية الإلهية التي اكتنفت النبي (صلى الله عليه وآله) منذ ولادته حتى وفاته، بقوله تعالى: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى…. أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى)(الضحى: 3، 6، 7، 8)، وقد ترجم ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) حين وصف لنا تلك الرعاية الإلهية للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) بقوله: (ولَقَدْ قَرَنَ اللهَ بِه (صلى الله عليه وآله) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً، أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه)(5)..
ولكن كتّاب السير شوهوا الصور الحقيقية لنشأة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ليقللوا من شأنه وأهميته وتميزه.
وحينما تحدث القرآن عن لحظة التكليف الإلهي للأنبياء بتبليغ أممهم كان ذلك بأبهى صور التقديس، كما لاحظنا ذلك في الآيات المتقدمة عن الأنبياء عيسى ويحيى وموسى وبقية الأنبياء (عليهم السلام)، ولكن لننظر إلى الروايات التاريخية المزيفة المدسوسة التي ملأت كتبنا ماذا تقول عن بعثة النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، إنها تتحدث عن جهل تام عند النبي (صلى الله عليه وآله) بما حدث في الغار، والذي حصل إثر معركة ومشادة كلامية، فجبرئيل لم يعرف نفسه للنبي (صلى الله عليه وآله)، بل وكأنه قد أخذ بمعاقبة النبي (صلى الله عليه وآله) الذي لم يعرف مراد الوحي من (اقرأ)، وانتهى الأمر بمحاولة النبي الانتحار خشية حديث الناس عنه واتهامه بالجن، ولكن لولا خديجة وابن عمها ورقة بن نوفل الذي منح النبي (صلى الله عليه وآله) شهادة النبوة، فغدا ذلك دليلًا يتكئ عليه المستشرقون بأن النبي (صلى الله عليه وآله) تتلمذ على يد ورقة بن نوفل، ثم ادعى النبوة، وما دامت الرواية بدأت بـ (أول ما بدئ به الوحي الرؤيا الصادقة) وختمت بدثروني دثروني، لذا فهم البعض أنها كانت رؤيا مزعجة (كابوس، أضغاث أحلام) استفاد منها النبي وأدعى أنه نبي، مع أن الرواية انفرد بها عروة عن خالته عائشة التي لم تكن مولودة يومذاك(6)!
وعن كيفية لقاء النبي (صلى الله عليه وآله) بالوحي تقول الرواية التاريخية: (سُئِلَ رَسُول الله (صلى الله عليه وآله): كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَليَّ فَيُفْصَمُ عَنِّي، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلاً فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ). وقَالَتْ عَائِشَةُ وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْي فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا)(7).
هكذا وردت بعض الروايات المدسوسة في كتب السيرة متحدثة عن بداية البعثة النبوية !!
وحينما يتحدث القرآن عن خلق النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) يقول الله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(القلم:4)، ويقول: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(آل عمران:159).
ولكن ماذا تقول الرواية التاريخية: إنه كان يطمس الآبار حتى لا يستفيد منها عدوه(8). وإنه كان يشتم أصحابه ويسبهم ويضربهم بغير وجه حق. وكان يدعو الله أن يجعل ذلك زكاة لهم(9). وكان يأمر بقطع الأيدي والأرجل(10). وكان لا يعدل بين نسائه(11). ويتآمر على مولاه ليطلق زوجته ليتزوجها(12).
ولكن أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول في وصف النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله):
(كان أجود الناس كفًّا، وأجرأ الناس صدرًا، وأصدق الناس لهجةً، وأوفاهم ذمةً، وألينهم عريكةً، وأكرمهم عشرةً، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، لم أر قبله، ولا بعده مثله (صلى الله عليه وآله))(13)،
وقال (عليه السلام) عنه أيضًا: (بعث الله سبحانه محمدًا رسول الله (صلى الله عليه وآله) لإنجاز عدته، وتمام نبوته. مأخوذًا على النبيين ميثاقه، مشهورة سماته، كريمًا ميلاده. وأهل الأرض يومئذ ملل متفرقة. … فهداهم به من الضلالة. وأنقذهم بمكانه من الجهالة. ثم اختار سبحانه لمحمد (صلى الله عليه وآله) لقاءه. ورضي له ما عنده وأكرمه عن دار الدنيا ورغب به عن مقارنة البلوى. فقبضه إليه كريمًا (صلى الله عليه وآله))(14).
ونقرأ في الرواية التاريخية (من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)(15). ولكن هل كان في الصحابة من كان يعبد النبي (صلى الله عليه وآله)؟ وإن كان معنى العبادة الطاعة فهل طاعة النبي (صلى الله عليه وآله) في حياته فقط أم بعد وفاته أيضا؟!!
ولكن الرؤية القرآنية تشير لطاعة النبي (صلى الله عليه وآله) طاعة مطلقة إلى يوم الدين، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)(النساء:64ـ 65).
وقد ذكر السمهودي في كتابه وفاء الوفا نماذج من زيارة المسلمين لقبر رسول الله وتلاوة هذه الآية عند قبره الشريف، وفيما يلي نذكر بعض تلك النماذج:
روى سفيان بن عنبر عن العتبي – وكلاهما من مشايخ الشافعي وأساتذته – أنه قال: كنت جالسا عند قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) وقد جئتك مستغفرًا من ذنبي، مستشفعًا بك إلى ربي. ثم بكى وأنشأ يقول:
يا خير من دفنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفــداء لقـبر أنت سـاكنه فيه العفاف وفيه الجـود والكرم
ثم استغفر وانصرف، فرقدت ورأيت النبي (صلى الله عليه وآله) في نومي وهو يقول: اِلحق الرجل وبشره أن الله قد غفر له بشفاعتي(16).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1)هكذا نعتته الروايات الأموية استهجانًا، ينظر: ابن حنبل: مسند أحمد 1/312، البيهقي: السنن الكبرى 7/129، الذهبي: تاريخ الإسلام 1/65، المقريزي: امتاع الأسماع 1/18. 2)وهو جهم بن أبي الجهم. ينظر: النصر الله: نشأة النبي محمد (صلى الله عليه وآله) في ديار بني سعد ص13. 3)قوله تعالى في سورة القصص: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) الآيات 12 ـ 13. 4)السير والمغازي/ابن إسحاق: ص48-50. ينظر: تاريخ الطبري: 1/572؛ تاريخ دمشق/ابن عساكر/ 3/91؛ أسد الغابة: ابن الأثير: 5/427؛ البداية والنهاية/ ابن كثير: 2/333. 5)نهج البلاغة/ تحقيق صبحي الصالح/ص300. 6)صحيح البخاري1/3، صحيح مسلم 1/97، عمدة القارئ/العيني: 1/46. 7)مسند ابن راهوية 2/252، خلق أفعال العباد/ البخاري: ص83. 8) تاريخ الطبري: 3/29، السنن الكبرى/ البيهقي: 9/84. 9)مسند أحمد 3/400، صحيح مسلم 4/88. 10)صحيح البخاري: 4/22. 11)مسند ابن حنبل: 6/88، سنن النسائي 7/65. 12)مكارم الأخلاق/الطبرسي/ ص18. 13)نهج البلاغة/ج 1ص24. 14)جامع البيان الطبري: 22/17. 15)التمهيد/ ابن عبد البر: 24/ 401، فتح الباري/ ابن حجر: 8/110. 16) وفاء الوفاء/ السمهودي: 4/1361. شفاء السقام في زيارة خير الأنام/ السبكي، الزيارة في الكتاب والسنة/ السبحاني: ص44 ـ 45.