تساهم التربية مساهمةً فعّالةً في تخطيط، وتشكيل، وصنع شخصية الفرد، وتحديد صيغتها، فشخصيّة الفرد – في غالب الأحيان – هي نتاج صنع المربّي وصورة جهوده..
فالاستعدادات والقابليات الإنسانية تولد وهي طاقة حرّة غير متكيّفة، ولا متشكلة، فتتناولها يد المربّي، أباً كان أو أُماً أو معلّماً، فتتصرّف بها وتعمل على تشكيلها، وتخطيط بنيتها، وفق قيم وأهداف تربوية فكرية محدّدة، لذلك نشاهد الدول والأحزاب والمنظمات تحرص على توجيه وتربية الأفراد والجماعات تربية خاصّة ووفق منهج خاص.
ولقد جاءت رسالات الأنبياء ومناهج الرسل (عليهم السلام) كلّها لبناء الفكر التربوي، ورسم منهاج الإعداد وتربية الذات لشخصية الإنسان.
إذ ما علمنا إن التربية هي (النشاط الفردي والاجتماعي الهادف إلى تنشئة الإنسان فكرياً وعقلياً ووجدانياً وحسياً وجمالياً وخلقياً، وتزويده بالمعارف والاتجاهات والقيم والخبرات اللازمة لنموه نمواً سليماً طبقاً لأهداف الإسلام)(1).
ونصوص القرآن الكريم حافلة بهذا النهج البنائي للإنسان، وهو ما سوف نلحظه من دور مميز في تكوين الشخصية المتزنة – وخصوصاً أثر الأسرة القرآنية في بناء الإنسان وفي شخصية الإمام الحسين (عليه السلام) وفكره الرسالي(2) – وهو محل البحث، ومن ذلك نلحظ أن العناية القرآنية في بناء الإنسان تبدأ منذ مرحلة الطفولة داخل الأسرة، فهي المرحلة التي فيها تشكيل الذات والشخصية(3).
لذلك جاء تأكيد القرآن المجيد صريحاً للعناية بتربية النفس والأهل والأبناء، بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)(التحريم:6)، وذلك أن المؤمن مكلف هداية أهله، وإصلاح بيته، كما هو مكلف هداية نفسه وإصلاح قلبه، إذ إن البيت الواحد قلعة من قلاع العقيدة، ولابد أن تكون القلعة متماسكة من داخلها حصينة في ذاتها، والآية المباركة تربي الإنسان المؤمن على أن يتجه بالدعوة أول ما يتجه إلى بيته وأهله، واجبه أن يؤمّن هذه القلعة من داخلها، واجبه أن يسد الثغرات فيها قبل أن يذهب عنها بدعوته بعيداً.
وتترجم السنة النبوّية هذا المحتوى القرآني، وتؤكد أنّ التربية الصالحة حق للولد على الوالد، فقد رُوي عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام) قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله مَا حَقُّ ابْنِي هَذَا؟! قَالَ (صلى الله عليه وآله): تُحْسِنُ اسْمَه وأَدَبَه، وضَعْه مَوْضِعاً حَسَناً)(4).
ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوصي بحبّ الصبيان وتقبيلهم ومداعبتهم، وكان هو نفسه يقبل ابنته فاطمة (عليها السلام)، وابنيها الحسن والحسين (عليهما السلام)، ويداعبهما ليملأ نفس الصبي بالحب والحنان، ويبعد عنها عقدة الكراهية والقسوة والنفور، فيشب الصبي سليم النفس، سوي السلوك، نظيف القلب.
فشخصية الإنسان تبدأ بالتشكُّل من خلال التأثر بالواقع الأسري، والجو الفكري والتربوي الذي يحيط به، والإمام الحسين (عليه السلام) عاش في كنف مُعلم الإنسانية الأول الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، وقد أولاه عنايته الخاصة ورعايته منذ صغره، فكان أن نهج الإمام (عليه السلام) في فكره وسلوكه نهج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلوكه القرآني.
وذلك أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) يؤكد في حديث آخر أهمية التربية ودورها في البناء الفكري وفي تكييف الملكات والاستعدادات الفطرية، وأثرها في بناء الشخصية بقوله: (كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه، يُهوّدانه، أو ينّصرانه، أو يُمجِّسانه)(5).
ولأهمية هذه النشأة وأثرها في نفس الطفل داخل الأسرة، ما نلحظه في وصية الإمام علي (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام)،
فنشاهده واضحاً ومتجسداً وهو يخاطب ابنه بقوله: (…وإِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالأَرْضِ الْخَالِيَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ قَبِلَتْه فَبَادَرْتُكَ بِالأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُوَ قَلْبُكَ ويَشْتَغِلَ لُبُّكَ)(6).
فنفس الطفل وعقله واستعداداته إذن قابلة للنمو والتوجيه الذي تتلقاه، خيراً كان أو شراً، كما تتقبل الأرض البذرة، فتنمو في رحابها، بغض النظر عن خبثها أو طيبتها، ومن المعلوم بداهة دور القرآن المجيد في بناء فكر الإنسان، ومن ذلك الإمام الحسين (عليه السلام) إذ كانت التربية الأسرية القرآنية ذات أهمية بالغة في بناء الشخصية الإنسانية، وتكوين اتجاهها.
كما ونلحظ أثر القرآن المجيد على المجتمع من خلال ذلك البناء، القيمي الذي يُوقِظ في الإنسان الفرد الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين، وذلك من خلال تأكيد القرآن الكريم على مسؤولية الإنسان تجاه نفسه وغيره، قال تعالى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) (الصافات: 24)، فالإنسان مسؤول عمّا كان تحت تصرفه وكان قادراً على إحداث تغيير فيه ونفع فـ( في ذلك اليوم يتمّ السؤال عن كل شيء، عن العقائد وعن التوحيد والولاية، وعن الحديث والعمل، وعن النعم والمواهب التي وضعها الله سبحانه وتعالى في اختيار الإنسان)(7)، وكيف كان موقفه اتجاهها ومن ذلك موقف الإنسان اتجاه الآخرين وهدايتهم إلى سواء السبيل.
ومن ذلك ما نلحظه في السنة الشريفة، قول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): (ألا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ..)(8)، ويقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام): (اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم)(9).
والإمام الحسين (عليه السلام) وهو ابن الدوحة المحمدية والنشأة القرآنية، كان واضحاً فيه الأثر القرآني وهو عِدْل القرآن، فكان في خروجه على النظام الحاكم، جزءاً من مسؤوليته في الإصلاح، الإصلاح الذي يجعل الله تعالى مصدراً للسلطة الوحيدة في جهاز ذلك الحكم، ويعتبر الشعوب عياله وشعبه ويقيم الإمام أميناً على تنفيذ قوانينه، وحارساً لأحكامه ومسؤولاً بين يديه، يوزع على ضوء تلك القوانين حقوق الحياة السواء بين إخوان في الدين والإنسانية، وقد أعطى سيد الشهداء (عليه السلام) صورة رائعة عن ذلك في قوله: (فَلَعَمْري مَا الإْمامُ إِلاَّ الْعامِلُ بِالْكِتابِ، وَالآْخِذُ بِالْقِسْطِ، وَالدّائِنُ بِالْحَقِّ، وَالْحابِسُ نَفْسَهُ عَلى ذاتِ اللهِ)(10).
وكنظرة مقارنة، نجد أن المذاهب الاجتماعية الوضعية، بُنيت على أساس المسؤولية الفردية في هذه الحياة فحسب، وتأييدها بمؤيدات قانونية كحجز الحرية، أو التعذيب، أو التغريم المالي أو العزل عن الوظيفة، أو التسريح عن العمل، أو المكافأة بالمال أو الترقية في الوظيفة.. وما إلى ذلك، وبمؤيدات اجتماعية كالثقة أو حجبها والتقدير أو التحقير.
أما المذهب القرآني، فلا يقتصر على مسؤولية الفرد أمام المجتمع الذي يعيش بين ظهرانيه في هذه الحياة، وإنما يُنمّي في الفرد المسؤولية العظمى أمام الخالق العظيم في حياة أخرى، وحينئذ يدفعه إلى التحديد الذاتي أو الطوعي لرغباته، والشعور الاجتماعي نحو غيره، بغض النظر عن القانون أو العرف أو الضمير، لأن الضمير قد يعجز عن مواجهة الغرائز عند فقدان العقيدة الدينية، كما أنه ليس من الميسور توفير الرقابة الاجتماعية في كلّ مكان، وبصورة دائمة، وعليه فإنّ هذه الرقابة الداخلية لا توجد في غير العقيدة الدينية.
كما أن الدعوة لدين الله ليست حرفة ولا مهنة، وإنما يقوم بها من يرى نفسه أهلاً لها لوجه الله وحده.. ولمصلحة الإنسانية دون غيرها.
وكذلك كانت آثار العقيدة الدينية في فكر الإمام الحسين (عليه السلام)، يقول المفكر عباس محمود العقاد: (إن مسألة العقيدة الدينية في نفس الحسين (عليه السلام) لم تكن مسألة مزاج أو مساومة، وأنّه كان رجلاً يؤمن أقوى الإيمان بأحكام الإسلام ويعتقد أشدّ الاعتقاد أنّ تعطيل حدود الدين هو أكبر بلاء يحيق به وبأهله وبالأمة العربية قاطبة في حاضرها ومصيرها، لأنه مسلم، ولأنه سبط محمد (صلى الله عليه وآله).. فمن كان إسلامه هداية نفس فالإسلام عند الحسين(عليه السلام) هداية نفس وشرف بيت)(11).
وقد تجلى مفهوم الرقابة الذاتية في فكر الإمام الحسين (عليه السلام) واضحاً في دعائه المعروف في يوم عرفة، إذ قال: (مَتى غبْتَ حَتَّى تَحْتاجَ إِلى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ وَمَتى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الآثارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ؟ عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْها رَقِيباً)(12)،
وواضح أن هذه الرقابة لا يمكن أن تتحقق في غير الأثر القرآني، وليس من شأن القيم والمفاهيم المجردة الميتة التي يؤمن بها الإنسان أن تعي تصرفات الناس، وتراقب حركاتهم وتصرفاتهم، وتحاسبهم على ذلك.
إذًا تعمل القيم القرآنية على بناء حياة الإنسان من خلال تقديم الخير وبذل التضحية، ومقاومة الانحراف لأنها ربانية المصدر، والإيمان بها يستلزم العمل بها لأنها ضوابط وحوافز بين الإنسان وربه، وبين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان والإنسان، ولا شك أن القيم المستمدة من الأديان السماوية تعتبر السبيل إلى توجيه الإنسان إلى الخير العام.
والقيم القرآنية تسمو بالفرد وترفعه فوق الماديات الحسية من مستوى الحيوانية إلى مستوى الإنسانية الرفيعة بكل ما فيها من مثل ومبادئ ومعايير ومشاركة وجدانية، وهي في الوقت نفسه تعتبر عاملاً هاماً وفعالاً في ربط أفراد المجتمع بعضهم ببعض، وتوحيد وجهتهم، ومساعدتهم على تحديد هدفهم، والسعي الجاد للوصول إليه، هذه حقيقة واضحة إذا أمعنا النظر في حكمة هذه القيم والمعاني الكبيرة التي تحملها، وهي واضحة في كثير من النصوص القرآنية ولا يمكن تحقيق السعادة من دون اتخاذ هذه القيم طريقة ومنهجاً في الحياة الفردية والاجتماعية معاً(13).
إذًا فالتربية الإسلامية وبنظرة موضوعية في مناهجها وموضوعاتها الإلهية والبشرية (تحقق جانبي القيمة الظاهرية، والباطنية، فهي تعنى بسلوك الفرد مع نفسه ومع الناس، وتحثه على أداء العبادات، وعلى طهارة القلب والنفس والجوارح وتمنحه الوازع الذي يدفعه إلى التضحية والفداء والصبر، وتقترب به في مثاليتها إلى جوانب الحق والخير والجمال، وتصل به في بعض مواقفها إلى سمو يرفعه فوق ترابيته، ويدنيه من عالم الروح، فهي إذن تربية تنشد الوصول إلى الخلق الكامل عند الفرد المسلم وتساعده بهذا البناء الخلقي على الاهتمام بالجسم والعقل والعمل)(14).
والتربية الإسلامية نمط خاص من التربية يتعهد المسلم بتغذيته روحياً وتنمي العواطف الإنسانية، والمشاعر الخلقية فيه(15).
وإذا أردنا أن نوضح بالأمثلة حقيقة كون القيم القرآنية ذات أثر تربوي وتمثل المعاقد التي تعقد بها الروابط الاجتماعية والفردية لتواردت علينا أمثلة كثيرة جداً.
إن قيم الصلاة من أهم أهداف حركة الإمام الحسين (عليه السلام) ونهضته، إذ لم يكن مؤدياً لها فحسب، بل مقيماً لها، وفي أضنك الظروف، وسوف نتخذ مثالاً يدل على أهمية فريضة الصلاة في حياته (عليه السلام)،
ففي أرض كربلاء وفي ضراوة المعركة نلحظ أداء الصلاة وقيامها، (فلا يزال الرجل من أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام)
قد قتل فإذا قتل منهم الرجل والرجلان تبين فيهم، وأولئك كثير لا يتبين فيهم ما يقتل منهم، قال فلما رأى ذلك أبو ثمامة عمرو بن عبد الله الصائدي قال للإمام الحسين (عليه السلام):
يا أبا عبد الله نفسي لك الفداء، إني أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا والله لا تقتل حتى أقتل دونك إن شاء الله، وأحب أن ألقى ربي وقد صليت هذه الصلاة التي قد دنا وقتها، قال: فرفع الإمام الحسين (عليه السلام)
رأسه ثم قال: ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين الذاكرين، نعم هذا أول وقتها، ثم قال: سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي، فقال لهم الحصين بن تميم إنها لا تقبل. فقال له حبيب بن مظاهر: زعمت الصلاة من آل محمد (صلى الله عليه وآله) لا تقبل وتقبل منك يا حمار..)(16).
هذا مثلٌ من أمثلة القيم القرآنية وبيان أثرها على الشخصية الإنسانية، وقد علمنا سلفاً معنى التربية، واتضح إنها مجموعة المؤثرات المعينة، التي تمتد إلى إحداث تغييرات لدى الأفراد، حتى يكتسبوا سمات الشخصية التي نتفق على اعتبار أنها قد تزودت بالخصائص التربوية.
إذ لا يكتمل إسلام المرء إلا بامتزاج التشريعات بالأخلاق، كامتزاج الروح بالجسد، فلا يُكتفى بالعقيدة والعبادة وتهجر التربية والأخلاق، وقد جمع الله عز وجل كل ذلك في قوله تعالى: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون) (البقرة: 112)>
نشرت في العدد 72