Take a fresh look at your lifestyle.

مزايا وخصائص بيت الله الحرام

0 658

قال تعالى:

            (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)( آل عمران: 97)

           في الآية الأولى قد يكون بياناً لأهمية بيت الله الحرام؛ لتكون مقدمة لتشريع الحج؛ وجعله فريضة على الناس، وهذا البيان لا يمنع من أن تكون الآية نزلت لجواب شبهة أثارها اليهود على النبي (صلى الله عليه وآله) حين حول القبلة من بيت المقدس إلى الحرم المكي، وخلاصة شبهتهم: كيف يمكن أن تكون الكعبة هي القبلة مع أن الله جعل البيت المقدس قبله، فهل نسخ حكم ملة إبراهيم (عليه السلام) الحقة، والنسخ في ذلك لا يجوز؟ فجاء الجواب واضحاً جلياً وهو: أن إبراهيم (عليه السلام) هو الذي رفع بناء الكعبة على قواعدها وطهر البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود، ونادى بالناس بالحج، وأما بيت المقدس فقد بناه سليمان (عليه السلام) الذي بُعث بعد مدة طويلة من بعثة إبراهيم (عليه السلام)، إذن لا إشكال من أن تكون الكعبة هي القبلة؛ لأنها هي أول بيت وضع للناس؛ ليعبدوا الله تعالى فيه .

أما أولية بناء البيت، وأنه أول بيت بُني للناس فإنما يعني أول بيت للعبادة على هذا المستوى العالمي الشامل لجميع المؤمنين بالله، ولعل القرآن الكريم يشير إلى أن إبراهيم (عليه السلام) أعاد البناء وجدّده بعد أن هُدم، وبقيت قواعده وأسسه مدفونة، وبذلك نفهم (أن البيت الحرام كان موجوداً قبل إبراهيم وكان قائماً منذ زمن آدم)(1).

          ودليل ذلك قوله تعالى عن لسان إبراهيم (عليه السلام):

(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)(ابراهيم:37)، وهذا كان عند مجيء إبراهيم وزوجته وابنه إسماعيل وهو طفل رضيع، كل هذا وقع قبل رفع القواعد، وبناء البيت، وتهيئته للعبادة.. وتمضي الأيام، ويفجر الله الماء برجل إسماعيل الرضيع، ويتكون مجتمع صغير على هذا الماء، وتتهيأ الظروف؛ ليجدد إبراهيم (عليه السلام) البيت كما في قوله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:127).

فإبراهيم وإسماعيل قد رفعا قواعد البيت التي كانت موجودة، ففي الخطبة القاصعة لأمير المؤمنين (عليه السلام) تأكيد لذلك، يقول (عليه السلام): ((أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَه اخْتَبَرَ الأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ (صلى الله عليه وآله) إِلَى الآخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ بِأَحْجَارٍ لَا تَضُرُّ ولَا تَنْفَعُ ولَا تُبْصِرُ ولَا تَسْمَعُ، فَجَعَلَهَا بَيْتَه الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَه لِلنَّاسِ قِيَاماً …. ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ (عليه السلام) ووَلَدَه أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَه، فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ وغَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ))(2).

فـ (القرائن القرآنية والروائية تؤيد أن الكعبة بنيت أولاً بيد آدم، ثم انهدمت في طوفان نوح، ثم أعيد بناؤها على يد إبراهيم وإسماعيل)(3).

   لماذا سميت مكة (بكة)؟

سميت بكة لأن (أصل بكة البك، وهو الزحم، يقال: بكه يبكه بكاً إذا زحمه، وتباك الناس إذا ازدحموا، فبكة مزدحم الناس للطواف، وهو ما حول الكعبة من داخل المسجد الحرام، وقيل سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم، ولم يمهلوا، والبك دق العنق، وأما مكة فيجوز أن يكون اشتقاقها كاشتقاق بكة، وإبدال الميم من الباء)(4).

كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): ((إنما سميت مكة بكة لأن الناس يبكون فيها)) أي يزدحمون.

وعن الإمام الباقر (عليه السلام): ((إنما سميت مكة بكة لأنه يبك بها الرجال والنساء والمرأة تصلي بين يديك وعن يمينك وعن يسارك وعن شمالك ومعك، ولا بأس بذلك إنما يكره في سائر البلدان))(5).

   مزايا وخصائص البيت الحرام:

لقد ورد في الكتاب الكريم والأحاديث الشريفة مزايا وخصائص بيت الله تعالى، نذكر منها:

   1- هو أول بيت وضعه الله تعالى لعبادته على وجه الأرض على هذا المستوى من الشمول لكل الناس بلا استثناء، وهذه الأولية تكسبه قيمة اعتبارية كبرى، ولذا لا يمكن لبيت عبادي يداني منزلة وعظمة هذا البيت المبارك، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ...) سأله رجل: أهو أول بيت؟ فقال: (قد كان قبله بيوت، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركاً فيه الهدى والرحمة والبركة).

 

   2- (مُبَارَكًا)، أصل البركة الثبوت من قولهم برك بروكاً أو بركاً إذا ثبت على حاله، فالبركة ثبوت الخير بنموه(6)… وعلى كل حال فبركة البيت الحرام لا تحد بحدود الزمان والمكان وإنما بركته ببركة واضعه تعالى للناس، فهناك البركات المعنوية كحالة التوجه الجمعي إلى الله من مختلف أبناء آدم على مختلف ألوانهم وألسنتهم، وبركة لقائهم وتعارفهم،وتفاعلهم الروحــــي والفكري، وتبادلهم الآراء وتلاقح الأفكار والرؤى، وما يتمخض من ذلك من تعاطف وتجاذب وتعارف، وما تفرزه كل هذه الحالات من روح الأخوة الإنسانية، وتجاوز كل فوارق الجنس والعرق واللون، وانصهارهم في بوتقة الإسلام.

وأما البركات المادية؛ فقد أحيا الله تعالى بهذا البيت المعظم تلك الأراضي القاحلة والجبال الصماء الخالية من كل معالم الحياة وجعل أفئدة الناس تهوي إليه، ورزقهم من الثمرات حتى أصبح هذا البلد مركزاً عالمياً وأكثر المدن عمراناً وحركة مؤهلاً بالسكان لم يخلُ ولو ليوم واحد، وتلك هي المنافع المادية التي جاءت في قوله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)( الحج: 27-28).

وقوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ( الحج: 32-33).

 3- (هُدًى لِلْعَالَمِينَ)؛ فهو مركز الهداية العالمي لجميع أبناء البشرية بما حباه الله من جاذبية تشد القلوب لهذا البيت المعظم، وتوجهها إليه بعبادة الله تعالى بكل أبعادها، وما تستبطن من مفاهيم روحية وفكرية، وما يتم به من تبادل الرؤى والأفكار وانفتاح البعض على البعض الآخر، وما يحصل بين المسلمين من تعاطف ولائي حتى تتكون الأمة الخيرة والجماعة الصالحة، وخلاصة الكلام: البيت الحرام هو منطلق الهداية الربانية والتوجه الإيماني الخالص من كل شوائب الشرك والكفر والنفاق.

4-فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ): الآية هي العلامة الدالة على الشيء بوجه، وفي البيت الحرام آثار تدل على عظمة تاريخ هذا البيت وما مرَّ به من عصور الأنبياء والمرسلين، ولا سيما إبراهيم الخليل وولده إسماعيل (عليهما السلام) لا تزال باقية ثابتة كبئر زمزم، والصفا، والمروة، والركن والحطيم، والحجر الأسود، وحِجر إسماعيل، ومقام إبراهيم… الذي خصّه الله بالذكر من بين كل الآثار والآيات؛ لأنه المحل الذي كان قد وقف عليه الخليل لبناء الكعبة.

ولا شك أن قاصد البيت حين يشرفه الله بزيارته يستذكر مسيرة الحياة الرسالية على طول خط الأنبياء من آدم إلى خاتم الرسل، وجميع الذين طافوا في هذا البيت فيشعر أنه استمرار لتلك المسيرة الرسالية الطويلة والمستمرة إلى يوم القيامة…

 5- مركز السلام العالمي (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) استجاب الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم متضرعاً إلى الله تعالى أن يجعل هذا البقعة المباركة مركزاً يأمن فيه كل مخلوق بقوله: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا)، فلا يجوز فيه التعدي على أي أحد مهما كان جرمه لقدسية المكان، ولا يجوز أن تنتهك حرمته بأي حال من الأحوال، ولا يجوز لأحد أن يقتص من عدوه فيه مهما كانت مطالبه حقة، بل يتركه إلى أن يخرج خارجه، ولعله (إن الله أراد أن يجعل موقعاً من الأرض منطقة سلام يتخفف الناس فيها من أحقادهم وعداوتهم، ويعيشون في داخلها أعلى درجات الصبر في السيطرة على نوازع النفس الممتلئة بالحقد والعداوة والبغضاء بحيث إن الإنسان يرى قاتل أبيه أو ولده ويقابله وجهاً لوجه فلا يتعرض له)(7).

وهذا الأمان في البيت أمان تشريعي لا أمان تكويني فقد انتهك الظالمون حرمة البيت مرات ومرات منها رميه بالمنجنيق، وحرق ستار الكعبة من قبل الحَجاج أيام حكومة ابن الزبير.

وقد قال الفقهاء: إن من أحدث حدثاً في غير الحرم فالتجأ إلى الحرم ضُيِّقَ عليه في المطعم والمشرب حتى يخرج فيقام عليه الحد، لقوله تعالى: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)(8).

بل حتى الحيوان بكل أشكاله آمن لا يجوز صيده، ولا ذبحه في الحرم، فقد سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن ظبي دخل الحرم قال: لا يؤخذ ولا يمس إن الله تعالى يقول: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)(9).

وسأل سماعة بن مهران الإمام الصادق (عليه السلام)

قال: رجل لي عليه مال، فغاب عني زماناً، فرأيته يطوف حول الكعبة أفأتقاضاه مالي؟

           قال (عليه السلام): لا تسلم عليه، ولا تروعه حتى يخرج من الحرم(10).

وسأل عبد الله بن سنان أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله عز وجل (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) قال: من دخل الحرم مستجيراً فهو آمن من سخط الله عز وجل، وما دخله من الطير والوحش كان آمناً من أن يهاج أو يؤذى حتى يخرج من الحرم(11).

وسئل (عليه السلام) عن طاير أهلي دخل الحرم حياً، فقال: لا يُمس لأن الله يقول: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)(12).

 

نشرت في العدد 59


الهوامش:
1) تفسير الأمثل: 1/333 .
2) نهج البلاغة، الخطبة القاصعة.
3) تفسير الأمثل: 1/334 .
4) مجمع البيان: 2/797 .
5) ينظر: بحار الأنوار: 29/90 .
6) مجمع البيان: 1/397 .
7) من وحي القرآن: 6/167 .
8) المبسوط للشيخ الطوسي: 1/284 ، والسرائر لابن ادريس: 1/644، والعلامة الحلي في تذكرة الفقهاء: 8/441، ومنتهى المطلب: 2/879 .
9) الوافي: 12/104 .
10) الكافي: 4/241 .
11) ذخيرة المعاد للمحقق السبزواري: 1/548 .
12) منتهى المطلب للعلامة الحلي: 2/830 .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.