للمحيط الذي يعيش به الإنسان أثر كبير في تكوين شخصيته وتوجيه سلوكه(1) ابتداءً من صياغة أفكاره المكتسبة وتعليمه، فالأسرة والمدرسة والشارع ووسائل الإعلام والمناهج التدريسية المتبعة في المدارس والجامعات تؤثر في ذلك، وخصوصاً الحاضن الأول وهو الأسرة والأم. فعبر مراحل النمو والتكامل يشتد الطفل ليصبح إنساناً بعد مروره في أنماط معينة من التوجيه، لكي يتم إعداده وتنشئته للمستقبل، وهذا هو معنى التربية.
وعند أهل البيت (عليهم السلام) يوجد النموذج الأكمل لتربية الفرد الإنساني، ولو لاحظنا الأبعاد الاجتماعية والحياتية لهم صلوات الله عليهم، لاستفدنا من ذلك في بيان بعض المفاهيم الأخلاقية والتربوية وتوجيه السلوك لبناء الفرد والأسرة المتماسكة والمجتمع الصالح. فعلى مستوى تعليم الفرد، علينا تربية وتقويم أبنائنا بالصفات التي تحلى بها نبي الرحمة محمد (صلى الله عليه وآله) وغرسها في أهل بيته، ودعا بها الناس برسالته السمحاء والتي تجلت بالإسلام، الدين القيم، دين الأخلاق، دين المعاملة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والابتعاد عن المعاصي، والالتزام بالصدق، وحفظ الأمانة، والإيثار، وبر الوالدين، واحترام الجار، والابتعاد عن كبائر الذنوب، وصلة الرحم، وطلب العلم، والتعلم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهذه الأمور وغيرها هي التي تنشئ الفرد بصورة متوازنة،
أي ابتداءً من معرفة الشريعة والأخذ بها لتقوية الجانب الروحي، إضافة إلى تقوية الجانب البدني من الإنسان الذي اعتاد الناس التركيز عليه، لأن فقدان الجانب النفسي والروحي أو نقصانه أو الخلل به له أثر في ظهور الأمراض النفسية والبدنية، والتي منها العلل والاضطراب النفسي وغير ذلك.
ولو سلطنا الضوء على علاقة الأسرة بالفرد، من خلال مشاعر الانسجام وعدم الكراهية، التي لها الخطر على تمزيق الأسرة وتشتيت الأفراد ونمو معدلات الجريمة والانحراف، بسبب نقصان التوجيه واضطراب السلوك.
والفرد يتأثر بالجو الأسري بحكم علاقته بأبويه أو أجداده وما يضفيه هؤلاء المحيطون من مشاعر، فمثلاً علاقة سيدة نساء العالمين الزهراء (عليها السلام) بابنها الحسين (عليه السلام) على سبيل المثال لا الحصر، لقد عنيت سيدة النساء بتهيئة ولدها الحسين (عليه السلام)فغمرته بالحنان والعطف لتكون له شخصية مستقلة، وليشعر بذاتياته، وأدبته بآداب الإسلام، وعوّدته الاستقامة والاتجاه نحو الخير،
يقول العلائلي في كتاب الإمام الحسين (عليه السلام)(2): والذي انتهى إلينا من مجموعة أخبار الحسين (عليه السلام) إن أُمَّه عنيت ببث المثل الإسلامية الاعتقادية لتشيع في نفسه فكرة الفضيلة على أتم معانيها وأصح أوضاعها، ولا بدع فإن النبي (صلى الله عليه وآله) أشرف على توجيهه أيضاً في هذا الدور الذي يشعر الطفل فيه بالاستقلال، فالسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أنمت في نفسه فكرة الخير والحب والمطلق والواجب ومدّت في جوانحه وخوالجه أفكار الفضائل العليا، بأن وجهت المبادئ الأدبية في طبيعته الوليدة من أن تكون نقطة دائرتها ترتكز إلى الله تعالى.
ورسمت له والدته دائرة غير متناهية حيث جعلت فكرة الله نقطة الارتكاز ثم أدارت المبادئ الأدبية والفضائل عليها، فاتسعت نفسه لتشمل وتستغرق العالم بعواطفها المهذبة وتأخذه بالمثل الأعلى والخير والجمال. لقد نشأ الإمام الحسين (عليه السلام) في جو تلك البيئة الإسلامية الواعية التي فجرت النور وصنعت حضارة الإنسان وقادت شعوب الأرض، قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(الأحزاب:33).
ولو نظرنا أيضاً إلى وصية أمير المؤمنين علي(عليه السلام) إلى ولده الحسن(عليه السلام) التي كتبها إليه عند انصرافه من صفين، وهي وصية (جامعة لمكارم الأخلاق مشتملة على بليغ المواعظ والأمثال تضع الفرد المسلم على الطريق الصحيح وتهديه إلى الصراط المستقيم وهي الكفيلة لمن أخذ بها ونهج على منوالها أن يحظى بسعادة الدارين والفوز الحقيقي ويعيش حالة الاطمئنان النفسي وقوة القلب ورباطة الجأش، وهي خير دستور يقدمه الوالد إلى ولده، ليسير عليه ويباهي به الأمم، وما أحوج الإنسانية إلى مثل هذه الوصايا والإرشادات التي تضم بين ثناياها خير الدنيا والآخرة والسعادة الأبدية…
ولو نظرت المدنية المعاصرة إلى هذه الوصية الغراء للإمام (عليه السلام) لتعرفت على الإسلام الحقيقي لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في التربية والتهذيب والإصلاح الاجتماعي الذي أُسس من أوائل القرن الأول الهجري)(3).
وثمة مقطع لافت في وصية الإمام علي (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام): (وإِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالأَرْضِ الْخَالِيَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ قَبِلَتْه فَبَادَرْتُكَ بِالأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُوَ قَلْبُكَ ويَشْتَغِلَ لُبُّكَ)(4).
أما على مستوى الأسرة فهناك فرق بين الأسرة الملتزمة إسلاميًا ودينيًا وغيرها، فالنموذج الملتزم يهيئ الأجواء الملائمة لإنتاج الجيل الملتزم، وذلك من خلال العناصر التالية:
1. بث أجواء الإيمان والعقيدة في داخل الأسرة، فإن الآباء والأمهات يتحملون المسؤولية في حماية وتحصين أبنائهم وبناتهم إيمانياً وعقيدياً.
2. تغذية الطفل بالأخلاق الفاضلة.
3. الآداب الاجتماعية والحياتية والتي منها أدب التعامل مع الوالدين وأدب صلة الأرحام، وأدب معاشرة الناس، وعدم إيذاء وإهانة أحد، وخدمة الناس وقضاء حوائجهم وغير ذلك(5).
(فالأسرة إذن مكلفة بتربية الطفل وتهيئته جسماً ونفساً وخلقاً للقيام بوظائفه المختلفة في خدمة قومه ووطنه، وإن العناية بالأولاد وتربيتهم تلك التربية الصالحة من أكبر واجبات الأبوين التي فرضها الشرع ونظام الاجتماع عليهما، كما أن إهمالهم والتفريط في تربيتهم من أكبر الجنايات التي يمقتها الشارع…(6)، قال (صلى الله عليه وآله): (أكرموا أولادكم وأحسنوا آدابهم يغفر لكم)(7).
أما لو نظرنا إلى ملامح البناء الأخلاقي من خلال أدعية أهل البيت (عليهم السلام) والتي هي مدرسة متكاملة من المعرفة فإننا من خلال تلك المناجاة وجمل الأدعية نجد حالات من التوجه المعنوي بين العبد وخالقه والتي تضمنت كثيراً من الأساليب البيانية التي ترشد الداعي والسالك إلى الله تعالى إلى منهج تربوي وأخلاقي وروحي.
وإن تسليط الضوء على مضامين تلك الأدعية يعطينا دروساً في مجال توعية الفرد والمجتمع لبناء التوازن الأخلاقي، منها ما نراه في الصحيفة السجادية وهي مجموعة من الأدعية رواها الأصحاب عن الإمام زين العابدين (عليه السلام)، حيث ورد في بعض الأدعية أو مضامينها ما يخص الجانب الاجتماعي أو علاقة الفرد بالمجتمع وعلاقاته بذويه، أو ما يخص الجانب النفسي وسلوك الفرد في دينه ودنياه، فمنها وكما ورد في أدعية السجاد (عليه السلام) في مكارم الأخلاق أو دعائه لأبويه (عليه السلام) أو دعائه لولده (عليه السلام).
حيث وردت هنا الإشارة إلى بعض الصفات المطلوبة للإنسان وهو يعيش في دار الدنيا ويسلك طريق التكامل للوصول إلى الآخرة، وهذه الصفات منها:
1ـ التحلي بزينة الصالحين، أي: أهل الصلاح والإيمان والتقوى حتى يستطيع الإنسان من أداء الحقوق المسؤول عنها في نفسه والأسرة والمجتمع.
وبسط العدل في المجتمع كما في الأسرة.
وكظم الغيظ عما تكرهه النفس وإطفاء النائرة، وهي العداوة،
وضم أهل الفرقة، أي: إيجاد وحدة الكلمة بين الجميع ضمن الخطوط العامة المتفق عليها،
وإفشاء العارفة، أي: إشاعة العمل المعروف لما فيه خير العامة،
وستر العائبة، وهي العيوب،
ولين العريكة: التواضع وقلة الخلاف، والعريكة: هي الطبيعة،
وخفض الجناح، استعارة عن التواضع،
وحسن السيرة، وهي الطريقة التي يسير بها الإنسان،
وسكون الريح، وهو كناية عن الوقار، والريح كناية عن الخفة والحركة،
وطيب المخالقة، أي: المعاشرة،
والسبق إلى الفضيلة، أي : الدرجة العالية من الفضل،
وإيثار التفضل، فالإيثار هو الاختيار، والتفضيل والتفضل فعل ما لا يلزم من الإحسان، ويعبر عنه بالتطول، وترك التعيير، أي: نسبة الآخرين إلى (8) العار، إلى آخر ما ورد من بقية هذا المقطع من الدعاء.
وأنت لا يخفى عليك ما لأهمية هذه الصفات في حياة المجتمع المؤمن. ومنها قوله (عليه السلام) في نفس الدعاء:
والطريقة المثلى هي الأفضل وهي طريق الأنبياء إلى الله تعالى والالتزام بالشريعة والملة، لأن الالتزام بهذه الشريعة والأعمال العبادية في هذه الدنيا تظهر نتائجه في الآخرة وهو ما يحدد مصير الإنسان وغايات أعماله هناك وهذا ما ينعكس على الجانب الأخلاقي وهذا يعني تجسد الإسلام في حياة الإنسان كذلك لأنه يؤدي رسالة، وبسلوكه يطبق الإسلام عملياً في حياته حتى مماته(9).
أما في دعائه (عليه السلام) لأبويه (عليهما السلام) في الصحيفة السجادية فيقول (عليه السلام):
حيث ختم الدعاء بما هو أمل كل من الأولاد والآباء والأمهات، وهو وحدة العائلة وجمع أفرادها في مصير واحد يشتركون فيه، وكل منهم يتقاسم ما له وما عليه لحفظ هذه الوحدة في المسير العائلي ومصيره، فإذا كان الوالدان مغفوراً لهما فهما يشفعان للأولاد وإن كان الولد مغفوراً له فهو الشفيع لهما، تجتمع العائلة في الآخرة التي هي محل دار الكرامة ومحل المغفرة والرحمة والشفاعة، كما اجتمعت العائلة في دار الدنيا التي هي دار الامتحان ومحل العمل، ومن ختم هذا الدعاء بهذه الكيفية يشير إلى أن تلاحم الرابطة في العائلة الدم والرحم مما يؤثر في مسير الإنسان ومصيره، ولا يمكنه أن ينقطع عنهما مهما كانت الظروف والأسباب، حيث أن رابطة الدم تفوق أية رابطة أخرى، وتستمر جارية في عروق الأجيال المتعاقبة(10).
أما في دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) لوِلْدِهِ، فيقول (عليه السلام): (وأَعِنِّي عَلَى تَرْبِيَتِهِمْ وتَأْدِيبِهِمْ، وبِرِّهِمْ …)
وهنا تذكير بثلاثة أمور:
1ـ التربية والتي تكون من الولادة إلى السابعة من العمر لإعداد الأولاد الأصحاء في الجسم.
2ـ التأديب من الثامنة حتى الرابعة عشرة من العمر بالتعليم بالنظام الابتدائي.
3ـ والبر من الخامسة عشرة إلى سن الحادية والعشرين من العمر، بتدريبهم على السلوك الصحيح. فإن الإنسان البالغ من العمر (21 سنة) ينبغي أن يكون عضواً صالحاً ومستقلاً في المجتمع(11).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1. أصول علم النفس: د. أحمد عزت راجع، دار المعارف/1985. 2. الإمام الحسين (عليه السلام) ص289. وانظر حياة الإمام الحسين (عليه السلام) للحجة القرشي ج1 ص54. 3. الوصية الذهبية ص10ـ 11 مجيد الصائغ. 4ـ نهج البلاغة/تحقيق صبحي الصالح/ص393. 5ـالجواهر الروحية ص378 السيد حسن القبانجي. 6ـ انظر: كيف نربي أبناءنا السيد عبدالله الغريفي ص22. 7ـ وسائل الشيعة/ج21ص476. 8ـ شرح الصحيفة السجادية السيد محمد حسين الجلالي (ج1 ص370). 9ـ انظر شرح الصحيفة السجادية ج1 ص383. 10ـ شرح الصحيفة السجادية ج1 ص461. 11ـ انظر شرح الصحيفة السجادية ج1 ص469.