Take a fresh look at your lifestyle.

تداخل الأساليب في دعاء عرفة للإمام الحسين (عليه السلام)

0 925

من المعلوم أنّ الدعاءَ وعاءُ المشاعر الصادقة، ومحلُّ الكلم الطيِّب والأنفاس المعطرة بعطر الألفاظ الربانية. ومن المعلوم أنّ الداعي منسجمٌ مع ذاته، متوافقٌ مع طاقاته الشعورية التي يبثُّها في أثناء الدعاء، وهذه المشاعر وهذه الطاقات المُعبَّر عنها بما يصدر من كلام، يُسمّى بالدعاء، لا بُدّ أن تكون لها مزايا مستقلّة وطرائق في التعبير مميزة، ويمكن أن نجمل عامتها، بأنّ الدعاء يتخذ من أساليب كلاميةٍ نشطةٍ بين نصوصِه، وسيلةً للوصول إلى غايات الداعي المتنوعة، إذ إن الداعي – بلا شك – به حاجة إلى إقبال المدعو عليه، فهو الطلب الرئيس له والغاية المقصودة من وراء دعائه، لذا نرى أسلوب النداء يشغل حيزاً مهماً في الدعاء، ثم إن الداعي يخاطب قوة عظمى غائبة عن مداركه الحسية، في محاولة منه للتواصل معها بإقامة حوار مباشر بين العبد وربه، لذا هو محتاج إلى الاستفهام الحقيقي ليُظهرَ عجزه عن إدراك ما يجهله، ولكي يقرر ذلك العجز أيضاً قد يلجأ إلى الاستفهام المجازي أحياناً . ثم هو في سعيه لتحقيق غايته في استجابة دعائه قد يستعمل صوراً من أسلوب الشرط متنوعة يضمن بها إنجاز ما طلبَ.
إنّ ما ذُكر آنفاً يمثل مزايا عامة لأساليب الدعاء، ويبقى للاستقصاء والتفصيل موارد شتًى تُلحظ بالدراسات المتخصصة بفنون الدعاء، غير أننا نلحظ مزيّة أخرى في دعاء عرفة للإمام الحسين (عليه السلام)، ذلك أن الدعاء تتداخل فيه الأساليب الكلامية بكثرة كاثرة، وأن هذا التداخل يتكرر مرات متعددة، ومعه يمكن أن تبرز سمة أسلوبية جليّة تستحق أن يُنبَّه عليها وعلى الدلالات المترتبة على ذلك التداخل .
إن دعاء عرفة من أشهر الأدعية المروية عن آل البيت (عليهم السلام)، وإن أول من ذكره هو السيد ابن طاووس، وأهمية الدعاء تكمن في أنه دعاء وارد على لسانٍ مباشرٍ للإمام المعصوم، وهو بعدُ موسوعةٌ استدلالية لإثبات كليّات مسائل العقيدة الإسلامية، فمن قرأه بإنعامِ نظرٍ يجد استدلالات الإمام استدلالات معمّقة لإثبات أصول الدين، من : توحيد، وعدل، ونبوة، وإمامة، ومعاد، فضلاً عن الاستدلال على الغاية الأصلية لكل دعاء، وهي وجوب شكر نعمة الباري ( عزّ وجلّ).
وبعد هذه المقدمة الموجزة حريّ بنا أن نعرض لنماذج من نصوص الدعاء تداخلت فيها الأساليب، وتنوعت، وتكاملت، لإنتاج دلالة مقصودة من مجموع تلك الأساليب، ويمكن أن ندرسها على النحو الآتي :
أولاً: تداخل أسلوبَيّ الاستفهام والنداء
المعروف أن الاستفهام طلب الإخبار والفهم، وأن النداء طلب إقبال المدعو والذي يتبادر إلى الذهن أن يطلب الداعي إقبال المدعو عليه ثم يستفهم منه عن حاجته. لكن الوارد في الدعاء، المكرر في نصوصه، ورود الاستفهام متداخلاً مع النداء، ومن ذلك قوله (عليه السلام) : (فأيُّ نِعَمِكَ يا إلهي أُحصي عَدَداً وذِكراً، أم أيُّ عطاياكَ أقومُ بها شُكراً)(1).
إن المتأمل في النص الكريم يجد أن الاستفهام فيه لم يكن لغرض طلب الإجابة، فالإمام (عليه السلام) لا ينتظر الجواب لأنه عارف به، إنما كان الغرض من الاستفهام أمرين، أولهما: نفي القدرة عن إحصاء النعم الإلهية، وعليه يكون الاستفهام هنا خرج مجازاً إلى النفي. والآخر: الإشارة إلى كثرة هذه النعم وترادفها بحيث لا يستطيع العبد إحصاءها، فيستلزم ذلك منه استلزاماً واجباً أن يُفرغ طاقته في الدعاء لشكرها، ويعضد ذلك ما قيل في أن الاستفهام يستلزم فراغاً زمنياً بين السؤال والجواب، وقد وظّفه الإمام هنا ليمنح فسحة لمتلقي الدعاء أن يتأملوا فيه ويتدبروا ويتذكروا، فيتراكم عندهم الشعور بوجوب شكر النعمة.
إذن: هذا الاستفهام وجّهه الإمام (عليه السلام) وهو عالمٌ بالإجابة، ثم أتبعه بالنداء (يا إلهي)، وبنية الدعاء هذه المكونة من (حرف نداء مظهر والمنادى المُعَظَّم – إلهي – المشتمل على الإضافة التشريفية إلى ذاته المقدسة بياء المتكلم) فيه الدلالة على إرادة إظهار عظمة المنادى وجلاله، فقد وقف الطالب عند هذا الموقف معترفاً بالعجز عن شكر النعم، ذلك أنه لا يستطيع أن يعدّها ويحصيها، فكيف يؤدي حقّ شكرها، فكان الطلب الآخر أن يلتفت إليه المنعم سبحانه بعين الرحمة فيسجل اعترافه بالعجز ويجازيه على ذلك الاعتراف، فمن الثابت أن إظهار العجز في ساحة الرحمة من أشدّ النعم المستوجبة لثناء الباري ( جلّ جلاله) وعطائه الجزيل.
ثم نجد تكرار هذا التداخل مرة أخرى في النص بالنمط نفسه، إذ يكمل الإمام قوله: (أم أيُّ عطاياكَ أقومُ بها شُكراً)
فيُسوِّي بين العبارتين تحقيقاً لوحدة السياق.
ثانياً: تداخل أسلوبي الشرط والنداء
بنية الشرط تستلزم فعل شرط وجوابه، وهما مبنيان على قاعدة الاقتضاء، وهو إما أن يكون اقتضاء وجوبياً كما في السبب والنتيجة المترتبة عليه، أو اقتضاء استلزامياً قد لا يستدعي الوجوب . وقد تداخل هذا الأسلوب في نصوص دعاء عرفة بأسلوبي النداء والاستفهام في مواضع منه ليحقق قيمة دلالية ناتجة من اختلاط تلك الأساليب، ومن أمثلة تداخل أسلوبي الشرط والنداء قول الإمام (عليه السلام): (فإنْ تُعذبْنِي يا إلهي فَبِذُنوبي بعدَ حُجّتِكَ عَلَيَّ وإنْ تَعْفُ عنِّي فَبِحِلْمِكَ وجُودِكَ وكرمِكَ)(3)
نلحظ في الدعاء أن أسلوب الشرط ورد على نمطه الأصلي( أي: أداة الشرط والشرط ثم جوابه)، ليؤذن باقتضاء الشرط للجواب، إذا ما تحقق متعلّق الشرط، فعلى وفق الأحكام الجزائية يكون ارتكاب الذنب بعد إقامة الحجة على وجوب تركه مقتضياً للعذاب، غير أنا نلحظ أن كلام الإمام وارد في معرض الرجاء وطلب العفو من الحليم الجواد، وهو مطلب أقرب إلى التحقق من استحقاق العذاب، يشهد لذلك أن جزءاً من جواب الشرط قد حُذف، إذ التقدير (فإن تعذبني فبذنوبي تعذبني) فحذف ( تعذبني) من الجزاء تخفيفاً على النفس وتهويناً لها، إذ هي إلى نيل العفو أرجى.
ثم يتداخل أسلوب الشرط مع أسلوب النداء (يا إلهي) المشعر بعظمة المخاطب، فهو الإله الذي بيده مقادير كل شيء ومنها العذاب والعفو، وفي الإضافة إلى ياء المتكلم ما يُنبئ بمقام استشعار اللطف الإلهي والرحمة المقتدرة، ممّا يطمئن معه العبد إلى تحقّق مطلبه، يسند ذلك قوله (عليه السلام):
(وإنْ تَعْفُ عنِّي فَبِحِلْمِكَ وجُودِكَ وكرمِكَ)، فتكرار صفات الجمال (حلمك وجودك وكرمك) ممّا يستعطف به لإنجاز الطلب.
ثالثاً: تداخل أساليب الشرط والنداء والاستفهام
نجد في نصوص دعاء عرفة أيضاً تداخل أكثر من أسلوب في النص الواحد ومن أمثلة ذلك ما ورد في قول الإمام (عليه السلام): (وما عسى الجحودُ ولو جَحَدْتُ يا مولايَ يَنفعُني كيف وأنّى ذلك وجوارحي كلُّها شاهدةٌ عَلَيّ بِما قَدْ عَمِلْتُ)(2).
يستعمل الإمام في هذا النص بنية الشرط (بأداة الشرط لو الممتنعة جواباً لامتناع تحقق الشرط)، ونلحظ أن أركان الشرط في هذا الاستعمال مُحوّلةٌ عن نمطها الأصلي، منفتحةٌ على بنيات تركيبية أخرى تسمح للكلام بفسحة في الدلالات التي يستقيها المتلقي من الجمل الكبرى المؤتلفة في هذا النص، إذ إن المعنى المتحقق من أسلوب الشرط (أنّ الجحود لا ينفعني ولو جحدتُ)، ولكنا نرى تلك الملكة المتمكنة والذائقة المتفردة التي يتمتع بها أئمة الكلام (عليهم السلام) في ترتيب الألفاظ ضمن بنياتها الأسلوبية لتؤدي معانيها المطلوبة على أكمل صورة، فقد قطع الإمام من أول الكلام الطريقَ على الجاحد وخيّب رجاءه وسلبَ انتفاعه من الجحود .
ثم نلحظ تداخل هذا الأسلوب تداخلاً تركيبياً اعتراضياً مع أسلوب النداء (يا مولاي) الذي يُنبئ بالشرط والجزاء بين العبد والمولى، ثم يتداخل كل ذلك مع تكرار أداتي الاستفهام (كيف، وأنّى) رغبةً في تكثيف الاستفهام الخارج مجازاً إلى النفي وشدة إنكار الفعل والتعجب من الجحود، فقد أفادت (كيف) نكران الجحود على أية حال، وأفادت (أنّى) نكرانه في أيّ زمان ومكان، ومعه يثبت أنْ لا ملجأَ للجاحد إلا الإقرار بما جحدَه، لأن الإنكار لا ينفعه البتّة.

 

نشرت في العدد 71


1) مفاتيح الجنان: الشيخ عباس القمي ص 329.
2) المصدر نفسه 335.
3) المصدر نفسه 335.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.