Take a fresh look at your lifestyle.

لمحة من سيرة الإمام الباقر(عليه السلام) العلمية

0 722

  حينما نستعرض سيرة الإمام الباقر(عليه السلام)
لابدّ لنا من وقفات على بعض المصاديق العملية لمعالم شخصيته الفذّة، التي ملأت فم الدنيا بسموها الشاهق،
وأبهرت الخلائق بإشراقة نورها الساطع،
حتى لم يعد خافياً فضله وجلالة قدره، وسمو منزلته، وتربعه على قمة العلم بكلّ ما حوى من حقول المعرفة، فحفظ لنا التاريخ بعضاً من إشعاعات تلك السيرة الوضاءة المعطاء، رغم محاولات بعض الحاقدين طمس الحقائق وصرف أنظار الناس عن فضائل أهل البيت (عليهم السلام) ومناقبهم، حتى إنَّ الأعداء والمخالفين – وما أكثرهم – اعترفوا صاغرين بمكانة الإمام وشرفه السامق، وإنّ الناس مهما بلغت بهم ذروة العلياء هم دون الإمام الباقر (عليه السلام) بمراتب وعيال عليه.
فذاك محمد بن المنكدر أو(المكندر)أحد أقطاب التصوف، الذي آثر العزلة عن الحياة الدنيا، وسلك اتجاهاً اتكالياً في أموره المعاشية على سواه من الناس متذرّعاً بالانصراف للعبادة فحسب، الأمر الذي لا يقره الإسلام الحنيف(1). كان يقول: ما كنت أرى أنّ مثل علي بن الحسين يدع خلفاً – لفضل علي بن الحسين – حتى رأيت ابنه محمد بن علي فأردت أن أعظه فوعظني(2).
فقال له أصحابه: بأي شيء وعظك؟
قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارّة، فلقيت محمد بن علي (عليه السلام)، وكان رجلاً بديناً وهو متكئ على غلامين له أسودين أو موليين له، فقلت في نفسي، شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا! أشهد لأعظنّه، فدنوت منه فسلمت عليه، فسلم عليّ ببُهر وقد تصبّب عرقاً.
فقلت: أصلحك الله، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على مثل هذه الحال في طلب الدنيا! لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال!
قال: فخلّى عن الغلامين من يده، ثم تساند وقال: لو جاءني والله الموت وأنا في هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله، أكف بها نفسي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله.
فقلت: يرحمك الله، أردت أن أعظك فوعظتني (3).
وهذا عبد الله بن عمر بن الخطاب وهو شيخ كبير يُسأل عن مسألة، فيعجز عن الإجابة عنها – وكذلك كان أبوه من قبل – فيُرشد سائلها إلى الإمام الباقر (عليه السلام) وهو يومذاك صبي يافع يلازم أباه في مسجد جده رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فيأتي السائل إلى الباقر (عليه السلام)،
فيرى الإجابة حاضرة لديه، ثم يعود إلى ابن عمر. ليخبره بما جنى من ثمرات السؤال، فيعلق ابن عمر على ذلك بقوله: إنّهم أهل بيت مفهمون(4).
وأما قول عبد الله بن عطاء المكي: ما رأيت العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام)، ولقد رأيت الحكم بن عتيبة – مع جلالته في القوم – بين يديه كأنه صبيّ بين يدي معلمه (5).
كان الإمام الباقر (عليه السلام) في طفولته آية من آيات النبوغ والذكاء، وقد عرف الصحابة والتابعون ما يتمتع به الإمام (عليه السلام) منذ نعومة أظفاره من سعة الاطلاع والفضل وغزارة العلم، فكانوا يرجعون إليه في المسائل المستعصية التي لا يهتدون إليها، ولقد سُئل عن أدق المسائل فأجاب عنها ولم يك يتجاوز عمره الشريف تسع سنوات.
عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول: يا أيّها النّاس علمنا منطق الطير وأُوتينا من كلّ شيء، إنّ هذا لهو الفضل المبين(6).
إنّ جابر بن عبد الله الأنصاري على شيخوخته وكبر سنه – حيث قارب عمره المائة أو جاوزها – كان يأتيه فيجلس بين يديه فيعلّمه. وقد أُخِذَ جابر من سعة علوم الإمام ومعارفه وطفق يقول: يا باقر العلم لقد أوتيت الحكم صبياً(7).
وما إشارته على عبد الملك بن مروان الحاكم الأموي حينما حوصر اقتصادياً من قبل النصارى المتمثلة قوّتهم آنذاك بالإمبراطورية الرومانية البيزنطية، بأن يضرب النقد الإسلامي من الذهب والفضة، إلاّ واحدةً من حِدَّة ذكاء الإمام (عليه السلام) وفطنته.
وتتوارد الأسئلة تترى على الإمام (عليه السلام) من علماء عصره فيلقون الجواب حاضراً عنده دون أن يعمل في ذلك فكره.
فهذا نافع بن الأزرق زعيم الأزارقة الخوارج يسارع ويتسرّع في سؤال الباقر (عليه السلام)
عن الله عز وجل متى كان ؟ ظناً منه بأنه سيحرجه بالإجابة، والإمام يومذاك لم يكن قد أكمل العقد الأول من عمره. ويأتيه الجواب سريعاً مُسكتاً بأن: قل لي أيها السائل: متى لم يكن، حتى أُخبرك متى كان ؟!!
سبحان من لم يزل ولا يزال فرداً صمداً لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً(8).
ويروى أنّ عمرو بن عبيد، وهو من أئمة الاعتزال ومفكريهم، وفد على محمد بن علي الباقر (عليه السلام) لامتحانه بالسؤال أيضاً، فقال له:
جعلت فداك ما معنى قوله تعالى: (أوَلَم يَرَ الذينَ كَفَرُوا أنَّ السَّماوات والأرضَ كانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما)، ما هذا الرتق ؟ وما هذا الفتق ؟ قال أبو جعفر (عليه السلام): كانت السماء رتقاً لا تُنزِلُ المَطر، وكانت الأرض رتقاً لا تُخرِجُ النبات، ففتق الله السماء بالقطر، وفتق الأَرض بالنبات. فانقطع عمرو ولم يعترض بشيء.
وعاد إليه مرة أخرى، وقال: خبّرني جعلت فداك عن قوله تعالى:
(ومَن يَحلُلْ عَلَيهِ غَضَبي فقد هَوَى)، ما ذلك الغضب؟
قال (عليه السلام): العذاب يا عمرو، وإنما يغضب المخلوق الذي يأتيه الشيء فيستفزه، ويغيره عن الحال التي هو بها إلى غيرها. فمن زعم أنَّ الله يغيره الغضب والرضا ويزول عن هذا فقد وصفه بصفة المخلوق.
وعن أبي بصير قال: كان مولانا أبو جعفر محمد بن عليّ الباقر (عليه السلام) جالساً في الحرم وحوله عصابة من أوليائه، إذ أقبل طاووس اليماني في جماعة من أصحابه ثم قال لأبي جعفر (عليه السلام):أتأذن لي في السؤال؟
فقال (عليه السلام): أذنا لك فسل.
قال: أخبرني متى هلك ثلث الناس؟
قال (عليه السلام): وهمت يا شيخ، أردت أن تقول: (متى هلك ربع الناس)؟ وذلك يوم قتل قابيل هابيل، كانوا أربعة: آدم وحواء وقابيل وهابيل فهلك ربعهم.
فقال: أصبت ووهمت أنا، فأيهما كان أباً للناس القاتل أو المقتول؟
قال (عليه السلام): لا واحد منهما، بل أبوهم شيث بن آدم.
قال: فلم سمي آدم آدم؟
قال (عليه السلام): لأنه رفعت طينته من أديم الأرض السفلى.
قال: فلم سمي إبليس إبليس؟
قال (عليه السلام): لأنه أبلس من رحمة الله عزّ وجلّ فلا يرجوها.
قال: فأخبرني عن أول كذبة كُذبت، ومَنْ صاحبها ؟
قال (عليه السلام): إبليس حين قال: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَار وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين).
قال: فأخبرني عن قوم شهدوا شهادة الحق وكانوا كاذبين؟
قال (عليه السلام): المنافقون حين قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله): ( نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُوْلُ اللهِ ) فأنزل الله عزّ وجلّ: (إذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِيَن لَكَاْذِبُونَ).
قال: فأخبرني عن رسول بعثه الله تعالى ليس من الجن، ولا من الإنس، ولا من الملائكة، ذكره الله تعالى في كتابه.
قال (عليه السلام): الغراب، حين بعثه الله عز وجل لِيُري قابيل كيف يواري سوأة أخيه هابيل حين قتله. قال الله عزّ وجلّ: (فَبَعَثَ اللهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيْهِ). قال: فأخبرني عمن أنذر قومه ليس من الجن ولا من الإنس ولا من الملائكة، ذكره الله عز وجل في كتابه ؟
قال (عليه السلام): النملة حين قالت: (يَا أَيُّها النَمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَْ يَحْطِمَنَّكُم سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَْ يَشْعُرُونَ).
قال: فأخبرني عمن كُذِبَ عليه، ليس من الجن ولا من الإنس ولا من الملائكة، ذكره الله عز وجل في كتابه ؟
قال (عليه السلام): الذئب الذي كَذَب عليه إخوة يوسف.
قال: فأخبرني عن شيء قليله حلال وكثيره حرام، ذكره الله عز وجل في كتابه ؟
قال (عليه السلام): نهر طالوت، قال الله عز وجل: (إلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ).
قال:فأخبرني عن صلاة فريضة تصلى بغير وضوء، وعن صوم لا يحجز عن أكل ولا شرب؟
قال (عليه السلام): أما الصلاة بغير وضوء: فالصلاة على النبي وآله (صلى الله عليه وآله)، وأما الصوم: فقول الله عز وجل: (إِنِّي نِذَرْتُ لِلرّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إِنْسِيّاً).
قال: فأخبرني عن شيء يزيد وينقص، وعن شيء يزيد ولا ينقص، وعن شيء ينقص ولا يزيد؟
فقال الباقر (عليه السلام): أما الشيء الذي يزيد وينقص فهو: القمر، والشيء الذي يزيد ولا ينقص فهو: البحر، والشيء الذي ينقص ولا يزيد هو: العمر(9).
وقال أبو يوسف الأنصاري: قلت لأبي حنيفة: لقيتَ محمد بن علي الباقر (عليه السلام) ؟
فقال: نعم، وسألته يوماً فقلت له: أراد الله المعاصي؟
فقال (عليه السلام): أفيعصى قهراً؟
قال أبو حنيفة: فما رأيت جواباً أفحم منه.
وحق لفقيه مدرسة الرأي والقياس أن يعجب من هذا الجواب المختصر المختزل بكلمتين: (أفيعصى قهراً؟) أي: هل يعقل أنَّ الله سبحانه وتعالى يجبر عباده على معصيته، فيعصونه بالقهر؟ (10) .

نشرت في العدد 59


1ـ سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) 2: 263.
2ـ الإرشاد / المفيد 2: 161.
3ـ م. ن.
4ـ موسوعة المصطفى والعترة/حسين الشاكري ج8 ص98.
5ـ الإرشاد / المفيد 2:160.
6ـ البصائر للصفار /حلية الأولياء لأبي نعيم.
7ـ حياة الإمام محمد الباقر (عليه السلام)/ الشيخ باقر القرشي.
8ـ الاحتجاج / الطبرسي 2: 321.
9ـ الاحتجاج / الطبرسي 2: 328 – 330.
10ـ سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) 2: 263 – 264.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.