جوانب كثيرة شرعها وأسسها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) تبين عظمته بوصفه مبعوثًا من قبل الله تعالى، جاء برسالة منحت البشرية خطوات كبيرة في الرقي والعدل لم يتوصل إلى بعضها إلّا في العصر الحديث، نشير إلى بعضها باختصار مع الأخذ بنظر الاعتبار الوضع الذي نشأ به النبي (صلى الله عليه وآله) في أمة جاهلية ليس فيها مدنية أو تحضر، إنما عبارة عن قبائل متناحرة دون وعي تعيش على الظلم والغزو والسلب والاعتداء والهمجية والعصبية.
ومعروف أن من ينشأ ويترعرع في مكان ما وبيئة مجتمعية ما سيكتسب طبائعها، فإن حاول أن يخالف بعضها فإنه لا يستطيع بسهولة أن يتمرد على الكثير منها، فضلًا عن أنه ليس بالضرورة أن من يغير بعض ما نشأ عليه يكون قد حصل على النتائج الفضلى.
النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) غيّر الكثير الكثير، وكل التغيير أضحى الأفضل، بل إنه (صلى الله عليه وآله) كان له السبق في أمور غيرت مجرى حياة الإنسانية، وللمثال نتأمل النقاط الآتية:
أ ـ الاهتمام بالنظافة:
كان العرب في الجزيرة العربية ينقصهم الماء، فليس هناك أنهار، ومن الطبيعي أن لا يهتموا بالنظافة لقلة الماء، ولكن النبي (صلى الله عليه وآله)
حث على النظافة في مسائل مهمة منها:
1-النظافة العامة: أمر بالنظافة بصورة عامة لكل شيء، وجعلها سنة يحتذى بها، وقد روي عنه قوله (صلى الله عليه وآله): (تنظفوا فإن الإسلام نظيف ولا يدخل الجنة إلا نظيف) (1).
2- الأغسال: وتضم عددًا كبيرًا من الأغسال الواجبة كغسل الجنابة، غسل الحيض، غسل النفاس، غسل الميت، غسل مس الميت، وغسل الوجه واليدين كل يوم للصلاة عدة مرات، والأغسال المندوبة كغسل الجمعة، غسل أول الشهر القمري، غسل الفطر والأضحى، وغسل من أراد الإحرام للحج أو العمرة، غسل الزيارة، وغيرها الكثير، وقد ذكرت في الرسائل العملية للعلماء.
3- تنظيف الأسنان: أمر (صلى الله عليه وآله) بالسواك لتنظيف الفم وهو عود يفترش مثل الفرشاة اليوم وفيه مادة ثبت علميًا أنها جيدة للتنظيف.
4- تنظيف الثياب والشعر: روى الطباطبائي صاحب الميزان أن النبي (صلى الله عليه وآله)
قال لعائشة: يا عائشة اغسلي هذين البردين، فقالت: يا رسول الله بالأمس غسلتهما، فقال لها أما علمت أن الثوب يسبّح فإذا اتسخ انقطع تسبيحه(2). وروي أنه (صلى الله عليه وآله) رأى رجلًا شعثًا قد تفرق شعره، فقال: أما كان يجد هذا ما يسكن به رأسه؟ ورأى رجلًا عليه ثياب وسخة، فقال: أما كان يجد هذا ما يغسل به ثيابه؟(3) وروي أنه أمر بتعاهد الشعر وتنظيفه وتنظيمه وإلاّ حلقه.
5- التطيب والتعطر: حث الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) على التطيب والتعطر حتى روي أنه كان ينفق على الطيب أكثر مما ينفق على الأكل.
ب ـ الاهتمام بالأطفال:
اهتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالأطفال ماديًا ونفسيًا، إذ كانت النظرة الجاهلية، التي ولد في أجوائها النبي (صلى الله عليه وآله)، للأطفال سيئة فكانوا يقتلون أطفالهم خوفًا من الفقر، ويدفنون البنت حية (وأد البنات) لأنهم يعتبرونها عارًا، ولكن الرسالة التي جاء بها النبي (صلى الله عليه وآله) حرمت ذلك أشد التحريم، وأكرمت الأبناء، وأمرت برحمتهم وأوجبت نفقتهم على الأب حتى يبلغوا، أما البنات فتبقى نفقتها عليه حتى بعد البلوغ، وجعل لتربية الأطفال أسسًا راقية مبنية على الرحمة ومداراة ما يحتاجه الطفل في الجانب الجسدي والنفسي، وللمثال (كان رسول الله يُقبِّل الحسن والحسين ـ فقال أحدهم ـ: إن لي عشرة ما قبلت واحدًا منهم قط، فقال (صلى الله عليه وآله): من لا يَرحم لا يُرحم، وفي رواية: غضب رسول الله (صلى الله عليه وآله)
حتى التمع لونه، وقال للرجل: إن كان قد نزع الرحمة من قبلك فما أصنع بك، من لم يرحم صغيرنا ويعزز كبيرنا فليس منا) (ينظر: مناقب آل أبي طالب/ابن شهرآشوب/ج3ص155). وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله)
راعى مشاعر الأطفال وحالتهم النفسية. روي عن أم الفضل قالت: (أخذ مني رسول الله (صلى الله عليه وآله) حسينًا أيام رضاعه، فحمله فأراق ماء على ثوبه، فأخذته بعنف حتى بكى، فقال: (مهلًا يا أم الفضل إن هذه الإراقة الماء يطهرها، فأي شيء يزيل هذا الغبار عن قلب الحسين(عليه السلام))(4).
ت ـ النظرة إلى المرأة:
كانت الجاهلية، بل والعالم كله بصورة عامة ينظر للمرأة نظرة سلبية فقد جاء في شرائع الهند: (إن الوباء والموت والجحيم والسم والأفاعي والنار خير من المرأة)(5) وفي شريعة منو في الهند لم تكن المرأة تعرف حقًا مستقلًا، وكان الواجب أن تموت بموت زوجها وتحرق معه، وكانت شريعة حمورابي تعدها من المتاع الذي يمتلكه الرجل، وكان اليونان الأقدمون يضعون النساء في منازل بعيدة عن الطرق قليلة النوافذ محروسة الأبواب(6).
وعدّ الرومان المرأة حيوانًا لا روح له ولا خلود وواجب عليها خدمة الرجل، وفي فرنسا سنة 586م عقد اجتماع دار فيه البحث عن المرأة أتعد إنسانًا؟ وقرر أخيرًا إنها إنسان ولكنها مخلوقة لخدمة الرجل. أما في إنكلترا فقد أصدر الملك هنري الثامن أمرًا بتحريم مطالعة الكتاب المقدس على النساء، والقانون الانكليزي حوالي سنة 1850م لا يعد المرأة من المواطنين، وليس لها حقوق شخصية(7)، أما في الجزيرة العربية التي جاء بها الإسلام فيكفينا قوله تعالى في تصوير الحالة المأساوية: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (النحل:59). لكنّه – جلّ شأنه – جعل خطابه متساويًا للرجل مع المرأة: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة:228)، وأمر النبي (صلى الله عليه وآله) بإكرامهن فقد روي عنه قوله: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، ما أكرم النساء إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم)(8)، وجعلها متساوية مع الرجل في الثواب والعقاب والواجبات والحقوق إلا ما يختلف لاختلاف تركيبة المرأة كإسقاط النفقة على أطفالها فلم يوجب عليها كسب المال لإعاشتهم بل أوجب على الرجل توفير المال لها ولأطفالها، ونهى عن قتال النساء والولدان في دار الحرب إلا أن يقاتلوا فإن قاتلت أيضًا فأمسك عنها ما أمكنك.
ث ـ الرفق بالحيوان:
ظهر في العصر الحديث مصطلح حقوق الحيوان والاهتمام بذلك، بيد أن هذا الأمر كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد وضعه في وقته: عن النبي (صلى الله عليه وآله): (يجب للدابة على صاحبها ست خصال، يبدأ بعلفها إذا نزل، ويعرض عليها الماء إذا مر به، ولا يضربها إلّا على حق، ولا يحملها ما لا تطيق عليه، ولا يكلفها من السير ما لا تقدر عليه، ولا يقف عليها فواقا)(9). الفواق: كناية عن الوقت الذي ليس بطويل، وعنه (صلى الله عليه وآله): (اركبوا هذه الدواب سالمة ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق، فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا لله تبارك وتعالى منه)(10).
ونهى النبي (صلى الله عليه وآله) عن إخصاء الحيوانات والتحريش بينها، أي يثيرها لتتقاتل، وقد كانت طرق قتل الحيوان ضربًا أو الإلقاء من شاهق وغير ذلك، ولكن النبي (صلى الله عليه وآله) غيَّر ذلك وأمر بالذبح وجعل له آداباً مثل أن يُحد السكين جيدًا، وأن يسقى الحيوان ماءً، وألا يذبح أمام الحيوانات الأخرى، وألا يذبحه من رباه بيده، إلى غير ذلك من آداب راقية في إنسانيتها وطبيعتها في الرفق.
ج ـ حقوق البيئة:
اهتم النبي (صلى الله عليه وآله) بالحفاظ على البيئة وعدم تلويثها بل أمر بتطويرها، وإنمائها وعدم استنزاف ثرواتها فمن ذلك: أنه (صلى الله عليه وآله) أمر بالاقتصاد وهو الأخذ قدر الحاجة وعدم هدر المواد التي وهبها الله لنا في الارض، وحرم الإسراف والتبذير وهدر الأشياء، وإن كان هناك فائض. فقد روي أن النبي (صلى الله عليه وآله) (مر على سعد وهو يتوضأ، فقال ما هذا السرف يا سعد؟ فقال: أفي الوضوء سرف؟ قال (صلى الله عليه وآله): نعم وان كنت على نهر جار)(11). فرغم كثرة ماء النهر لكن النبي (صلى الله عليه وآله) نهى أن يسرف فيه.
وكان (صلى الله عليه وآله) يوصي الجيش ألّا يقطعوا الأشجار ولا يحرقوا الزرع، ونهى (صلى الله عليه وآله) أن يلقى السم في بلاد المشركين. ونهى أن يبول الإنسان في الماء ولاسيما الراكد منه أو أن يقضي حاجته تحت شجرة مثمرة.
ونهى عن قتل الحيوانات دون ضرورة. فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (من قتل عصفورا عبثا جاء يوم القيامة وله صراخ حول العرش يقول: رب سل هذا فيم قتلني من غير منفعة)(12)، ونهى عن قتل النحل. وقبال ذلك أمر بالإصلاح وعدم الفساد في الأرض فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله): (من أحيا أرضًا ميتة فهي له)(13)، وروي عنه (صلى الله عليه وآله): (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها)(14).
ح ـ التعايش السلمي:
بدأ النبي (صلى الله عليه وآله) دعوته في مكة، فآمن به بعض قومه، لكن عموم مجتمعه اضطهدوه وحاصروه وعذبوا وقتلوا بعض أصحابه وهجروا بعضهم حتى خططوا للغدر به فأنجاه الله تعالى منهم فهاجر إلى المدينة بعد أن آمن أهلها بدعوته، ومع ما يوجد فيها من يهود لم يقسرهم النبي (صلى الله عليه وآله) على اتباعه، بل تكاتب معهم للتعايش سلميًا، وبالرغم مما كابده من عناد قريش، وبعد أن دارت الحروب الطويلة بينه وبينهم بقي النبي (صلى الله عليه وآله) يحرص على السلم حتى تصالح معهم وتكاتب وفق شروط فيها نوع من التنازل الوقتي الذي لم يقبله بعض أصحابه وقتئذٍ، بيد أنهم وبعد أن غدروا به دخل مكة منتصرًا ومع ذلك عفا عن هؤلاء المجرمين.
إنّ من أرقى الدلالات على تقبل الرأي الآخر نجدها في قوله تعالى على لسان النبي (صلى الله عليه وآله): (…وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (سبأ: 24)، فهذا الأدب الذي جاء به حال النقاش مع الآخر لا أن يقول إن الحق معي ويتزمت برأيه بل لابد أن يتساهل ويحتمل وجود الحق عند الآخر أو مع الطرف الآخر ـ رغم علمه يقيناً بأن الحق معه، وهذا هو الإنصاف وقبول الرأي الآخر، وإن غاية البحث الوصول إلى الحقيقة بعيدًا عن الجدل السلبي أو المراء الذي يؤدي إلى الخلاف ولا يوصل إلى نتيجة إيجابية.
خ – التواضع والبساطة:
بالرغم من أنّ أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) كانوا يعظمونه إلى درجة تفوق احترام الملوك، لكنه (صلى الله عليه وآله) كان لا يرتضي أن يميز نفسه عنهم، بل كان يجلس على الأرض كما يجلسون ويأكل الطعام البسيط كأكل الفقراء فلا يشبع، وكان يصلح نعله بيده ويرقع ثوبه، وأنه لم يبنِ قصرًا أو بيتًا متميزًا، ولم يلبس الثمين ولم يهتم بالأكل بل ذم ذلك، وكان يشدد على الاهتمام بالعلم، وأمر بطلبه أين ما كان ومن أي شخص كان، وأمر بالتفكر والتدبر. روي عنه (صلى الله عليه وآله) إنه قال: (خمس لا أدعهن حتى الممات: الأكل على الحضيض مع العبيد، وركوبي الحمار مؤكفا، وحلبي العنز بيدي، ولبس الصوف، والتسليم على الصبيان لتكون سنة من بعدي)(15).
السيد معد البطاط – أستراليا
نشرت في العدد 71